التَّحدي الصيني: تشكيل خيارات القوة الصاعدة

26530382.jpg

فينان نبيل

قال نابليون منذ قرنين "اتركوا الصين نائمة، إنها إذا استيقظت ستهز العالم"، منذ آلاف السنين كانت الصين إمبراطورية كبرى، تعرضت لهزيمة من الإمبراطورية اليابانية في الحرب العالمية الأولى سنة 1895، ثم انتصرت الصين كجزء من انتصار الحلفاء في حرب الباسفيك(المحيط الهادئ)1945، وأصبحت الصين عضوًا في مجلس الأمن الدولي .وبعد انتهاء الحرب الأهلية الدموية في البر الرئيس(المينلاند)، أعلن ماو تسي تونغ (   (Mao Zedongتأسيس الصين الشعبية في غرة أكتوبر 1949وكانت الصين لا تزال فقيرة هشة، وتبنى "ماوتسي" مشروع القفزة الكبرى للأمام" للنهوض بالصين اقتصاديا، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي بدت الصين واقفة بصمود بين القوة العظمى. وتحولت في القرن الحادي والعشرين تحولاً كبيراً يشكل تحديا كبيرا للدبلوماسية الأمريكية.

من خلال دراسة مختلف عناصر القوة الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية، يصل الكاتب إلى أنَّ الصين تُمثل بالفعل قوة صاعدة، لكن على عكس صعود ألمانيا واليابان في القرنين التاسع عشر والعشرين، والذي ارتبط بالعديد من الصراعات. ولكنها مازالت بعيدة عن اللحاق بالولايات المتحدة في عدة مجالات، فمازالت الأخيرة متفوقة عسكريًا. كذلك في الناحية الاقتصادية لازال نصيب الفرد من الدخل القومي في الصين خُمس نصيب الفرد في الولايات المتحدة الأمريكية، كما أنّ جزءا كبيرا من استثمارات الصين يتحكم فيه المستثمرون الأجانب، ولا يزال الدولار هو اختيار الفاعلين الدوليين في الادخار والاحتياطي بما فيهم الحكومة الصينية.

 

 يذكر الكاتب ما يذهب إليه بعض المحللين إلى أن الصين أصبحت قاب قوسين أو أدنى أن تكون ندًا للولايات المتحدة، مدرجًا ما ذكره أحد المعلقين السياسيين أن كلينتون في أحد المؤتمرات 1990 صرح "أن الصين أصبحت الآن من القوة بما يدفع الولايات المتحدة الأمريكية لكي لا تتمادى في تحديها عسكريًا، فالصين الآن تخطو خطى سريعة في بناء الجيش"، إضافة إلى تشتت القوة الأمريكية حول العالم بعد الهجوم الإرهابي في 11 سبتمبر 2001.

يرى الكاتب أنَّ الأزمة المالية الدولية أدت بالفعل إلى تصاعد قوة الصين بشكل سريع، وأنها تجاوزت العاصفة بشكل أسرع من غيرها من النظم الاقتصادية العريقة، وحققت نمواً وصل إلى 9% في عام 2009، بينما تأثرت الولايات المتحدة بشدة وحققت هبوطًا أسرع مما كان متوقعًا لها، خاصة وأنها خاضت حربين من الحروب الطويلة تمثلتا -من وجهة نظر المراقبين الدوليين- في نمط "التوسع الإمبريالي الأمريكي"، ويعتبر المحللون القوة الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة "القوة الناعمة".

ويعدد كريستنسن بعض التغيرات التي طرأت على النظام الدولي، والتي تدفع الصين لتجنب صراع عسكري أو اقتصادي مع الولايات المتحدة وحلفائها، منها زيادة الاعتماد الاقتصادي المتبادل على نحو غير مسبوق، وغياب التعددية القطبية، ونظام الأحلاف الذي لعب دورًا مهمًا في تقويض الأمن الأوروبي والآسيوي قبل عام 1945. ويشير إلى أنَّ منطقة شرق آسيا غير مقسمة بين أحلاف متنافسة، حيث إنّ معظم الدول المهمة في المنطقة، عدا الصين وروسيا، إما حليف رسمي للولايات المتحدة، أو شريك أمني لها، بينما تفتقر الصين إلى حليف إستراتيجي مهم في تلك المنطقة. يضاف إلى ما سبق الدور الذي تلعبه الأسلحة النووية لتجنب تصعيد أي توتر أو صراع قد ينشب.

يرفض كريستينسين الرأي القائم على أن الصين ستسعى مع زيادة قوتها إلى تغيير القواعد الحاكمة للنظام الدولي، التي تم وضعها من قبل الولايات المتحدة. ويبرر ذلك بما حققته الصين من استفادة من النظام القائم، لذا لن تسعى لتغييره، وأن قيامها بإنشاء مؤسسات، كالبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، الذي تغيب الولايات المتحدة عن عضويته، لا يعد بديلاً عن المؤسسات القائمة، ولكن إضافة لها. ويُدلل على ذلك بما أعلنه الرئيس (هو جي ناتو) في زيارته لواشنطن أن الصين لا تسعى إلى إزاحة نفوذ الولايات المتحدة من شرق آسيا أو أن تحل محلها كقوة عظمى، ولكنها تدافع عن سيادتها وتسعى لمواجهة التحديات الإقليمية والمحلية، مؤكدا أن استقرار المنطقة ضروري للصين. وفي نظر المتشائمين من المحللين خارج الصين أن هذه التصريحات مهدئة لتلطيف الأجواء بين البلدين، وجاءت أيضاً تصريحاته "تكهنا إيجابياً" لبعض المحللين الذين يرون أن الصين قد تتعاون بفاعلية على المستوى الدولي وفي محيطها الإقليمي .

صعود الصين في رأيه يفرض على الولايات المتحدة الأمريكية تحديين كبيرين: يتمثل التحدي الأول في: قدرة الصين على تهديد المصالح الأمنية الأمريكية في شرق آسيا، وزعزعة الاستقرار هناك. فمن ناحية، أصبحت الصين، مع تطور قدرتها العسكرية، قادرة على تهديد الأصول العسكرية الأمريكية القريبة منها. لذلك، صاغت وزارة الدفاع الصينية مفهوماً جديداً، هو "منع الدخول/ المناطق المحظورة"، يقوم على فكرة سعي الصين لمنع وصول القوة العسكرية الأمريكية للمياه والمجال الجوي القريب من سواحل الصين. لكن الكاتب يرى أن هذا المفهوم يحمل الكثير من المبالغات. من ناحية أخرى، هناك خطر زعزعة الاستقرار في المنطقة نتيجة تصعيد أي من النزاعات الإقليمية العديدة في بحر الصين الجنوبي بين الصين والعديد من دول الجوار، في ظل التفوق العسكري الصيني، مقارنة بها.

أما التحدي الآخر، فيتمثل في كيفية إقناع دولة مثل الصين، لديها تحديات داخلية ضخمة، ونزعة قومية حادة، بالاشتراك مع المجتمع الدولي للتعامل مع المشكلات العالمية. ويرى الكاتب ضرورة مشاركة الصين في الحوكمة العالمية، بحسبانها تمثل الدولة النامية الأكثر تأثيرا في التاريخ. فإذا قامت الصين بعرقلة الجهود الدولية للتعامل مع المشكلات العالمية كالانتشار النووي، وتغير المناخ، ومشكلات الاقتصاد العالمي، والصراعات الأهلية، فستتداعى هذه الجهود. وحتى إذا اكتفت بعدم التعاون، والاعتماد على جهود الآخرين، فسيتأزم التعامل مع هذه المشكلات، بل ستنمو لتصبح أكثر تعقيدًا.

السياسة الأمريكية وتحديات الصعود الصيني:

يفرد كريستينسين الجزء الثاني من كتابه ليتعقب جوانب نجاح وتعثر السياسة الأمريكية في تعاملها مع التحديات التي يفرضها الصعود الصيني منذ نهاية الحرب الباردة، وإلى أيّ مدى استطاعت السياسة الأمريكية التأثير في تشكيل خيارات السياسة الصينية، وذلك على النحو الآتي:

أولا- التعامل مع التحديات الأمنية في شرق آسيا: يرى الكاتب أن قدرة الولايات المتحدة على تجنب صراع محتمل مع الصين تتطلب وجودا أمريكياً قوياً في شرق آسيا، مما يردع أي عدوان صيني عسكري محتمل ضد تايوان، أو أي من دول الجوار، على خلفية النزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، لكن لابد من موازنة هذا الوجود بتأكيد الولايات المتحدة أنها لا تستهدف احتواء الصين، أو عرقلة صعودها، أو زعزعة استقرارها الداخلي. وقد قدم الكاتب أمثلة عديدة على نجاح وفشل الإدارات الأمريكية في تحقيق ذلك.

بالرغم من بعض الإخفاقات في البداية فإن إدارة كلينتون في النصف الثاني من التسعينيات قد نجحت في تقوية الوجود الأمريكي في شرق آسيا، من خلال الإبقاء على قوات أمريكية، وتعزيز تحالفات الولايات المتحدة مع دول المنطقة، بالإضافة إلى طمأنة الصين بأن الولايات المتحدة لا تدعم استقلال تايوان. وقد أسهمت هذه السياسة المتوازنة في دفع الصين إلى تدعيم الدبلوماسية متعددة الأطراف، والتكامل الاقتصادي مع جيرانها كنتيجة لتخوفها من أن يتم تطويقها من قبل الولايات المتحدة، وتجنب إثارة نزاعاتها الإقليمية مع دول الجوار. واستمرت إدارة جورج بوش الابن في تقوية الوجود العسكري والاقتصادي في شرق آسيا، مع اتخاذ العديد من الإجراءات لبناء الثقة مع الصين. تتفق الملامح الأساسية لإستراتيجية إدارة أوباما تجاه آسيا مع السياسة المتوازنة التي يطرحها الكاتب، لكن نتج عن خطاب الإدارة الأمريكية عدة مشكلات، لعل أهمها تبنيها خطاب "التوجه نحو آسيا"، و"العودة مرة أخرى لآسيا"، وهو ما لا يعد دقيقا في الواقع، وأدى إلى تقوية الاعتقاد الصيني بسعي الولايات المتحدة لاحتوائها، ومن ثم أسهم في تبني الصين سياسة أكثر حسمًا وتصعيدا إزاء نزاعاتها الإقليمية مع دول الجوار.

ثانياً- تحدي إشراك الصين في الحوكمة العالمية: في فترة إدارة كلينتون، ركزت السياسة الأمريكية على ثني الصين عن عرقلة الجهود الدولية، أو على الأقل تحييدها. على سبيل المثال، تم التعامل مع الصين بحسبانها مصدراً للانتشار النووي، وليست شريكا في التعامل معه. ولكن مع مطلع القرن الحادي والعشرين، تغيرت السياسة الأمريكية، حيث سعت إدارة بوش الابن إلى الاستفادة من زيادة القوة الصينية بدفعها لاستخدام نفوذها للمشاركة في حل المشكلات العالمية، والحديث عن الصين بحسبانها "شريكا مسؤولا". ففي الفترة من 2002 إلى 2008، زاد تعاون الصين في المبادرات متعددة الأطراف كالمباحثات السداسية الخاصة بكوريا الشمالية، وجهود الأمم المتحدة لحفظ السلام في دارفور، وجهود مكافحة القرصنة في خليج عدن. ويشير المؤلف إلى أن استراتيجية أوباما تعد استمرارا للرؤية نفسها بأن الوسيلة الأفضل لتجنب التوترات هي بناء الثقة من خلال التعاون في مشروعات مشتركة ذات طبيعة مُتعددة الأطراف.

يعد الكتاب قراءة  للعلاقات الصينية الأمريكية وهو ضروري لكل مهتم بمستقبل العالم المعولم، ينظر الكثير إلى  صعود الصين باعتباره تهديدا لقيادة الولايات المتحدة في آسيا وما وراءها، بينما يناقش توماس كريستينسن التحديات الحقيقية التي تواجه الصين، ومحاولات أمريكا لثني  الصين عن أن تكون مصدر تهديد على المستوى الإقليمي في شرق آسيا، مع مطالبتها بالتعاون على الصعيد العالمي، وعلى خلفية من المنح الدراسية والخبرة كالعمل كدبلوماسي. عرض المؤلف رؤية عميقة  للقدرات العسكرية والسياسية للصين مع تقييم المستقبل السياسي الصيني وأهدافه الاستراتيجية، موضحًا كيف تنعكس القومية وتهديد الاستقرار الداخلي على قرارات الأحزاب حول الشؤون العالمية والقومية، ويقدم الكتاب عرضاً لنهج استراتيجي متوازن جنبا إلى جنب مع التحليل التاريخي، ويصف كريستنسن كيف يمكن للولايات المتحدة صياغة الخيارات الصينية في العقود المقبلة بحيث تسهم في النظام الدولي بشكل مؤثر .وعلى الرغم من أن الصين لديها مبررات قوية لتجنب صراع لا داعي له، فإن الولايات المتحدة ليس لديها الخبرة الكافية "لإعطاء التقدير للتحدي" في إقناع قوة نامية كبيرة متفردة بكل تحدياتها المحلية الكبيرة، وتاريخها الهش في المهام الوطنية بالمشاركة بفاعلية في المجتمع الدولي. إن الصين هي من الدول النامية الأكثر تأثيرا في تاريخ العالم؛ لذلك يجب مطالبتها ببذل المزيد من الجهد في الوقت الحاضر أكثر من أي جهد بذلته أي دولة نامية في الماضي.

 يؤكد كريستينسين أن الولايات المتحدة، بالتعاون مع حلفائها وشركائها، لديها القدرة على تشكيل خيارات السياسة الصينية. ويمكن إجمال رؤيته لكيفية القيام بذلك في شقين، يتمثل الأول في الوجود العسكري الأمريكي القوي في شرق آسيا. فبدونه، سيتم إدراك التعاون الأمريكي كدليل على الضعف. بينما يتمثل الشق الآخر في تشجيع الصين على المشاركة في حل المشكلات الإقليمية والعالمية، وذلك من خلال إنشاء قنوات سلمية للتعاون بين الدولتين، وقد يساعد على ذلك بناء الثقة في القضايا محل الاهتمام المشترك بين الدولتين في مناطق أخرى خارج شرق آسيا، مؤكدًا أنّ "الدبلوماسية الناجحة تدور أكثر حول إدارة المشاكل، وليس حلها فورًا"، وأنه يجب على الولايات المتحدة أن تجد إستراتيجية تنسجم مع الصين وتقبل وتشجع صعود الصين إلى مكانة بارزة في السياسة الدولية. ويخرج كريستينسين من هذه الرؤية إلى أن التحدي الحقيقي يكمن في تحويل الصين إلى شريك إقليمي يساهم في النظام العالمي بفاعلية.

--------------------------------------------------------------------

الكتاب: التحدي الصيني: تشكيل خيارات القوة الصاعدة

المؤلف: توماس كريستنسين

اللغة: الإنجليزية

الناشر: نورتون، نيويورك -2015

Thomas J. Christensen, the China Challenge: Shaping the Choices of a Rising Power, (New York: W.W. Norton & Company, 2015)

 

 

أخبار ذات صلة