محمد السالمي
استطاع آدم سميث في كتابه ثورة الأمم إبراز مبدأ الأسواق الحرة والذي من خلاله يحقق الازدهار للأفراد والمجتمعات على حد سواء. وكون أن الأسواق الحرة أيضا قد تقنع كثيرا من الناس لشراء أشياء هي ليست جيدة لا بالنسبة لنا ولا للمجتمع، فإنها تقوض مفهوم آدم سميث في سعي الأفراد من المصلحة الذاتية في الأسواق الحرة، إلى مصلحة المجتمع ككل. فكتاب تصيّد الحمقى" Phishing for Phools" وهو من تأليف الحائزين على جائزة نوبل في الاقتصاد جورج أ. أكيرلوف ٢٠٠١ و روبرت شيلر ٢٠١٣، يعد من أفضل الكتب الاقتصادية مبيعاً ورواجاً في سنة ٢٠١٥. لا يستهدف الكتاب ذوي الاختصاص فقط وإنما أيضا العامة. يقدم الكتاب قراءة مسلية وسهلة المنال ومليئة بالحكايات التي تذكرنا بقدرة الأسواق على التلاعب والخداع. والسبب وراء كتابة كلمة Phools بحرفي Ph بدلاً من حرف الـ f هو احترام القارئ على حسب وصف الكاتبين، و Phools هم ضحية التصيّد.
فكلمة التصيد Phishing، وفقا لقاموس أوكسفورد والذي قد صيغ في عام 1996 بعد إنشاء الويب. هي ممارسة احتيالية من خلال إرسال رسائل عبر البريد الإلكتروني والتي تدعي أنها من الشركات ذات السمعة الطيبة من أجل حمل الأفراد على الكشف عن المعلومات الشخصية، مثل كلمات السر وأرقام بطاقات الائتمان وغيرها. فهذا الكتاب يقدم معنى أوسع لكلمة التصيد حيث يؤخذ تعريف المرتبط بالويب على سبيل المجاز فقط. بدلا من النظر إلى التصيد على أنها غير قانونية، يقدم الكتاب تعريف ما هو أكثر من ذلك بكثير ويذهب أبعد من ذلك إلى ما وراء التاريخ؛ فهو يقع في إغراء الناس على فعل الأشياء التي هي في مصلحة المتصيد phisher man. يروج الكاتبان على أن كتابهما يستهدف العامة رغم توقعهما أنه لن يكون ذا شعبية كبيرة وسط الجمهور. ومع ذلك، يؤكدان أن مشروعهما يثبت أن هناك عدة مؤثرات تُسير الجمهور ظنناً أنه الخيار الأمثل للاستهلاك.
المفهوم الأساسي للاقتصاد هو فكرة التوازن أو التكافؤ في العرض والطلب في السوق. للحصول على تفسير بسيط، عند الانتهاء من التسوق في السوبر ماركت والتوجه إلى المحاسب دائما نسعى لاختيار أقصر ممر، ولكن عادة ما نستغرق ما لا يقل عن لحظة لاتخاذ قرار حول المحاسب الذي سنتوجه إليه. وهذا القرار يستلزم بعض الصعوبة لأن جميع الخطوط تقريبا بنفس الطول. يحدث هذا التكافؤ لسبب بسيط وطبيعي أنّ الوافدين للخروج يسعون لاختيار أقصر خط؛ حيث المبدأ الاقتصادي من هذا التفسير هو أن الفائض في العرض والطلب دائماً ما ينتهي لنقطة التكافؤ أو التساوي في نهاية المطاف.
ومبدأ التكافؤ والتوازن الذي نراه في ممرات المحاسبة في السوبر ماركت، ينطبق أيضا في الاقتصاد بشكل أكثر عموماً؛ حيث يسعى رجال الأعمال لاقتناص أفضل الفرص الاستثمارية وهذا يخلق أيضا التوازن. فأي فرص تؤخذ لتحقيق أرباح غير عادية و بسرعة من على الطاولة، يؤدي إلى حالة ارتباك في السوق. وهذا المبدأ، مع مفهوم التوازن يكمن في قلب الاقتصاد. فكثير من الأفراد قد يستغلون نقاط الضعف لدينا، وتوجيهنا للحصول على أرباح مجزية؛ ومن هنا يكمن مفهوم التصيد. ومن خلال هذا المثال فإنّ المؤلفين يؤكدان أنّه عند وجود فرصة لتحصيل أو تعظيم المال (حتى بالخديعة أو التضليل) فسيوجد من يستغل الفرصة! وقد يكون ذلك بإغراء المستهلك لشراء ما يزيد عن حاجته أو عدم إعطائه المعلومات الكافية ليتخذ القرار المناسب. الكتاب يستعرض الفكرة من خلال مناقشة مجموعة أمثلة من عالم الأعمال والنظام المصرفي والسياسة، ويناقش كيف ولماذا، والأهم من ذلك دور الجهات التشريعية في الحفاظ على مصلحة المستهلك (أو المصلحة العامة) وتقييد المسوقين والمنتجين. السوق الحرة يعني أنك لست ملزماً بقبول منتج رديء بسبب عدم وجود بدائل، فالجميع يعرض منتجاته، ولكن لا يعني بالضرورة أن الجميع سيتقيّد بكامل الشفافية لصالح المستهلك.
كما أنّ المؤلفين أكيرلوف وشيلر قاما بتقويض النظرية التقليدية حول تعادل أو توازن السوق بطريقتين:
الأولى: من خلال تقويض فكرة العالم الكبير صمويلسون في "باب التفضيلات":
هناك مفهوم شائع في علم الاقتصاد هو أن الناس يجعلون حياتهم سعيدة فقط من الخيارات التي تزيد من رفاهيتهم "maximizing utilities". هذا الافتراض حتى له اسم يتوهم: "التفضيلات المكشوفة" "revealed preferences": أي أن الناس تكشف ما يجعلها أفضل حالا من خلال خياراتها. مثل هذا المفهوم، بالطبع، هو بالضبط على خلاف مع مفهوم الكاتبين من حيث الفرق بين ما يريده الناس حقاً (ما هو جيد بالنسبة لهم) وما بين الذي يعتقدون أنهم يريدونه.
فبعد الانهيار الاقتصادي ما بين عامي 2008 و2009، ظهرت موجة كبيرة لإعادة النظر في بعض النظريات الاقتصادية كونها قد عفا عليها الزمن أو لم تعط الصورة الخفية في تفسير الظواهر الاقتصادية؛ فالنظريات التفسيرية للاقتصاد الكلي قد واجهت انتقادات مستمرة. كما أن الاقتصاديين والنماذج الاقتصادية أصبحوا غير قادرين على التنبؤ بحدوث وحجم الأزمة والتي أضرت بمصداقية الفكر الاقتصادي السائد بالنسبة للمواطن العادي؛ فكانت النظريات الاقتصادية الجزئية السائدة تنطلق من مبدأ الاعتقاد في عقلانية الإنسان، أي أنّ الإنسان دائماً ما يتوجه للخيار الأمثل للاستهلاك، والتي من شأنها أن البشر يتصرفون دائما لتعظيم الفائدة المكتسبة. وهذا هو المنطلق لنموذج متسق داخليا، ولكنه يفشل في إعطاء صورة ولو جزئية عند تطبيقه في الواقع العملي.
والثانية: عن طريق إدخال "متغير جديد في المعادلة الاقتصادية":
فعلى عكس خبراء الاقتصاد السلوكي قام الكاتبان بطرح عدة افتراضات لتقديم متغيّر جديد في المعادلة التفسيرية للظواهر. حيث قاما بالتعميم لإعطاء صورة للإطارات العقلية حول قرارات الناس. واسم المتغير هو "القصص التي يطرحها الناس لأنفسهم." من خلال هذا الوصف يمكننا أن نرى، تمامًا، كيف يحدث التصيّد لمعظم الناس، هذا التصيد هو وسيلة للحصول على شخص لاتخاذ قرار لصالح المخادع، ولكن ليس لصالح المستهلك؛ كون قراراتنا عادة ما تكون على أساس قصص نطرحها لأنفسنا عن الوضع الذي نعيشه، فنحن لدينا الميل إلى اتخاذ قرارات وفقا لعدة من التحيّزات المعرفية والنفسية التي تجعلنا هدفا سهلا لهذا المتصيد. الكتاب يعطينا توصيفًا شفافا للدوافع التي تتيح لنا أن نفهم كيف يحدث التصيد لمعظم الناس.
ملاحظة: في علم الاقتصاد القياسي، يتم تفسير الظواهر عبر معادلة رياضية تحتوي على عدة متغيرات. ولكل متغيّر درجة من التأثير على أساس الظاهرة الاقتصادية. وعلم الاقتصاد الحديث يعتمد بشكل كبير على هذا العلم. فالكاتبان يطرحان متغيرا يضاف للمعادلة الاقتصادية لتفسير الظواهر واسم المتغير هو "القصص التي يطرحها الناس لأنفسهم."
ولو طرحنا سؤالا لماذا هذا العدد الكبير من الناس الذين يدخنون ويشربون؟ ففي وقت مبكر من أواخر الأربعينيات، كان العلماء يجدون أن هناك علاقة ما بين التدخين وسرطان الرئة، وكون شركات التبغ، المتصيدة phishermen، قامت باتباع استراتيجية محددة تهدف إلى غرس بذور الشك. ولكونها تعرف أنها بإمكانها أن تجد بعض العلماء (وخاصة بين المدخنين) والذين من شأنهم أن يعبروا بقوة عن رأي مفاده أنه لا يوجد رابط 'يثبت' العلاقة بين التدخين والسرطان. وكان نتيجة لجهودهم في التلميح إلى "قصة جديدة مؤثرة في العلاقة بين التدخين والصحة. ولكن تلك القصة فشلت في نهاية المطاف، رغم أن الأمر استغرق عشرات السنين. وحتى الآن، ما يقرب من 18 في المئة من البالغين هم من المدخنين !.
قصة مشابهة في حالة استخدام بطاقة الائتمان. فمعظم المستهلكين يعتقدون أنّ القدرة على استخدام بطاقات الائتمان يجعل الحياة أكثر راحة. ومع ذلك، فشركات بطاقات الائتمان تخدع الناس بشكل روتيني وتدفعهم إلى إنفاق أكثر مما كانوا سيفعلون في أحوال أخرى. وهذا ما يفسر لماذا تستمر المتاجر للسماح للعملاء باستخدام بطاقات الائتمان على الرغم من أنّ شركات بطاقات الائتمان تفرض رسومًا عالية. ومع ذلك، فإن الكتاب لا يناقش هذه النقطة عندما يتم تصيد مستخدمي بطاقات الائتمان. والمسألة ليست دائما في امتلاك معلومات ناقصة، ولكن المشكلة تكمن في عدم وجود ضبط النفس. فحتى لو كان لدى المستهلكين معلومات كاملة عن الصفقة، فإنّهم لا زالوا يشترون أكثر مما يحتاجون له. كما أنّ هناك بعض القصص مثل خداع فولكس واجن في اختبارات التلوث، والحبوب السحرية التي تشجعنا على شراء أكثر من ذلك، وهناك العديد من الطرق التي يمكن للمرء أن يتم تصيده بها. فالكاتبان أكيرلوف وشيلر يعطيان وصفًا تفصيليا للوصول لتوازن السوق الحر باعتباره الوضع الأمثل لتعظيم الرفاه الاقتصادي للجميع.
ميزة الكتاب أنّه بمثابة تذكير للآليات الخداع في اللعب في حياتنا اليومية. ومع ذلك، يشترك أغلب النقاد الاقتصادين في أن الكتاب يواجه بعض السقطات. الأولى هو أن أكيرلوف وشيلر قاما بتغطية مجموعة واسعة جدا من المواضيع ولكن بحشو تاريخي. فالجزء الأول من هذا الكتاب بسيط جدا؛ إذ هو كله مكرس لأزمة الرهن العقاري مع التركيز أكثر تحديدا على دور وكالات التصنيف الائتماني. كما قام أكيرلوف وشيلر في فصل مخصص للتحدث حول السندات غير المرغوبة junk bonds، وأزمة المدخرات والقروض في الولايات المتحدة ما بين عامي 1986-1995؛ وبذلك أصبح الكتاب تاريخيا بدلاً من أن يكون اقتصادياً بحتاً.
والسقطة الثانية في الكتاب هي في تعميم المفاهيم. فالكتاب يصنف البشر، أيا كان صنفهم أو قدراتهم العقلية فيتم تصيّدهم إمّا نفسيا وإعلاميًا. ولكن مع التطوّر التكنولوجي أصبح المستهلك أكثر وعياً؛ لكون الخيّارات التي تطرح على المستهلك يستطيع من خلالها زيادة رفاهيته وتقييم المنتج قبل اختياره. فلو اخذنا مثلاً موقعbooking ، نستطيع من خلال الموقع تقييم الخيارات المطروحة بطريقة جيدة ومتقنة. ومع ذلك، من الصعب القضاء على الشر بشكل كامل كونه ملازما للفطرة الاجتماعية، ولكن نستطيع التعايش معه والتقليل من أثره.
الكتاب مسلٍّ ويقدم حكايات ذات قيمة عالية، ولكن ليس هو الكتاب الذي نستطيع تصنيفه بأنّه لا غنى عنه في المجال الأكاديمي. كما أنّ الكتاب مفيد للتذكير بأنّ الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين هي أكثر من أي وقت مضى وليست لعبة محصلتها صفر.
تفاصيل الكتاب:
عنوان الكتاب: Phishing for Phools
الناشر: Princeton University Press; First Edition edition (September 22, 2015)
اللغة: الإنجليزية.
المؤلفان: George A. Akerlof و Robert J. Shiller
عدد الصفحات: 288 صفحة.
