«قصيدة للسهوب الكبرى» البحث عن الحقيقة التركية في الأرض الأوروبية

صورة غلاف قصيدة للسهوب الكبرى2  (1).jpg

فيكتوريا زاريتوفسكايا*

ماذا تعني قراءة التاريخ الرسمي؟ هل ما تتضمنه سجلات البلاط وما تحتويه مكتبات المعاهد الحكومية هو التاريخ بصورته الواقعية أم أنّه وجهة نظر مبتسرة تخدم التوجه السياسي لبلد ما؟ هل ثمة بون بين التاريخ الحقيقي والتاريخ الرسمي؟ وإن كان البون حاصلاً فما مقداره وما درجة تأثيره على الواقع وعلى تسيير وتغيير مجريات الحياة الأرضية؟

أسئلة متواردة ومتوالدة تكشف عن طبيعة التاريخ ومسألة وثوقيته التي طالما أرَّقت المؤرخين وعبثت بأفكار الفلاسفة والمُثقفين. وحين تحتل هذه المسألة بؤرة الاهتمام عند باحث ما، ويتولد لديه شك عميق بالتاريخ الرسمي، ثم لا يتوانى أن يعد عدته ويشحذ همته لكشف المستور أو دحض المتداول به، سنجد أنَّ مهمته غاية في الصعوبة وسيكون بحثه رديف المُغامرة.

   هذا ما أقدم عليه الباحث الروسي مراد آدجي في كتابه الأخير "قصيدة للسهوب الكبرى". أما المسألة التي تصدى لها فتتمحور في النبش عن التاريخ التركي الضائع أو - بعبارة أدق - المُضيّع والمطمور في سهوب تغطي أرجاء شاسعة من المعمورة. وإن أضفنا حقيقة أن الكاتب ينتمي إلى قومية الكوميك، وهي من الأقوام التركية المنتشرة في منطقة القوقاز، فسنُدرك أي هاجس غيري (من الغيرة) يراود الباحث في سبيل إتمام بحثه وبيان حجته.   

   ومع ما يمكن أن يعتبر مثلبة على الباحث كونه طرفا عضويا ومرجعيا للموضوع قيد الدراسة، إلا أن تتبع المساق العلمي في الكتاب والإحاطة بالقرائن التي يسوقها، إضافة إلى السيرة العلمية للمؤلف، فهو امرؤ مثقف، أكمل دراساته العليا في جامعة موسكو - أهم صرح علمي في روسيا - وجادل في أبحاث علمية وأوراق عمل كثيرة عن الشجرة التركية وأفرعها الطويلة وجذورها المتغلغلة في التاريخ والجغرافيا، كل ذلك يجعلنا أمام رؤية جديدة وقراءة جريئة للتاريخ، تستحق التوقف حيالها وتأملها بنظرة جادة، وذلك مع كل ما قد يرافق القراءة من تساؤلات مشروعة عن مدى جاهزية الباحث (أي باحث) حين يتصدى لترسانة التاريخ الرسمي.  

   يبني المؤلف تصورًا جديدًا للأثر التركي في التاريخ الأوروبي، متضمنًا قراءة للتاريخ ومراحل التطور الحضاري مغايرة عن القراءة الرسمية التي يعتبرها مموهة بالمصالح السياسية ومحّرفة بالتجاذبات الدينية. يرى أنّ الأثر التركي في القارة الأوروبية (خاصة) قد أصابه الكثير من الحيف والتعتيم المتعمد، ثم لا يني بعدها يسجل ملاحظاته حول تعامي العِلم الأكاديمي الرسمي، سواء في روسيا أو في أوروبا عامة، عن حقائق دامغة تؤرخ للأثر التركي العميق في الثقافة الأوروبية. وفي مسعاه لكشف المستور، يقدح مراد آجي في التربة الثقافية والمادية والروحية لبلدان كجورجيا وأرمينيا وألبانيا وبلغاريا، التي طالما تلعثمت الرواية التاريخية الرسمية في أصل شعوبها، بينما الإشارات تلمع أمام عيوننا، والفلكلور يقولها صريحة، وتشابه الأسماء يؤكدها، والوشائج اللغوية تنطق بها وتقول بأنّ أصل تلك الشعوب تركية... أصلٌ لا لبس فيه.

   يرسم مراد آدجي لوحة مهيبة للأتراك وهم في مهد حضارتهم التي ظهرت، أول ما ظهرت، في منطقة "التاي" بجنوب سيبيريا وذلك في القرن السادس قبل الميلاد، الحضارة التي شهدت فيما بعد امتدادًا إلى آسيا الوسطى والهند والشرق الأوسط وشمال إفريقيا فضلاً عن أوروبا التي استوطن الأتراك في مناطق شاسعة منها. ويرى المؤلف أنّه، وبفضل الهجرات الكبرى، الهابطة من جبال التاي، أخذت في التشكل الخارطة السياسية للقارة الأوروبية، وتحت تأثير ثقافة المهاجرين الأتراك الأوائل، قطع الزمن مرحلة حضارية كونية، انتقل خلالها من طوره القديم إلى مرحلة القرون الوسطى.

   وبدءًا من التشكل الحضاري الأول للأتراك، نجد أن الباحث يمحض القوم مستوى متطورًا من الإدراك الوجودي والعمق الروحي والوعي المادي، فبرأيه لم يتبلور خيار الهجرة لديهم خبط عشواء، وإنما نتيجة لنضج ثقافي وتدبير اقتصادي مكين. وإذ نتتبع فكرة الباحث عن الهجرة الكبرى والنتائج التي ترتبت عليها، نصل إلى لب القضية التاريخية التي أراد أن يفككها في كتابه ألا وهي الإجراءات التي اتخذها الغرب لمجابهة الغرباء والحد من تهديدهم. ومن أخطر الإجراءات الإستراتيجية التي أدت - في نهاية المطاف - إلى طمس الحقيقة التركية في الأرض الأوروبية - القيام بتفتيت الأتراك وتجزئتهم إلى أقوام مختلفة، وذلك عبر إدماجهم ضمن كيانات مجتمعية هجينة ومصطنعة؛ يتبدى مثالها الصارخ في التركيبة المجزأة لشعوب القوقاز ذات الأصول التركية؛ هذا الواقع الذي جرت صياغته على أيدي القياصرة بداية والسوفييت من بعدهم، ودائماً تحت مظلة الفكر الأوروبي وطرقه الإجرائية.

   ثمة أجزاء أخرى من التركة التركية في أوروبا تم القطع بينها وبين أواصرها التركية وهو ما جرى مع البلغار والألبان، حيث تم إغراقها (الأواصر) في لجة النسيان. أما ما تبقى من مهاجري جبال "التاي" فقد أذيبوا في بحر المجتمعات الروسية والمجرية والإسكندنافية، ولو أن شعلتهم الثقافية لم تنطفئ كلية، وظلت كامنة في الأعماق أو طافية على سطح الحياة الشعبية.

   وفيما يتعلق بالأثر التركي على الحياة والثقافة الروسية، يورد الباحث عدة مظاهر منها: المفردات ذات الأصل التركي في اللغة الروسية لا سيما تلك المُتعلقة بأسماء الأزياء؛ ثمة أيضًا ما لا يقل عن ثلاثمئة عائلة روسية نبيلة لعبت دورا في تطوير البلاد تنتمي إلى أصول تركية. وغير روسيا نجد أن الكثير من تسميات البلدان والمناطق الأوروبية تدين إلى جذورها التركية مثل البلقان وبلغاريا وألبانيا والقوقاز وغيرها. كما ينسب المؤلف بعض الألعاب المألوفة في أوروبا كلعبة البولو والرغبي إلى الأتراك، وفي هذه اللعبة الأخيرة كانوا يستخدمون عظم الخروف بدلاً من الكرة. وإلى يومنا الحاضر تندرج هذه الألعاب في بلدان آسيا الوسطى مثل كازخستان وطاجكستان وأوزبكستان ضمن موروثها الشعبي.

   في السياق نفسه يلحظ آدجي شبهًا بين كتابة الأتراك القدماء والكتابة الإسكندنافية المسماة "روتس". كما يورد مثالاً علميا دالاً عن الرحالة والأثري والكاتب النرويجي الشهير ثور هايردال الذي اختار بلاد القوقاز، لا غيرها، لتتبع جذور ثقافته الأم.

   ومع الاستغراق في منهج الكاتب ومنطقه البحثي، تبرز لنا خيوط جديدة واستنتاجات حصيفة في شبكة العلاقات والتقاطعات بين الشعوب. نستدل (مثلا) إلى الخلفية التاريخية التي جعلت من سكان ألبانيا يحملون أوجها مشابهة للقوقازيين، كما تتشابه طرائقهم في الرسم والتطريز التقليدي، ومكونات الطبخ التي يطغى عليها الفلفل والثوم، ونمط بناء البيوت المكونة من طبقتين تحفها الأروقة.

  ينقب آدجي في التاريخ بحضور ذهني وقَّاد، ومن أجل بلوغ الحقيقة والكشف عن أخطاء التاريخ الرسمي وتجاوزاته، نراه يتأمل مليًا الجوانب التي تنافي المنطق وتوقظ الشكوك حولها. فمن دأب العلماء الغربيين (كما يشير في حديثه عن الهجرات الأوروبية القديمة) الاطمئنان للرواية الرسمية القائلة بأنّ الهجرة الكبرى ما هي إلا عدد من التنقلات البينية داخل القارة الأوروبية.. ومكتفين بهذا القدر. وبالنظر إلى هجرة "الهون" (وهي موجة من الهجرة الكبرى، حدثت في سبعينيات القرن الرابع لقبائل الهون الرحّل ((ذات الأصول التركية)) التي هاجرت من وراء نهر الفولغا الروسي لتستقر في أوروبا الشرقية وتؤسس إمبراطورية حملت اسمهم) نجد أنَّ التاريخ الرسمي الأوروبي يمر على هذه الهجرة المفصلية مرور الكرام.

   من جانب آخر يسوق الباحث أحداثاً مريبة تدعم فرضيته في التجاهل المتعمد للأثر التركي في أوروبا، ويدعو القارئ لوضع استنتاجه حول الإجراءات المؤسسية التي ووجه بها التاريخ التركي. من بين تلك الأحداث ما وقع مع المستشرق الروسي والمختص بالدراسات التركية يوسف أربيلي، فقد أتاح له تخصصه، إلى جانب المناصب العليا التي تبوأها (مدير متحف الارميتاج ورئيس أكاديمية العلوم الأرمنية) أتاح له جمع ثلاثمائة نقشاً من آثار القوقاز وأنجز حولها كتابا علميا شاملا، ولكنه وبعد أن أرسل دراسته إلى الطباعة عام 1919، ولسبب غامض، عاد ليشتري كافة النسخ من المطبعة، ما تسبب بحجر الكتاب ومنعه من التداول بين الجمهور.

   ينبه المؤلف إلى الطابع الاحتكاري للمعلومة في عصر النت. وبالنسبة للتاريخ التركي المتناثر في أوروبا يرى أن النت - مثله مثل الواقع الميداني - يخفي الآثار ويدفنها فلا يقدم للباحث سوى متفرقات لا تساعد على تكوين المعرفة اللازمة للتحليل العلمي الوازن والجاد.

   يكرس الباحث جانباً من كتابه لسرد مشاهداته الشخصية في بلاد القوقاز، حيث يتابع ميدانيا ما يؤيد نظرته العلمية، ويسجل ملاحظاته عن الآثار الباقية، مقرنا إياها بفرضيته التاريخية. وأحيانا يعلن أساه على الضياع الذي لحق بجزء كبير من الآثار. ومن بين سردياته الشائقة، التي استخرجها من الحكايات المحلية، تلك التي تتحدث عن تأسيس مدينة "غيليار" (حاليا قرية تقع على الحدود بين داغستان وأذربيجان) الذي تم على أيدي مهاجرين قدِموا من الحجاز بين القرنين التاسع والعاشر، حيث استقروا في هذه الجبال البعيدة وشيدوا بيئتهم التي تشبههم. بيد أن شيئاً من عمارتهم لم يبق، ولم يظل من ذكراهم سوى الحكايات التي تتناقلها الألسن وتتوارثها الأجيال.

  • فيما يخص أسلافه الأتراك، يورد مراد آدجي الكثير من مآثرهم الحضارية، مجيباً بأمثلة من واقع الحياة والتراث على تخرصات الغرب الذي طالما نعتهم بالهمجيين. يقول في هذا الصدد: "كان أجدادنا يعتنون بالأسوار. كل متر من السور فرشوه بالقصب، وكان لهم في ذلك سبب وجيه. الهمجيون المتوحشون أولئك كانوا يفعلون ذلك اتقاء الزلازل وحماية لمدنهم من أضرارها. ففاعلية أعواد القصب (ضمن تقنية البناء القديمة) تماثل ما يسمونه اليوم بالمواد المقاومة للزلازل. ولذلك احتفظت المدن الجبلية القديمة بأسوارها العظيمة وبأبراجها وبيوتها حتى حاضر وقتنا".

   ليس من المستغرب أن يثير كتاب "قصيدة للسهوب الكبرى" أصداء متباينة بين القراء وفي الوسط الأكاديمي. فبرغم سياقه العلمي التاريخي، إلا أن خطه الحماسي الطافي (بدءا من العنوان بنبرته الغنائية) تضعه بين منزلتين: يستحسنه البعض لما يتضمنه من حرارة وفروسية لإحياء الماضي وإعادة الاعتبار له، ويتذمر منه آخرون لما يعدونه أصولية تاريخية ينزع إليها الباحث ويُزاحم بها مضوعية البحث. مع ذلك لا يخفى على القارئ المسلك الديموقراطي الذي اتبعه الباحث في تأليف بحثه الشائك، إذ يسوق حججه ويبني قرائنه، ومن شأن القارئ بعدئذ أن يأخذ بها أو يغفل عنها.

   غير هذا وذاك تشكل قراءة الكتاب فرصة جيدة لإلقاء نظرة على طبقة من الطبقات الثقافية والحضارية في التاريخ الأوروبي، الطبقة التي تخص الأتراك والتي عمل الغربُ على التقليل من شأنها والتقليص من سُمكها. موازاة لذلك، يشير الكتاب - فيما يشير إليه - إلى البؤرة الإشكالية العميقة والمصطنعة للخارطة القومية في بلاد القوقاز، حيث الخارطة الإثنوغرافية الرسمية تحكي عن مائة قومية مختلفة تقطن تلك المنطقة بينما الواقع التاريخي يجمع هذه الأقوام في بوتقة واحدة.

   وإحالة إلى الواقع المُعاصر، يستعيد مراد آدجي الخطاب الغربي المسكون بالهيمنة على الأقوام الأخرى، ويرصد موقف الغرب تجاه الحضارات المختلفة والإجراءات التي يتخذها لضمانة وترسيخ تفوقه المستمر عليها. أما الإجراء الذي يقترحه لمواجهة الظلم الغربي (وهو الإجراء الذي يرشح من صفحات الكتاب الستمائة) فدعوة إلى ترميم الذاكرة عن طريق البحث العلمي والاستنتاج المنطقي والدراسة التحليلية والتجّهز باللغة المختبرية... باختصار على الأمم أن تحيا بطريقة ذكية.

-----------------------------------------------

   أكاديمية ومستعربة روسية *

عنوان الكتاب: قصيدة للسهوب الكبرى

المؤلف: مراد آدجي

الناشر: أ س ت، موسكو 2016

اللغة: الروسية

عدد الصفحات: 601

  

  

     

أخبار ذات صلة