فرنسا في أرض الإسلام  الإمبراطورية الاستعمارية والأديان في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.

غلاف كتاب فرنسا في أرض الاسلام.gif

بيير فيرميرين

سعيد بوكرامي

يتحدث كتاب بيير فيرميرين الصادر حديثا عن فترة اكتشاف الإسلام من قبل فرنسا الاستعمارية إلى مطلع القرن التاسع عشر، ثم القرن العشرين والتقلبات التي عرفتها عملية حماية المسيحيين في الشرق وعن الواقع السياسي في "المملكة العربية"، ونتائج الحلم اليهودي في فلسطين وتأثيره على إجهاض قيام جمهوريات ديموقراطية في المنطقة والحد من العلمانية، كما يحاول الكتاب التوقف عن إعادة بناء الأديان في شمال أفريقيا وماذا كانت ردود أفعال مجتمعاتهم، خاصة محاولة تمسيح الجزائر وما نتج عن ذلك من طائفية ونعرات قبلية. تكمن أهمية الكتاب في أنه يضع فرنسا خاصة والكولونيالية بصفة عامة أمام إرثها الاستعماري الذي لا يزال يجثم على تاريخها الحاضر.

كما يساعد الكتاب على فهم التعقيدات في العلاقة بين فرنسا والإسلام ويساعد أيضًا على مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل خاصة ما يرتبط بالقضية الدينية، التي كان البعض يعتقد مرونتها وسهولة معالجتها بيد أن الواقع أثبت عكس ذلك، فتحول التدين إلى إرهاب دموي وضع الأنظمة الغربية أمام حقيقة مرعبة.

إذا كان التطرف الإسلامي والإرهاب يقلقان فرنسا وأوروبا منذ العام 1980، فإنّ اندلاع دوامة الإرهاب، التي أدت إلى مجزرة يناير ونوفمبر 2015 في باريس، وبعد ذلك سلسلة الهجومات التي حدثت في 2016 دفعت الدارسين إلى الحفر في جذور هذا التطرف وأسبابه. بعضهم تناول القضية من الجانب السياسي والبعض الآخر ناقشها من الجانب الديني والبعض الآخر من الجانب الاجتماعي والثقافي، لكن مؤلفنا اليوم بيير فيرميرين يتناول الموضوع من الجانب التاريخي بحيث يعترف منذ بداية الكتاب قائلاً: "عندما نستمع إلى المُعلقين والمسؤولين السياسيين، يظن المرء أن فرنسا لم تعرف وتقترب وتعايش الإسلام أبدًا. في حين كانت فرنسا "الإمبراطورية الاستعمارية" "مختبرا" هائلا، لمعرفة الكثير من الحقائق عن الإسلام والمجتمعات الإسلامية. هل فوتت فرنسا فرصة فهم الإسلام ؟" ثم يضيف مؤكدا: "لقد كان أمامها ما يقرب من قرن ونصف، لمعالجة القضايا الدينية. والحسم فيها" يطرح الكتاب أسئلة كثيرة من بينها: كيف يمكن خلق طرق للتعايش؟ كيف يمكن تنظيم العلاقة بين الإسلام، والجمعيات الإسلامية والمسيحية واليهودية؟ كان هذا الشاغل اليومي لأجيال من الضباط والمديرين، تحت قيادة السلطات السياسية الفرنسية. لكن هل استفادت الجمهوريات المتعاقبة من هذه الوثائق والأرشيف؟ الكتاب يقدم استعراضاً شاملاً لهذه التجربة الفريدة وأنواع الممارسات التي كانت تنفذ في القلب النابض للإمبراطورية الاستعمارية: الأراضي "العربية" والأراضي "العربية الأمازيغية". ويقدم بيير فيرميرين أستاذ التاريخ في جامعة باريس الأولى والمتخصص في دراسة العالم العربي والعربي الأمازيغي المعاصر، إعادة قراءة الأحداث بدءًا من احتلال الجزائر إلى لحظة ظهور السلفية ويوضح الكاتب أن تعدد السياسات الاستعمارية حول موضوع الدين لم يكن منسجمًا بل خلق جروحاً إثنية عميقة مازالت تداعياتها مستمرة في المناطق القبلية في الجزائر وجبال الريف في المغرب. ومن هذا المنطلق أنجز المؤلف الذي مقاربته تشكل "التاريخ السياسي للاستعمار تجاه التعدد الديني" (ص. 14) الذي لا يمثل جزءًا من تاريخ الاستعمار أو التاريخ الديني القديم. في الواقع، يبين لنا المؤلف أنه رغم الاختلافات العرقية والثقافية بين العرب والأمازيغ والترك، إلا أنّ الدين يوجد في كل مكان، بل يكاد يوحد التناقضات ويرأب التصدعات.

ويمكن أن نعتبر أن هذا البحث يدخل في سياق أعماله السابقة التي تتناول العالم العربي وبذلك يسجل البحث دراسته في قلب الأحداث الجارية، كما أنّ تأملاته تحيّن العلاقة بين الماضي وتربط بينها وبين ما يحدث حالياً أمام أعيننا. ويكمن رهان هذا الكتاب في الكشف عن كيفية تشكل نمط تفكير المسلمين الذي انقلب رأسًا على عقب خلال قرن ونصف: إذا كان الإسلام محلياً وأبوياً، فقد أصبح معولماً وموحدًا. وهكذا يصف عمل بيير فيرميرين تطور الإسلام الذي تم امتصاصه تدريجياً "في دوامة السلفية التي تحمل النظرة المبسطة" (ص 406). ويشير المؤلف أيضاً إلى سياسة فقدان الذاكرة التي عرفتها فرنسا بعد عام 1962، ونتيجة استضافتها لمواطني المستعمرات السابقة ومطالبتهم بضرورة الاندماج "كما لو كان الإسلام حقيبة صغيرة وليس حضارة "(ص 402). في القيام بذلك، فهو يضع تحت المساءلة تصورنا للأسباب الجذرية التي تؤدي إلى تحوّل المجتمع. في الواقع، يذكرنا فيرميرين أنّ هذه الأخيرة لا تقتصر على الظواهر الاقتصادية والاجتماعية أو السياسية، بل تشمل الدين، وخصوصا عندما نتحدث عن العالم الإسلامي. يبين الكاتب من خلال فصول كتابه أنه حتى وإن كان الفرنسيون يزعمون اليوم اكتشاف الإسلام، ففي الواقع، فرنسا الاستعمارية تعاملت وقاتلت وأطرت لمدة قرن ونصف القرن الدين الإسلامي، انطلاقا من حملة نابليون الأولى على مصر الذي دشن عهدًا جديدًا في علاقة الغرب بالشرق بحيث كان بونابرت يخطط بأن يجعل فرنسا سيدة الشرق الأوسط لكن في المُقابل أظهر للمسلمين أنه صديق للخلافة وحامٍ للإسلام، الأمر الذي قد يؤثر في نفوس المسلمين حول العالم.

ثم يسمح لنا فصل "الجزائر والغزو" بدحض - استمرارية أعمال كلود برودوم المبنية على فكرة أن البعثات المسيحية والاستعمارية هما "الجانبان الظاهران من الحكم الاستعماري الأوروبي" (ص 47). إن حالة الجزائر تظهر بشكل خاص العكس من ذلك، فالجيش ما بين 1830-1870 كان يستبعد ممثلي الكاثوليكية بعيدًا. وبالإضافة إلى ذلك، فالكتاب يسلط الضوء على تأثير سانت سيمون "هنري سان سيمون"، خاصة في مصر حيث أتباع هذه الطائفة، الذين كانوا على سبيل المثال، سبباً مباشراً في بناء قناة السويس. كما لعبوا دورا مهما في الجزائر منذ وصولهم في عام 1869. كان سان-سيمون المستشار الشخصي لنابليون الثالث في الجزائر، وهو من شجعه على ممارسة سياسة التعريب. وعلى نطاق أوسع، يخصص الفصل السابع وبكيفية موسعة لمسألة "سياسة المملكة العربية" التي أنشأها نابليون الثالث، وكذلك حول مسألة الطائفية الدينية. ويحدد المؤلف دور "المكاتب العربية"، التي أعاد تنظيمها بيغو في عام 1841، وتظهر أنه في المرحلة الأولى كانت السياسة الاستعمارية مترددة: ويتمثل في الأخذ والرد بين النظام العسكري وسياسة الاستيعاب، التي دافع عنها المستوطنون. ففي الوقت الذي كانت الهزائم تتهاطل على المُسلمين وتقهقر مقاومتهم تدريجياً وجدوا ملجأ في الالتفاف حول الرموز السياسية والدينية والحرص على المحافظة على وحدتهم الترابية والدينية. يبرز الكتاب أيضًا دور الكنيسة الكاثوليكية التي غالباً ما يتم التقليل من شأنها أو يساء فهمها. وهكذا يقدم في الفصل الثامن الطريقة التي ساهم بها المبشرون الكاثوليك في تعزيز الفرانكوفونية في مصر ولبنان. ولكن المؤلف يشير إلى التناقض في معاملة الجمهورية الفرنسية التي ترفض الكاثوليكية على أراضيها، لكنها تدعم توسعها في شمال أفريقيا وبلاد الشام ومصر. ثم يقدم الكاتب في الفصل التاسع، وجهة نظر بنيامين ستورا، من خلال عودته إلى تاريخ وتفاصيل مرسوم كريميو الذي -يصف يهود الجزائر كمساهمين أساسيين على الرغم منهم في تطور لم يطالبوا به. كما يكتشف القارئ دور الماسونية من خلال وصف لشخصية أدولف كريميو أو يوجين إيتين، وتأثير الماسونية في تونس الباشوية، التي وضعت تحت الحماية في عام 1881، حيث زرعت الخلايا المختلطة خاصة في الإمبراطورية العثمانية. بالإضافة إلى ذلك، يكشف فيرميرين في الفصل المعنون "الإسلام الرسمي في الجزائر في أواخر القرن التاسع عشر" عن تطور فهم السلطات الفرنسية لبنية الإسلام. ويقدم مثالا عن الجزائر، إذ دفع منطق "السيطرة" النظام الاستعماري إلى مؤسسة الإسلام، الذي فقد حينئذ استقلاله المالي. في الواقع، منذ عام 1851، أدى اكتشاف دور الطرق الصوفية في الإسلام إلى التلاعب من طرف الجيش وإدارة المزارات وزعماء القبائل الذين استخدموا كمتعاونين لمواجهة الاضطرابات والتمردات، كما يوضح الفصل الرابع عشر، كما الإسلام أصبح أكثر من أي وقت مضى المرجعية الأساسية للهوية، كما لوحظ ذلك من خلال القضية القبائلية في الجزائر.

يستعين الكاتب بأبحاث جيلبر مينيي في كتابه "الجزائر المنكشفة")عن الحرب الجزائرية ما بين 1914 و1918 (. الذي يعتبر أن مفتاح التمرد الجزائري جاء من صحوة المسلمين الموجودين في فرنسا في مصانعها وعلى جبهات حربها العالمية. في حين ولغاية تلك اللحظة، كانت الصوفية تساعدهم على الصمود وحماية هويتهم. كما يُفسر ذلك فيرمرن: هناك تناقض هنا بين الخطاب الوطني في القرن العشرين الذي يتحدث عن ضياع الشخصية في الجزائر ومواقف العلماء السلفيين الذين يتهمون الزوايا بالمعصية والإذعان.(ص 221-222).

وهكذا بدأ تحول تدريجي يتنامى، يحاول المؤلف تسليط الضوء عليه في الفصل الخامس عشر المكرس لميلاد السلفية مع الأفغاني ومحمد عبده أو ما سمي بـ "تجديد" الإسلام السني والالتزام بمسار لتسييس الإسلام وبذلك تم ابتكار: السلفية. كما يتطرق الفصل إلى الدور الذي لعبه رشيد رضا: مؤسس المجلة الدولية المنار. هذا الأخير قدم رؤية صارمة داخل أسس هذا المذهب الجديد. في الوقت ذاته كانت السلفية تغرس جذورها في الجامعات الإسلامية في الفترة ما بين الحربين، لم ينتبه إلى مدها وإمكاناتها إلا عدد قليل من المُثقفين - بمن فيهم بعض الكاثوليكيين – كانت السلفية في البداية، تتصاعد ضد الإسلام المؤسساتي وضد الصوفية. هذا من جهة أما من جهة أخرى، فيخصص المؤلف فصله السابع عشر للحديث عن سياسة الجمهورية الثالثة، التي يُمثلها الماريشال ليوطي في المغرب، ويبين المؤلف أن السلفية انتشرت ببطء في المناطق القبلية الشاسعة، التي لا يمكن التحكم بها كليًا. ونتيجة للظهير البربري لعام 1914 والذي أعيد تنشيطه في 1930 أخذ الإسلام القبلي والشعبي المقاوم للاستعمار بالانسحاب ليأخذ الإسلام السلفي الجهادي مشعل المقاومة. أما في الفصل العشرين، فيركز المؤلف على السياسة الطائفية للجمهورية في بلاد الشام والتي أدت بلبنان إلى دولة بينما في سوريا "التقسيم أسفر عن نشوء القومية العربية" (ص 327). وأخيرًا، وصف المؤلف الطريقة التي ساعدت على المصالحة في ما بعد عام 1908، بين القوميين والإصلاحيين، ثم يضيف أن "مثل شكيب أرسلان أو مفتي القدس أمين الحسيني، وكثير من القوميين العرب، الذين أعماهم عداؤهم للفرنسيين-والإنجليز، فانحازوا إلى جانب ألمانيا النازية خلال الحرب "(ص 328). ثم، في الفصول الأخيرة، يناقش بيير فيرميرين تداعيات سقوط الخلافة. مبرزا أنه خلافاً للاعتقاد الشائع، يثبت بالوقائع أن الخلافة والأمة لم يتوحدا أبدًا.

كما يوضح الكاتب كيفية استخدام الاستعمار لعلماء الدين، ولكنه لم يدرك في الثلاثينيات، أن نفوذهم قد ضعف وفقدوا بذلك مصداقيتهم لصالح الحركات السلفية. كما يعرج المؤلف على ذكر ظروف ونتائج ما وقع في عام 1930، أثناء المؤتمر الأفخارستي بقرطاج ) نسبة إلى افخارستيا وقد انتظم أول مؤتمر أفخارستي في مدينة ليل الفرنسية في أغسطس 1881، بمبادرة من لويس غاستون دي سيغور(. هذا المؤتمر الذي اعتبره القوميون عملاً دعائياً يحفز الدعوات العرقية في شمال أفريقيا التي تتغذى على الأخطاء وتجاوزات الكنيسة الكاثوليكية.

وهكذا تميز القرن العشرون بظهور إسلام الجماعة وخلال ثلاثين عاماً ظلت السلفية بإمكانياتها الثورية مستخفاً بها طويلاً من طرف السلطات الاستعمارية وبالتالي تمكنت من الاستقواء وواصلت " غزو القلوب والعقول" ص 381. ومن بين الأمور الأخرى ظهر الإخوان المسلمون في مصر في 1928. وبذلك حتى وإن تواصل وجود الجمعيات الدينية والزوايا فإن الإسلام الذي عرفته فرنسا لم يعد موجودًا. وكما تمنى فيرميرين فإن قراءة هذا الكتاب تسمح إذن بتبديد الخطأ الشائع والمكرس منذ زمن أن فرنسا تعرف الإسلام الجديد وتحتضنه بسخاء لأنها تفهمه وتتفهمه وتستوعبه واعتادت عليه من خلال ما يطلقون عليه بالإسلام الفرنسي. لكن الوقائع الدموية وتنامي التطرف الديني كشف الجانب الخفي من جبل الجليد، هناك صراع حقيقي بين الماضي والحاضر وبين الديني والعلماني وبين فكر ظلامي وفكر مشرق. هذا الصراع المعجون بتاريخ البحر الأبيض المتوسط والهجرات والصراعات يخفي حقيقة مرعبة تسيئ للقيم الإنسانية والدينية على حد السواء وتهدد حاضر ومستقبل أوروبا وعلاقاتها بالشعوب الإسلامية.

بيير فيرميرين أستاذ مبرز في التاريخ، متخصص في تاريخ العالم العربي المعاصر (عاش ثماني سنوات في مصر وتونس والمغرب) يدرس حالياً في جامعة باريس 1 بانتيون التابعة للسوربون. له مؤلفات عديدة نشرت في مختلف البلدان ولدى مختلف الناشرين، بما في ذلك دار لاديكوفيرت وفيارد. يكتب بشكل خاص عن تاريخ المغرب المعاصر وتاريخ المنطقة المغاربية

------------------------------------------------

المؤلف: بيير فيرميرين

الكتاب: فرنسا في أرض الإسلام. الإمبراطورية الاستعمارية والأديان في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.

اللغة: الفرنسية

الناشر: سلسلة التاريخ. دار بيلان باريس فرنسا

تاريخ النشر: 2016

الصفحات: 430

 

 

أخبار ذات صلة