العدالة والعقاب في المتخيَّل الإسلامي خلال العصر الوسيط

العدالة-والعقاب-في-المتخيل-الإسلامي-الوسيط.png

لكريستيان لانج

رُضوان السيِّد

كتاب "العدالة والعقاب في المتخيَّل الإسلامي خلال العصر الوسيط" للباحث الألماني كريستيان لانج، هو في الأصل رسالة الدكتوراه؛ حيث يقول لانج في مقدمة الكتاب إنه حدَّد ثلاثة أهداف؛ هي: تحديد الفضاء الذي يجري فيه العنف العام في تاريخ المجتمعات الإسلامية؛ إذ إنَّ المجتمعات الإسلامية كان شأنها شأن غيرها من المجتمعات، تمارس العنف وتتلقى صنوفاً منه أيضاً. وأن تناول الأدبيات التقليدية الإسلامية عن النار، مثل الأحاديث النبوية التي كانت مرنة في القرون الأولى، ورأى أن هذه الأدبيات المتعلقة بعالم النار يُمكن أن تتطور خلال القرون، مع السعي إلى تأويلها ضمن السياق التاريخي وتحديد الوظائف النفسية والاجتماعية والسياسية، اي بمقاربة دينية وليست لاهوتية، وأنَّ التوجه لفهم أفضل لدور الفقهاء في صياغة المواقف إزاء ظاهرة عنف الدولة. أي تجسير الهوة العميقة التي تفصل بين مثالية الفقه الإسلامي من جهة والواقع السياسي الذي تمثله السلطة الحاكمة من جهة أخرى في فترة حكم سلاطين الدولة وحكامها.. وقد حاول الباحث تبيان أن العلاقة بين الفقه والسياسة لم تكن مُنقطِعَة في مجال الفقه العام، كما أنَّ هذه العلاقة لم تكن مباشرةً باستمرار.

عَمَد الباحثُ إلى نصوصٍ غائبة أو تكاد تكون في الدراسات العربية والإسلامية؛ وعاد إلى مُصنَّفات إما بالفارسية وإما بالتركية؛ لأنَّ المؤرخين العرب والمسلمين اعتادوا إدراج هذه المرحلة في إطار مراحل الجمود؛ مما دفع المؤلف إلى غضِّ النظر عما صنف في مجال الفقه والأصول والتفسير والكلام...وغيرها من العلوم الإسلامية، وكذلك فيما يسمى "مرايا الأمراء" أو كتب "مناصحة الملوك".

لقد وَضَع لانج عمله في إطاره الدقيق وفي سياقه التاريخي، عندما ربط الاهتمام بالمتخيَّل الإسلامي للجنة والنار وللعقاب فيما يُسمَّى بالقرون الوسطى، ووَضع الإنسان المُسلم في زمن السلاجقة. وكيف كان ينظر إلى منزلته في العاجلة والآجلة، وحاول الباحث أن يربط ذلك بأحكام الفقه المتعلق بالجنايات، فدرس صدى الأحكام في أقضية السلاطين والقضاة والمُحتسبين ومدى تأثيرها فيها.

كان لانج معنيًّا في بحثه بعدد من الإشكاليات المركزية قد يكون أهمها ثلاثا:

1- كيف كان يُفسَّر العنف القائم ضد المسلمين؟ وكيف كان يُسوُّغ في الإسلام القروسطي؟

2- كيف كانت الدولة القائمة ممثلةً في أجهزتها تسعى للتمييز بين الفضاءين العام والخاص في إقامة العقوبات؟

3- ما الإستراتيجيات الموظفة في العصور الإسلامية الوسطى للتخفيف من الآلام التي كان العنف الذي تمارسه الدولة بأجهزتها سبباً أساسيًّا فيه؟

نَظَر لانج في أنواع الحراك الاجتماعي في علاقته بالسلطان وعالم الدين. ونظر في الطرائق التي تقبل بها المجتمع السلجوقي، واهتم بالنظر في واجهة الذات الإسلامية أو صورتها التي ينطوي عليها هذا التمثّل للعقاب وللعدل في الدنيا وفي الآخرة وفي الجنة والنار.

إنَّ أطروحة لانج تتنزل في إطار ما يسمّى بالتاريخ الكلِّي، فضلاً عن التأريخ للطبقات العليا، كذلك على صورة المهمشين وكيف تفاعلوا مع عنف الدولة المشروع المُتمثل في قوانينها وعقوباتها. ويُعنَى الكتاب بالعدل من منظور السلطان وعالم الدين، ولكنه يُعنى بصورة العدل من منظور العامة والدهماء.

وتندرجُ الأطروحة في إطار مباحث في فقه وتاريخ الحضارة الإسلامية، ويفتح الباحث زاوية جديدة تبحث في المتخيَّل الجمعي وطريقة التمثل التي تقوم على تصور العلماء والسلاطين والعامة للعدل وللعقوبة في الحياة وفي الآخرة، فضلاً عن الاهتمام بأثر الواقع السياسي والاجتماعي في القضاة والفقهاء وفي طرائقهم في فهم النصوص التأسيسية وتأويلها.

وتنبَّه الباحث إلى أنَّ العقاب في الواقع الإسلامي لم يكن فعلاً يكرس أحكاماً فقهية فحسب، بل هو فعل يؤثر فيه الأشخاص الذين يقع عليهم فعل الخطاب، ويؤثر فيه أيضاً فضاء العقاب. كما قدم الباحث برهاناً على أنَّ الفقه الإسلامي ليس منظومة نظرية جاهزة معزولة عن الواقع، بل إنه فقه على صلة وثيقة بمعطيات الواقع الإسلامي المتغير أبداً.

وحاول الباحث أنْ يعقدُ الصِّلة بين العدل والعقاب في الدنيا والآخرة من جهة، والأحكام الفقهية التي حدَّدها الأصوليون والفقهاء والمفتون للمكلفين من المسلمين من جهة أخرى. وقد اعتمد الباحث -واعياً- على المصنفات السُّنية في مجال أدب الأخرويات وفي مجال الفقه وأصوله دون سواها، وبشكل يتعلق بالمتخيَّل السني دون سواه.

وقام بحث لانج على منهج تعدَّدت مداخله ومشاربه، فهو لم يهتم بالثقافة الإسلامية العلمية، إنما نظر في كتب التاريخ التي أرخت لليومي ولما تُعانيه الطبقات الاجتماعية المسحوقة من صنوف العقاب ولما كان يربطها من علاقة بالعالم والسلطان، أو ما يمثله من أعوان؛ لتُحقق توازنها ولتحدد معنى وجودها في حقبة تاريخية قلما اهتمت بها الدراسات العربية والإسلامية.

إذن.. الكتاب عبارة عن دراسة نظرية العقاب وطرائق تطبيقه في أواخر العصر الإسلامي الوسيط، زمن حكم السلاجقة في العراق وفارس خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين/ أي الحادي عشر والثاني عشر للميلاد.

ويُعرف العقاب هنا بالاستخدام المتعمد للقوة المشروعة ضد أفراد من الدولة الإسلامية.

ويُسلط الكتاب الضوء على:

- كيف يُمكن تفسير استخدام العنف ضد المسلمين وتسويغه في ظل النظام العسكري للسلاجقة؟

- كيف يُمكن أن تحفظ مصالح الناس لهم سلامة أنفسهم في مقابل ادعاء الطبقات الحاكمة حق السلطة؟ أو ما الدور الذي تؤديه العُقوبة في رسم الحدود بين المجالين العام والخاص؟ وما هي الإستراتيجية المعرفية التي ابتكرها كلٌّ من المفكرين وعامة الناس، كيف تصوروها وعملوا بها من أجل التعامل مع المعاناة التي يتسبب فيه العقاب. كيف يتصور هؤلاء العلاقة بين العقاب الدنيوي والعقاب الأخروي من وجهة النظر الدينية؟

كانت حقبة السلاجقة فترة رخاء وانتعاش للثقافة الإسلامية؛ حيث أعان النشاط التجاري المكثف في المراكز الحضارية على خلق حركية مختلفة العناصر. تزامن إنشاء مؤسسات التعليم مع تعزيز مؤسساتي لطبقة مستقلة من علماء الدين والفقه.

وبرغم الاهتمام الكبير بهذه الحقبة، فقد ظلَّت الدراسات الخاصة بالسلاجقة -لا سيما مظاهر تاريخهم الاجتماعي- نادرة، رغم وجود تنوع ثري من المصادر الأدبية؛ لذلك اعتمد الباحث على قائمة واسعة من المصادر: ففضلاً عن مصنفات المؤرخين، اعتمد على أعمال المستشارين الإداريين والشعراء وعلماء الكلام وكتب الفقه، خلال حقبة تزيد على المئة عام، مع تضييق وتركيز على مناطق العراق وفارس الكبرى، مع أمثلة لتوضيح مسائل مرتبطة بسلاجقة العراق وفارس، وكذلك تضييق آخر وهو الاعتماد على المصادر السنية.

وقد نَجَم عن المقاربة المتعدِّدة المداخل المعتمدة على تحليل آني لتطبيق نظرية العقاب لا تحليل وفق التسلسل الزمني. أما الجذور التاريخية لبعض العقوبات أو التطور التاريخي للتقاليد الفكرية بشأن الممارسات الفردية، فقد حظيت باهتمامٍ أقل. واقترح الباحث العمل على الثوابت الاجتماعية بدلاً من الاهتمام بالتغيرات التاريخية.

وقد ذهب الباحث لانج إلى:

1- توضيح كيفية تفكير طوائف في المجتمع في العقاب بوصفه ظاهرة اجتماعية.

2- تبيان كيف تترابط هذه المقالات المختلفة ويؤثر بعضها في بعض. وتبيان كيف تتوافر فيها تطبيقات معلومة.

ويعترف لانج بأن أجزاء الكتاب الثلاثة تترابط على نحو غير محكم؛ وذلك بسبب المقاربة متعددة الشعب المعرفية والموضوعات، كون كل جزء قد يعتبر دراسة مستقلة لـ"العقاب"، وترك الباحث للقارئ الحكم على مدى بلوغه المفهوم الأمثل "للتاريخ الكلي".

 

حقبة السلاجقة:

وقسَّم الباحث حقبة السلاجقة من حيث السياق التاريخي في العراق وفارس إلى ثلاثة أجزاء للحصول على خلاصة تاريخية:

أ- حقبة الغزو.

ب- حقبة التماسك وقيام الحكم المركزي.

ج- حقبة التشتت ومحلية الحكم السياسي، حكم أحمد سنجر بن ملك شاه الملقب السلجوق الأعظم.

وعرض الباحث لتاريخ السلاجقة وأصولهم القبلية التي تعود إلى قبيلة "الغُز" أو "الأوغوز" التي اعتنقت الإسلام، وهي قبيلة من المرتزقة وحراكها وانتشارها. وعرض لفكرة أن للملك سلطة مطلقة وإلى تحول منصبه وراثياً، الفكرة التي أثارت استياء الأكابر من الأسرة السلجوقية. فقامت ثورة وقمعت، وأيضاً حصل تمرد آخر. كما عرض كيف أصبحت علامات الانحلال الأولى جلية، واتخذت الإمبراطورية تدريجياً مظهر إمارات متحدة تملك كل منها استقلالها الذاتي، بقيادة الحُكَّام العسكريين المحليين، وإخفاق محاولات السلاجقة المبُكرة في تأسيس إمبراطورية ذات حكم مركزي. ولكنهم نجحوا، على الرغم من ذلك، في تأسيس هيكل مؤسسات اجتماعية استمر وُجودها في حقبة الحكم العسكري المحلي.

الحقبة السلجوقية الثانية: تميزت بظهور سلسلة متقلبة من الحكومات العسكرية المحضة، وتحول الخليفة إلى حاكم محلي، وأصبحت وظيفة الدولة فيما يتعلق بإدارة العدل والظروف التي تدفع مصالح الدولة الحكام إلى استعراض القوة. أما فيما يتعلق بمحاكمة الجرائم وإدارة العقوبات، فيمكن أن نُعد الحكم العسكري سبباً دائماً في عدم الأمن القانوني، ونشهد الطقوس التأديبية العلنية التي لا نعرف منوالها عادةً والمبالغ في عنفها.

وبيَّنتْ الدراسة أنَّ العقاب قد يُسهِم باعتبار صفته العلنية البارزة، في إيجاد شعور عام لدى الناس بعدم استقرار الحياة وانعدام الأمن فيها، ويعزز هذا الشعور عوامل غياب الطمأنينة الإضافية، وطبيعة الحكم السياسي المتميزة بتغير الأحلاف بين الحكام المحليين وتعقد تقاسم الأقاليم، الذي جعل محاكمة الجرائم صعبة، مع تزايد الجريمة المنظمة في المدن؛ مما شكل تحدياً كبيراً للدولة. وأيضاً عامل آخر هو أن العصر السلجوقي كان زمناً للنزاع والاضطهاد الدينيين؛ حيث ظهر الحشاشون الذين كانت طريقتهم في التحرك تقوم على جعل ذوي السلطة والأمراء والسلطان أيضاً هدفاً لهم وغاية. والخوف منهم وجد صداه لدى الطبقة السلجوقية الحاكمة، وكذلك لدى الرَّعية أيضاً، وقد تصاحب ذلك مع الأحكام ضدهم والتشهير العلني بالقادة الإسماعيليين.

وفَرْضُ الحكم السلجوقي للعقوبات على المجرمين والباطنيين، عزَّز الشعورَ العام بعدم الأمن وأذكاه، فقد كان الهدف الحقيقي للعقاب إظهار القوة المطلقة للحاكم؛ حيث تحولت العقوبات طقساً سياسيًّا، وقد ساعدتهم مشاهد العقاب كثيراً على تحقيق هذه الغاية؛ حيث كان المشاهدون شهوداً سلبيين فقد صدمهم الرعب. كما أن حضورهم بأعداد كبيرة جعلهم مشاركين فاعلين، لكن المشهد حمل بذور المقاومة، حيث إن رفض البعض حضور العقوبات قد يُشير إلى بعض الامتعاض من الحكومة، والتاريخ لا يسجل كثيراً هذه الاعتراضات على العقاب المبالغ فيه.

ورأى الباحث ثلاث وجهات نظر بشأن العقاب؛ هي:

- استخدام العقاب سياسياً سبيلاً لإظهار قوة السلطان ومن يمثله.

- العقاب الأخروي بوصفه انعكاساً للعقاب في هذه الدنيا.

- الخطاب الفقهي بشأن العقاب.

أمَّا الحجة الأساسية، فتتمثل في أن علماء الأخرويات ورجال الفقه قد تمكنوا بمهارة من حشد مصادر الثقافة الإسلامية لخلق فضاء من الحرية الفردية والحكم في ظل نظام سياسي معسكر وقوي وغير مستقر. وفي مثل هذا الفضاء من حرية الفكر يُمكن أن تزدهر رؤى متمايزة للعدل وللحكم العادل.

وتحت عنوان "سياسات العقاب"، خصَّص الباحثُ القسمَ الأوَّل من كتابه لدراسة تنفيذ العقوبة في عهد السلاجقة والخطاب المعتمد من قبل مؤسسة الحكم السلجوقي لتسويغ الخطاب القمعي لنفسها. حيث ناقش في الفصل الأول ميادين العقاب ومؤسساته.

وفي الفصل الثاني، وقف الباحث على أنواع العُقوبات مثل الإعدام والعُقوبات الجسدية والتشهير والنفي والحبس، ولفت إلى عدم وجود المراجعة المنهجية لتنفيذ العقوبة في إسلام القرون الوسطى. وعلى ذلك قام معظم العمل على توضيح علم مصطلحات العقاب وعلم رموزه، بالاعتماد على تاريخ السلاجقة الرسمي.

وقام الباحث بشرح ومقارنة الروايات التاريخية المختلفة، وأشار إلى أنَّ الكتابة التاريخية فعل تأويلي مطبوع بأسس أيديولوجية قوية، وقال جازماً إن البحث عن الواقعية يحول دون الاهتمام بالمسائل التأويلية، ومع التدقيق في السياق السياسي والاجتماعي الذي كتب فيه المؤرخون كلما بدا لنا ممكناً ومرغوباً فيه.

ولفت الباحث إلى أنَّ كل أنواع العقوبات المتعلقة بكل طوائف الناس حاضرة بتكرار شديد في التاريخ السلجوقي الرسمي، وأنَّ العقوبات جزءٌ من مخزون المؤرخين، وقد اتخذ ابن الجوزي أنموذجاً. وتحدث الباحث عن ظهور جنس أدبي وعظي يُسمى "مرايا الأمراء"، مثل كتاب "راحة الصدور" للراوندي. وأشار إلى مشكلة تتعلق بالتواريخ، وهي ازدراء المؤرخين للأحداث العادية؛ فممارسات العقاب اليومية لم تذكر في المصادر. وبرغم تكرار ذكر العقوبات مثل "أمَرَ فقُتِل"، غير أننا لا نجد فرصة لمعرفة كيفية إنجاز العمل ومن أنجزه.

وعَمَد الباحث في القسم الأول لدراسة أجناس أدبية متنوعة لإضافتها إلى ما جمعه من المصادر التاريخية ليفهم طريقة عمل الإدارة الجزائية السلجوقية. يقول لانج إن الطبقات الحاكمة السنية اهتمت بدعم استخدام القوة القهرية بإستراتيجية تسويغية مقنعة؛ فالعقوبة مكوِّن أساس للدولة العادلة؛ فالعقاب والقمع هما للحفاظ على الهيبة وهما مغلفان بعبارة "سياسة" بمعنى مزدوج "الحكم" و"العقاب". فالعقاب دعاية تخدم تكتيكاً سياسيًّا مخصوصاً.

أما في القسم الثاني، فيقوم الباحث بتصوير العقاب في "جحيم" المسلم وتبدو المسافة شاسعة بشكل أولي بين عقاب الدولة والعقاب الإلهي في الآخرة، ولكننا نجد روابط مفهومية وثيقة تجمع المجالين الدنيوي والأخروي. ويُعد علم الأخرويات جنساً أدبيًّا موجهاً أساساً للجمهور، حيث إن تذمر مسلم القرون الوسطى من الجحيم يوفر خطاباً قويًّا يُعين المحرومين على الإمساك بحقيقة العقاب والمعاناة في هذا العالم.

أما الفصل الثالث، فقد افتُتح بمناقشة تصور مفاده أن الإسلام السني السائد ينطوي دوماً على النجاة القطعية برغم العقاب المُؤقت في الجحيم لمرتكبي الكبائر. ولفت إلى أن عقاب المسلم في الجحيم مشهد مخيف ويدعو إلى التفكير في المتخيَّل الشعبي.

وفي القسم الثالث تحت عنوان "الأبعاد الفقهية للعقاب"، رأى الباحث أنه نادراً ما كانت حدود الشريعة هي التي تُشكل العقاب، كما تؤكده أخبار التاريخ السلجوقي. ولكن مؤرخ الفقه الإسلامي يرى أن هذا مظهر من مظاهر أخرى تستدعي الانتباه. لكن الدراسات الغربية تدعي أن الخطاب الفقهي النظري لا يتعلق بالممارسة الجزائية إلا قليلاً. إنما هناك معضلة وذلك لسببين؛ أحدهما: أن انفصال القضاء الجزائي عن الشريعة لا يعني عدم أهمية الممارسة الجزائية في السياق الثقافي. والسبب الآخر: أن فقهاء الإسلام ناقشوا مسائل العقاب في اتصالها بالممارسة بطرائق غير مباشرة، وهذه هي الفكرة التي حاول الباحث إثباتها في القسم الثالث.

وفي الفصل السادس، عاد المؤلف إلى مسألة التعزير، مع استناد إضافي إلى آثار من الحنابلة والمالكية، ورأى لانج أن عقوبة التعزير صنف ثانوي في فقه الجنايات الإسلامي وفي الممارسة، وأصبحت مع السلاجقة صالحة لكل مناسبة، حيث إن إيقاع العقوبات ليس على أساس الشريعة بل على أساس المصلحة العليا للدولة. ويعتقد الباحث أن فقهاء كل المذاهب سعوا لكبح جماح السلطة بالتأكيد على أن الجرائم العلنية فقط تخضع للعقاب بالتعزير، ونجحوا في تحقيق أمرين:

1- وفروا قدراً من الحماية والحصانة ضد تدخل الدولة في المجال الخاص.

2- أسهموا في نشر ما يمكن تسميته صور الذات الإسلامية أو الإيتوس الإسلامي الرافض لهتك الحرمات.

وظهرتْ أهمية مفهوم العقوبة العلنية من خلال التشهير، كما أنَّ التعزير احتل مكانة مركزية في إدارة القضاء الجزائي في حقبة السلاجقة، وتغاضت دراسات فقه الجنايات الإسلامي عن ظاهرة "التشهير".

أمَّا مسألة الخزي والإذلال، فقد كررها الباحث في الفصول الستة والتي أنهى الباحث دراسته بها من خلال الكتابات الفقهية وانعكاسها في فضاء العقاب في السياق الثقافي لإسلام العصور الوسطى.

وخَتَم لانج بحثه بإعادة النظر في أهم نتائج بحثه، وحاول صياغة عدد من الأفكار التأليفية المقارنة فيما يتعلق بالعقاب ووظائفه في تطور الحضارة الإسلامية.

*******

المؤلف في سطور

هو كريستيان لانج، مولود عام 1975 في برلين، في ألمانيا. وقد درس الدين المقارن، والدراسات الإسلامية، والقانون، في جامعات توبنغن، والقاهرة (جامعة القاهرة)، وباريس (مدرسة الدراسات المتقدمة في العلوم الاجتماعي)، ومسقط (معهد العلوم الشرعية)، وهارفارد  .

وبعد حصوله على شهادة الدكتوراه من جامعة هارفارد عام 2006 (لجنة دراسة الدين)، أصبح محاضرًا في الدراسات الإسلامية في مدرسة الإلهيات في جامعة هارفارد (2006-2007)، وفي مدرسة الإلهيات بجامعة إدنبرج (2007-2011). وهو منذ شهر مارس من العام 2011 أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في جامعة أوتريخت .

-----------------------------

- الكتاب: "العدالة والعقاب في المتخيَّل الإسلامي خلال العصر الوسيط".

- المؤلف: كريستيان لانج.

- ترجمة: رياض الميلادي.

- الناشر: دار المدار الإسلامي، ط1، يونيو 2016.

أخبار ذات صلة