الفلسفة وجهًا لوجه أمام العنف

Picture1.png

لمارك كريبون وفريديريك فورمس

محمد الشيخ

هذا كتاب كُتب بيدين. فهو أشبه ما يكون بلعبة مصارعة الثيران المسماة بالمصارعة على طريقة الليمون، حيث يصارع أخوان الثور ذاته بدثار واحد. ورغم أنّ الباحثَين الفرنسيين مارك كريبون وفريدريك فورمس وقعا فصول الكتاب فصلاً فصلاً، فإنّ ثمة انسجاماً بين فصوله من حيث الحرص على المزاوجة بين العرض الفلسفي الخالص لمذاهب الفلاسفة الاثني عشر (من سارتر إلى دريدا مروراً بكامي وميرلو-بونتي وكانغليم وكافاييس وسيمون فيل وليفي شتراوس وليفناس ويانكلفيتش وفوكو ودولوز)، من جهة، والمترتبات السياسية على هذه المذاهب، أو قل بلغة الأقدمين "لازم المذهب" السياسي، من جهة أخرى. وما يُميز هؤلاء الفلاسفة هو أن "امتحان السياسة" عندهم إنما تأسس على تفكيرهم الفلسفي العميق لا على "آراء شخصية". وما هو مشترك بينهم هو أن أغلبهم ولد في بداية القرن (سارتر، ميرلو- بونتي، كامي، كانغليم، سيمون فيل، ليفي شتراوس، كافاييس، لوفيناس) أو سنوات 1920-1930 (فوكو، دولوز، ليوتار)، لكنهم أجمعين عاشوا ويلات الحرب العالمية الثانية ـ هذا "الورم في الذاكرة" ـ بجميع حوادثه التراجيدية الجسام، والتي كانت إحدى "المحن" التي دمغت بدمغتها كتابة الفلسفة منذ نهاية الحرب.

يتخذ الكتاب منطلقًا له سنة رمزية هي عام 1943 ـ صدور كتاب "الوجود والعدم" للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905-1980) ـ في قلب الحرب العالمية الثانية التي ألقت بظلالها على كل فلسفة النصف الثاني من القرن العشرين، وبقي ظلها ملقياً بعبئه على قراءات الفلاسفة المعاصرين من يانكلفيتش إلى دريدا. والكتاب عبارة عن محاضرات كان ألقاها الباحثان الفرنسيان في المدرسة العليا للأساتذة بباريس. وكان عنوانها الأصلي الناظم "الفلسفة الفرنسية على محك السياسة" ـ وهي تجربة متعددة مؤلمة جذرية ـ بدءا من قطبيها: سارتر صاحب كتاب "الوجود والعدم" وكل الأسئلة السياسية لعالم ما بعد الحرب، وكامي صاحب اللامعقول والتمرد وكل أشكال رفض العنف والرعب. والذي يراه الباحثان أن هذا التوتر اجتاز القرن العشرين بأكمله حتى فوكو ودريدا ولوفيناس وما بعدهم.

من الناحية المنهجية، نهج الباحثان طريق التأليف الثنائي القاضي بالتوليف بين الفلسفي والسياسي. ومن ثمة قسما العمل، فكان أن تكفل فريدريك فورمس بالأعمال وباللحظات الفلسفية (وقد اهتجست منذ البدء بالأسئلة الأخلاقية والسياسية)، وكان أن استقل مارك كريبون بالحديث عن التجارب السياسية والعنف، مع الأسئلة الفلسفية التي تأثلت عنها. فكأننا أمام المراوحة من الفلسفة إلى السياسة، فالعودة إلى الفلسفة من جديد: من التجربة الفلسفية إلى المحنة السياسية، فالمساءلة الفلسفية عودا على بدء. على أن نظام المحاضرات انقلب بعد الأحداث الإرهابية التي شهدتها فرنسا عام 2015. إذ كان الحديث، من ذي قبل، يبدأ بالأعمال واللحظات الفلسفية وبعض ملزوماتها الأخلاقية والسياسية التي لم تكن مقصودة لذاتها. ثم ما لبث أن صار حديث مارك كريبون عن التجربة السياسية وعن العنف والأسئلة الفلسفية المتولدة عنهما هو المتقدم. وهكذا انقلب نظام المحاضرات: العنف الذي يتفجر أولاً، ثم جواب الفلسفة. وبهذا صار الجواب عن العنف هو الذي يقتضي مدخلا إلى الفلسفة وإشكالاتها وحلولها وكتبها ومؤلفيها ولحظاتها ومساراتها. لكن عند نشر الكتاب، فضل المؤلفان الحفاظ على التقطيع الأول حيث المزاوجة بين فصل يركز على الأعمال واللحظات الفلسفية، يعقبه فصل يركز على المسألة السياسية. وقد حدد مؤلفا الكتاب البغية منه: يمكن أن نقاوم العنف بالفلسفة، وذلك على اعتبار أن الفلسفة، أساسا، وكما حددها الفيلسوف الفرنسي إريك فايل تقوم على خيار الإنسان بين العقل والعنف، وهي تختار العقل على العنف.

في مدخل الكتاب يعرض المؤلفان كل بطريقته إلى فكرة أن لكل طور من أطوار الفكر الفلسفي سياق ينساق فيه. وما كانت الفلسفة الفرنسية، بدءا من عام 1943، بدعا من هذا: فقد كتبت أهم أعمالها إما في المنفى أو السرية أو السجن؛ أي في "محنة السياسة". على أن هذا لا يعني أن الفلسفة سياسة بالأولى، وإنما شأن الفلسفة الفرنسية، في تلك الحقبة، أنها كانت فلسفة في الوجود سؤالها الجوهري: ما الذي يعنيه بالنسبة إلى "الإنسان" أن يكون الإنسان "واقعا" في "الوجود" وفي "التاريخ" وقوعًا مباشرا لا اختيار له في ذلك؟ ومن هنا، ضرورة "سَوْقُ" هذه الأعمال في سياق "تجربة السياسة"، بحيث لا تكون مجرد فضلة، كما ضرورة "سَوْقُ" السياسة والتاريخ في سياق الفلسفة لا بوصفها نسقا مطلقًا وإنما تفكيرا في المبادئ التي تصدر عنها أفعال الإنسان.

وقد تساءل الباحثان، بداية، عن المقصود بعبارة "محك السياسة"، وذهبا إلى أن المقصود "التجربة السياسية" و"المحنة السياسية" و"الامتحان السياسي" معا. ثم ما لبثا أن حددا مفهوم "السياسة" في القرارات التي تلزم جماعيا الحرية والأمن وشروط عيش تعدد من الناس يشكلون جماعة أو أمة ـ مبدئيا وواقعيا ـ ويتشاطرون هذه القرارات. ولئن هي كانت الفلسفة "مبادئ" ـ في الحرية والعدالة والسلم ... ـ والسياسة "قرارات" تستجيب لمنطق الظرفية لا لإملاءات المبادئ، فإن من شأن هذا أن تنشأ عنه "هوة" بينهما، وأن تكون هذه الهوة "امتحانا ومحنة". وهذه المحنة هي ما يبحث فيه هذا الكتاب بالذات. ذلك أن أهم ما يثير الفلسفة في السياسة إنما هو "محنة" العنف التي قد ترافقها شأن أشكال عنف الحرب (سيمون فيل)، وألوان النظام الاستعماري (سارتر)، وصنوف الأنظمة الشمولية والرأسمالية (كامي، ميرلو-بونتي) ونظام السجون والعنصرية (فوكو، شتراوس ...).

القسم الأول: حول الحرب العالمية الثانية

  1. سارتر/كامي

إذا كان ثمة من "امتحان" واجه جيل الفلاسفة الذين ولدوا في بداية القرن العشرين (سارتر، ميرلو-بونتي، كامي) فهو "امتحان" حروب الاستقلال التي خاضتها الشعوب المستعمَرة ضد المستعمِر. ارتفعت أصوات عشية الحرب العالمية الثانية، شأن صوت الأديب الفرنسي أندري جيد (1869-1951) والفيلسوفة الفرنسية سيمون فيل (1909-1943)، ضد النظام الاستعماري، لا لإدانة ظلم الاستغلال فحسب، وإنما لإدانة الطابع غير الإنساني لهيمنة الاستعمار ولأشكال العنف المرافقة له. لكن كل شيء تغير مع حرب الجزائر حيث طرحت مسألة العنصرية والتعذيب والرعب. ولقد لعب سارتر دورا كبيرا في إدخال هذه المسائل الثلاث إلى صلب الفكر. وبرهن على أن العنصرية للاستعمار قرينة، وأن ثمة جدلا بين المعمِّر والمعمَّر أشبه شيء يكون بجدل المولى والخادم، وأن العنف وليد هذا الوضع، وأن أولئك الذين يريدون تفاديه بأي ثمن لا يعملون، من حيث المبدأ، إلا على استدامته. وفي ذلك نقد "للإنسانيين" الذين يجعلون من عدم العنف مبدأ التزامهم ـ ومن ضمنهم كامي (1913-1960). وقد حدثت الخصومة بين الرجلين منذ ظهور كتاب كامي "الإنسان المتمرد" (1951) واستفحلت خلال حرب الجزائر وطرح مسألتي التعذيب والرعب. وهكذا، فإنه بينما آمن كامي بإمكان إصلاح النظام الاستعماري في الجزائر، ارتأى سارتر أن لا حل إلا بالاستقلال. وشأنه شأن سارتر أدان كامي بشدة التعذيب والقمع الذي طال السكان المدنيين. وبينما ساوى كامي بين "المعذِّب" [الفرنسي] و"الإرهابي !" [الجزائري]، فإن سارتر رفض التسوية بينهما، معتبرا أنه لا تزر وازرة وزر أخرى.

  1. كامي/ميرلو-بونتي

كلا الفيلسوفين كان ذا صلة بسارتر: صحبة أعقبتها قطيعة. وكان السبب: السياسة. لكن أولى منها اختلاف الرؤى الفلسفية. كان الصراع الوجودي عند سارتر صراعا بين "عدم" هو الإنسان و"وجود" هو العالم، لكن الرجلين رفضا أن يعدا وعي الإنسان "عدما"، إنما الإنسان عند كامي هو مانح المعنى للعالم، وعند ميرلو-بونتي وضدا على سارتر ما كانت حريته شيئا سلبيا خالصا، إنما الحرية حرية في العالم مع الأغيار. وإلا ما كانت ثمة مقاومة جماعية للمقاوم الذي يقاوم معذبه. والسؤال السياسي والأخلاقي الذي طرح بين هؤلاء الثلاثة هو: هل مسيرة التاريخ تسوغ اللجوء إلى العنف؟ طرحت المسألة غداة تناهي أنباء الجرائم الستالينية إلى مسامع مثقفي أوربا المتعاطفين مع الشيوعية. وما كان الأمر يتعلق بالحكم على مبادئ الشيوعية بقدر ما كان يتعلق بإدانة الرعب الذي صاحبها. وهل ندين رعب الشيوعية باسم الليبرالية التي أظهرت أيضا بعض أشكال رعبها؟ كانت هذه النقطة جوهرية في النقاش بين كامي وميرلو-بونتي بعد أن نشر الأول كتابه "الإنسان المتمرد" ردا على تحاليل ميرلو-بونتي. وكان السؤال: هل يمكن لتغيي الثورة أن يبرر اللجوء إلى العنف؟ وهل يمكن لما يسميه ميرلو-بونتي "نوايا الشيوعية الإنسانية الطيبة" أن تبرر العنف؟ كل هؤلاء الفلاسفة ربطوا بين امتحان السياسة والعنف والنزعة الإنسانية. كان موقف ميرلو-بونتي واضحا: عوض رفض العنف رفضا مبدئيا، يجب التأكد من "مشروعيته"؛ أي من إمكان تجاوزه. وما مهمة الماركسية الحقة سوى السعي إلى "عنف" يتجاوز نفسه نحو مستقبل إنساني أفضل، وذلك بناء على مبدأ: "القتل أنفى للقتل". لكن، سرعان ما بدأ الرجل يتشكك في هذا الأمر، وهذا أصل خلافه مع سارتر. إذ ذهب إلا أنه لربما كان العنف ملازما لروح الشيوعية ذاتها. ومن هنا وجد نفسه بين قرني إحراج: من جهة الثورة الموءودة، ومن جهة أخرى زيف الليبرالية. والحل: اللجوء إلى الواقع حيث العنف ـ على كرهه ـ يبرر حين لا تكون هناك وسيلة أخرى، وحين نكون أمام إكراهات الحاضر. ولا خيار لنا بين العنف والطهارة وإنما بين عنف أشد وعنف أهون. والمسألة مسألة حساب. وهذا ما ثار عليه كامي ووجد أنه تبرير للموت باسم التاريخ. وما عابه على ميرلو-بونتي، أساسا، هو تسويغ العنف باسم سُمك الحاضر ووعود المستقبل. والذي عند كامي هو رفض الانضمام إلى أية عقيدة، والتمرد ضد كل أشكال العبودية والكذب والرعب. وهو تمرد مستأنف موصول كي لا يؤسس التمرد بدوره لعقيدة جديدة سرعان ما تصير قاتلة .

  1. سيمون فيل/ كانغليم/ كافاييس

يعود هذا الفصل إلى تناول موقف الفلاسفة من إحدى أهم محن العنف: الحرب. والمشترك بين الفلاسفة الثلاثة تجرعهم من كأس الحرب تجرعا شخصيا. أدى هذا بسيمون فيل، بداية، إلى الرفض المبدئي للحرب باسم نزعة سلمية راديكالية. وعندها أن الحرب ما كانت مجرد صراع قوى خارجية، بل هي بالأولى مسألة سياسية داخلية: استتباع المقاتلين لجهاز الدولة الطاحن الداعي إياهم إلى القتال من أجله، بما يحولهم إلى "مادة طيعة"؛ أي إلى عبيد. إنما الحرب إهانة تلجأ إلى الدعاية التزيينية الكاذبة. ومن ثمة لا بد من مقاومة للحرب ولجهاز الدولة الداعي إليها مقاومة "مشروعة" و"حيوية" و"جوهرية". لكن لهذه النزعة السلمية الراديكالية حدودها. وقد اضطرت الفيلسوفة إلى القطع مع هذه النزعة منذ عام 1939 لكي تتبنى فلسفة المقاومة: وقعت والواقعة، فلا مجال للتردد. على أن الدعوة إلى مقاومة العدو الألماني لم تمنعها من إدانة آفة الاستعمار: لقد فعلنا بالآخرين الشر الذي حاولت ألمانيا أن تفعله بنا. ولهذا الشر اسم: الاجتثاث الذي ليس سوى نفي الانتماء واقتلاع الأهالي وإنكار ماضيهم وعوائدهم وتاريخهم وثقافتهم. ولا مقاومة لألمانيا من دون تحرير المستعمَرين.

انتقد الفلاسفة الثلاثة فلسفة الوجود المبنية على حرية عدمية غير مسؤولة، لكنهم لم يميلوا إلى القول بنقيضها: الضرورة الجبرية. آمن كافاييس وكانغليم، بحكم تكوينهما العلمي، بضرورة علمية رياضية منطقية، لكنها الضرورة التي لا تؤدي إلى القول بضرورة أخلاقية وسياسية. قطعا مع فلسفة الوعي والوجود والحرية على مستويين: ميتافيزيقي؛ لأنه وكما أن لدى سارتر لا وجود لحرية خالصة بلا موقف، فإنه عندهما لا وجود لضرورة بدون تجربة وبدون ذاتية. وسياسيا؛ السياسة ـ الحرب والمقاومة ـ لا تضع الإنسان أمام حريته بعامة ـ كما لدى سارتر ـ ولكن أمام وضع يكون دائما وضعا متفردا، ويتيح دوما اختيارات متفردة ويتضمن ضرورات مختلفة. ولقد اختارا المقاومة.

القسم الثاني: حول أعوام 1960

  1. ليفي شتراوس/سارتر/ميرلو-بونتي

في عام 1962 أصدر ليفي شتراوس (1908-2009) كتابه "الفكر البري" مخصصا فصله الأخير ـ "التاريخ والجدل" ـ لنقد جذري لسارتر: أولا؛ لا ينبغي أن نفكر في الماضي انطلاقا من حضارة الحاضر وإنما الأمر على الضد. ثانيا؛ يتصور سارتر الإنسان كائنا جدليا تاريخيا حرا، أما شتراوس فيراه تابعا لبنى. والمعنى لا يبدعه الإنسان، إنما المعنى ـ الموضوعي الخفي ـ هو الذي من شأنه أن يبدع الإنسان. ومن ثمة نقده لوهم الحرية والعفوية والفعالية عند إنسان سارتر.

وفي ما يتعلق بالنقاش مع ميرلو-بونتي، فإن هذا وإن أقر بفكرة "البنية" المتحكمة، فإن ذاك لم يمنعه من التأكيد ـ ضد شتراوس ـ على البعد "الجواني" للإنسان. غير أن الجدل بين الرجلين لم يكتمل بسبب الوفاة المباغتة لميرلو-بونتي.

  1. فوكو/دولوز

من الميتافيزيقا واختبار السياسة إلى نقد الميتافيزيقا ونقد السياسة نقدا جذريا بدءا من مفهوم "البنية". لكن، لربما تم تجديد الميتافيزيقا والسياسة معا عبر جانب آخر لمفهوم البنية: الاختلاف. عند دريدا ثمة عنف مخفي في الميتافيزيقا، ولا يتعلق الأمر بالميتافيزيقا المخفية في السياسة، وإنما بالسياسة المخفية في الميتافيزيقا. وقد عمل دولوز على التأسيس لفلسفة وسياسة للاختلاف تهاجم فكرة "الهوية" وتؤكد على التفرد. كما عمل فوكو على تفكيك آليات السلطة في استكراه الرقاب والتحكم في الأجساد. وقد ناضل دولوز وفوكو ضد الاحتجاز وظروفه، وحللا آليات المجتمع العقابي والرقابي، وفضحا غير المسموح به، وحددا دور الفيلسوف الملتزم في "أن يرى" و"أن يقول". وبدل التحليل الكلاسيكي الإنسي للسلطة ـ كامي ـ الذي يرى أن من شأن السلطة أن "تُمتَلك" وأن تُظهر عنف أفعالها وتبدي خطابها في الكذب والرعب الذي يخلق العبودية، ذهب فوكو إلى أن "من شأن السلطة أن تُمارس ـ خفية ـ أكثر مما أن تُمتَلك".

  1. يانكلفيتش/دريدا/ لوفيناس

ذهب لوفيناس (1906-1995) إلى إمكان مقاومة العنف بالميتافيزيقا (الفلسفة الأولى= الأخلاق)، بينما رد عليه دريدا (1930-2004) بأن العنف يسكن في قلب الميتافيزيقا. واعتقد لوفيناس أنه لا يمكن الخروج من العنف إلا بأخلاقية مطلقة (الأخلاق أولا) هي في عمقها أخلاقية غيرية تتمثل في "وجه" الغير الذي يخاطبنا: "يا هذا، لا تقتل !" لكن دريدا رأى أنه حتى في قلب هذه الأخلاقية لا زال العنف مختفيا. فلا وجود لعنف مطلق، كما لا وجود لغير بلا ذات، بل ثمة تجاذب دائم بين العنف وغيره، ومن شأن العلاقة بالغير أن يتعاورها العنف واللا عنف معا.

لكن تفكير هذا الجيل ذهب إلى ما هو أبعد: وماذا بعد الحرب؟ ثمة "واجب التذكر"، وثمة "الجرائم ضد البشرية"، لكن ثمة أيضا "مسألة الغفران". وحين نذكر هذه المسألة لا بد نحن ذاكرون للفيلسوف يانكلفيتش (1903-1985) الذي رأى أن جرائم النازية تعلو على كل عقاب، ومن ثمة على كل غفران: "قضى الغفران في مسكرات الموت". وفضلا عن هذا، كيف نغفر لمن لم يطلب ذلك؟ وجواب دريدا أنه من الممكن "جعل المستحيل ممكنا": وهل يُغتفر إلا ما لا يُغتفر؟ أَوَ ليس لا يُغتفر إلا ما هو مُشكَل بطبعه؟ تلك أخلاق تقع في ما وراء الأخلاق. وذاك هو الغفران غير المشروط؛ أي الذي لا تشترطه سياسات ولا مؤسسات ـ غفران خالص ـ ضد الغفران الممزوج ـ التابع للرهانات السياسية للمصالحة. لكن هل يمكن أن يحدث هذا الغفران؟ ذاك سؤال تركه دريدا مفتوحا.

أخيرا، تساءل الباحثان في مدخل الكتاب عما إذا كانت الحركة التي بدأت عام 1943 قابلة للتعميم اليوم، وكان جوابهما: "نعم" و"لا". "نعم" لوجود صلات بين المسائل الفلسفية والوضع التاريخي، فلا فلسفة ـ كما قال هيجل ـ يمكنها أن تقفز على ظلها. و"لا" لأن المسائل تتبدل والوضع يتغير.

لا شك عندي أن هذا الكتاب مفيد لمن أراد الاطلاع على النقاشات الفلسفية السياسية التي دارت بين العديد من فلاسفة فرنسا بدءا من الحرب العالمية الثانية إلى الثمانينات من القرن الماضي. لكن الكتاب لا يخلو من بعض الهنات: منها إهمال أسماء فلسفية وفكرية وازنة عرضت إلى مسألة "العنف" عرضا فلسفيا (إريك فيل، ألكسندر كوجيف، بول ريكور ...) وسياسيا (ريمون آرون مثلا) عرضا عميقا، وأحيانا أعمق حتى من الأسماء التي ركز عليها الباحثان. أكثر من هذا، من شأن نزوع الكتاب التبسيطي أن يزعج الكثير من أهل الاختصاص بسبب من بعض ميله الاختزالي في بعض المحال من الكتاب.

------------------------------------------------
عدد الأقسام : قسمان
لغة الكتاب : الفرنسية
المؤلفان : مارك كريبون وفريدريك فورمس
عنوان الكتاب : الفلسفة وجها لوجه أمام العنف

عدد الصفحات : 134
سنة النشر : 2015
بلد النشر : باريس
دار النشر : Editions des Equateurs
عدد الفصول : ستة فصول، مع تقديم واستنتاجات

 

أخبار ذات صلة