لإيمانويل ليفيناس
ماجد العلوي
توطئة:
ثمة كتب لا تتعدى صفحاتها مائة صفحة، ولكن عباراتها المكتنزة تجعلها أشبه بالكتب الكبيرة التي تحوي معارف كثيرة، ولعلّ كتاب (الزمن والآخر) لـ "إيمانويل ليفيناس" منها، فهو كتاب صغير الحجم، دقيق الإشارة، معقد العبارة على الرغم من محاولة المترجم لتسهيل تلك العبارات، وفك تلك الإشارات، ولا غرابة في ذلك؛ فالزمن هو موضوع هذا الكتاب ومازال الزمن لغزا محيرا لدى الفلاسفة، بل حتى عند الفيزيائيين، إذ لا يملك الراصد للزمن حركته إلا إذا خرج خارج الزمن فيملك مروره، وتجربة السفر في الوسائل السريعة تصدق هذا الافتراض، إذ لا تشعر بسرعة الوسيلة التي تركبها في اختراق الزمن إلا إذا نظرت من النافذة فترى كل شيء من حولك يتراجع بسرعة.
الزمن معيار الوجود، ولا يمكن عده تقهقرًا للأبدية، ولكنّه يرتبط مع الآخر، والإشكاليّات المتعلقة بالزمن متشابكة ومعقدة. فما الزمن؟! من حيث مصدره، ومرور ماضيه، والعيش في حاضره، وترقب مستقبله، كيف يتقاطع الزمن مع الآخر؟ كيف يحافظ الزمن على وجوده؟ "فلا يقبل الذوبان ذاتا، ولا يدع نفسه تضمحل عن طريق التجربة"، من أين وقع سوء الفهم بأن الزمن عبور زائل؟ كل هذه الأسئلة بسطها الكاتب في محاضراته التي جمعها في هذا الكتاب.
جوهر الكتاب:
يعد كتاب (الزمن ولآخر) تجميعا لأربع محاضرات قدمها الفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس بين عامي 1946- 1947م، غير أن تلك المحاضرات افتقرت للجمع في نسق منضبط، والتقديم إليها. إضافة إلى وجود بعض الأطروحات المستدركة التي أغرت المترجم بإعادة تنسيقها وإصدارها في العام المنصرم.
إن التعامل مع الزمن في هذا الكتاب كان مختلفا بعض الشيء عن الأطروحات الفيزيائية التي تفكر به لكونه لحظات عابرة من الممكن استرجاعها، أو أنه تلاشٍ بعد حدوث، لقد انشغل الفيزيائيون بالإجابة عمّا يمكن الاستفادة من الزمن، ومن أبرز التساؤلات الحاضرة لديهم: هل يمكن السفر خلال آلة الزمن؟! أم أنه ضرب من الخيال؟! كيف نستطيع إرجاع الزمن؟! وقياسه بالمقارنة مع الزمن في كواكب غير كوكب الأرض.
لم يكن يُعنى إيمانويل بهذه التساؤلات كثيرا، لقد اتجه نحو قضيته بِعُدَةٍ فلسفية محضة، وممارسة نقدية صرفة، وذلك من خلال تأمل علاقة الزمن بالآخر تأملا يفتح الطريقة لما بعد الكائن؛ أي كعلاقة الفكر بالآخر، وذلك من خلال صورة متفرقة للنزعة الاجتماعية كما سنبين لاحقا.
لقد تناول المؤلف الزمن في هذه الأطروحة كعنصر لا يُعرِّض الآخر للخطر، بل يضمن تفاعله معه، ولا يعدُّه لحظة عابرة تُلغي الآخر، وإنما تتفاعل معه، لذا ليس الزمن تراجعا إلى الأبدية، ولكنه علاقة مع الآخر، لا يقبل الذوبان ذاتا، ولا يدع نفسه تضمحل عن طريق التجربة، وعليه فإن الهدف الرئيس من هذا الكتاب يظهر في إقرار أن الزمن ليس حدثا لموضوع ذات معزولة ووحيدة، ولكنه يمثل علاقة الذات نفسها بالآخر، فمهما بلغ سوء الفهم في العلاقة بين الزمن والذات، فإن مجرد التصور بإلغاء هذه العلاقة يخلق تصورا آخرا متطرفا لا يعترف بالتاريخ، ولا يثمن اللحظة الحاضرة، ولا يستوعب متطلبات المستقبل، وهذا يعني استسلام العلاقات الإنسانية لنقطة الصفر على الدوام.
تتمثل علاقة الذات بالآخر في تمظهرات عديدة في الحياة، ولعل من أبرزها علاقة الذات بفعل الوجود، إذ من العادي أن نقول أننا لا نوجد بالمفرد مطلقا، فنحن محاطون بمخلوقات وأشياء تربطها علاقات مشتركة، ولذا فنحن نوجد مع الآخرين لمسا، وتوددا، وعملا مشتركا، وهذه كلها لحظات عابرة، فتظل الذات بالنسبة لنفسها العنصر الثابت مطلقا، تتبادل مع الآخر كل شيء ما عدا فعل الوجود، فإذا انعزلت الذات أصبحت وحيدة، ولكنها لا تمثل بحال من الأحوال الوجود العابر الذي يفضي إلى عدم التلاقي، بل العكس تماما فالزمن يعبر عن الديمومة من العلاقات، ومن الاستلهام، ومن الانتظار "خيط أكثر متانة من سطر مثالي لا يقطعه التعاقب".
هذا الأمر نلاحظه جليا في الحياة اليومية التي تُعدُّ جملة من الانشغالات؛ إذ العالم نسق من الأدوات يستخدمها الإنسان فيجد ذاته، يجدها لفترة زمنية محددة. فعندما نشم وردة، فعند حدود الرائحة تتحدد غاية الفعل، وكذلك عندما نتنزه، فإننا نستنشق الهواء ليس من أجل الصحة وإنما من أجل الهواء، فتفاعلاتنا مع الآخر هي التي ترسم سمات وجودنا في العالم. والتفاعلات لا تكون أبدا إلا بالتفاعل مع الزمن، فهما دورة تفاعلية لإيجاد الوجود.
إذن نحن إزاء ترابط الأنا بذاتها، ذهابا نحو الاحتفاظ بالهوية، ونحو الاحتفاظ بالوجود، ولذلك يمكننا أن نسم العلاقة مع الشيء الآخر بوسم المتعة؛ ذلك لأن كل متعة هي طريقة من طرق الكينونة، فثمة علاقة مع كل ما هو ضروري للمرء كي يكون، وحياتنا اليومية طريقة للتحرر من المادية البدئية التي تكتمل الذات بها، فالعالم يمنح للذات فرصة المساهمة في فعل الوجود على شكل متعة، ويسمح لها نتيجة لذلك بالوجود على مسافة من ذاتها.
وعلى الرغم من الاحتفاء بالذات واستجلاء مكنون الأنا في هذا الكتاب إلا أن المؤلف يكشف بموضوعيته تناقضا عظيما تتوهمه الذات في العالم المادي حينما تشعر بأنها تملك الحرية لنفسها، فالحرية في حقيقة الأمر تحدد مسؤولية الذات تحديدا مباشرا، ولذلك هو ليس حرا لأنه مسئول عن نفسه مسئولية تؤطر لها علاقاتها مع الآخر، وبما أن الأنا مرتبطة بالذات فإنّ المسؤولية تنسحب إليها كذلك فيقعان كلاهما في قبضة المسؤوليات، ولا حرية مطلقة لهما.
زوايا تفاعل الذات مع الآخر
أخذ المؤلف يرصد جملة من تمظهرات تفاعل الذات مع الآخر من خلال العمل والألم والموت والحدث. أمّا العمل فيرى أن الذات تجد في جهد العمل وتعبه ثقلها الوجودي، الذي يترتب عنه تحقق وجودها الفعلي، ولذلك فإن الأدوات التي أقصت الذات عن العمل بنفسها كالآلات الإلكترونية والبرمجيات الحاسوبية فإنّها حلت محلها، فلن تجد الذات نفسها حاضرة، ومتفاعلة ما لم يكن لها التفاعل المباشر في إنجاز ما تود إنجازه.
وحينما تحدث الكاتب عن الألم وعده وحدة يستحيل معها العدم، فالألم المادي الذي يسمو بالنفس إلى درجات الطهر فإنّه لا يفترق عن لحظة الوجود، وهو متزامن مع الحالة البدئية للألم؛ أي تلك اللحظة التي تُكوَّن الجوهر. إذ تجد الذات نفسها في التعب والألم والوجع، تجد تلك الحالة الطاهرة التي تشعر خلالها بأهمية الوجود، والحاجة للآخر تفاعلا، والحرص على الأنا، وهنا تتكشف العلاقة التبادلية بين الذات والأنا.
أما الموت فهو يقدم نفسه بأنّه حضور لا عدم، وإن كان الشائع خلاف ذلك، فلا مجال لمسح علاقة الذات بالموت، إذ يعدُّ الموت الرابط الوحيد بالقادم، ولا يمكن النظر إليه بأنه هجر للحاضر، على الرغم من أننا لا نستطيع إدراك الموت، وهنا تظهر المفارقة كما يرى الكاتب، فحين ننظر إليه بأنه يمثل الآن دائما، فهناك تقع المغالطة، وعلى هذا فعندما يكون الموت هنا فإن الذات تكف عن تواجدها، ليس لأنها عدم، ولكن هي لحظة عجز من الذات على استحواذ الموت.
وفي هذا الصدد يضيف الكاتب نظرات فلسفية جديرة بالاهتمام، فيستخلص من وضعية الموت عجز الذات عن الاستحواذ، ويبقى للذات شكلا آخر للاستحواذ يتمثل في امتلاك المستقبل؛ ذلك لأنّ خارجية المستقبل تختلف تمامًا عن الخارجية المكانية بأنّ المستقبل مفاجئ تمامًا. وإن استباق المستقبل، والإسقاط على المستقبل اللذين تؤيدها في معظم الأحوال كل النظريات من برغسون إلى سارتر، ليست سوى حاضر المستقبل، وليس المستقبل الأصلي، فالمستقبل هو ما ليس مستحوذا عليه.
ويبدو أن هذا تصور مختلف بعض الشيء، فالمستقبل –فعلا- لا يمكن الاستحواذ عليه، ولكنه في الوقت نفسه المستقبل بالنسبة للذات هو ناتج التفاعلات بين الحاضر والماضي، فإن لم تكن القدرة متمكنة من الإمساك بالمستقبل، فإنّها تستطيع استحضار الماضي والتحكم في الحاضر الصانعين الرئيسيين للمستقل.
وعودة لثنائية الموت والألم فقد أوجد الكاتب علاقة بينهما، وهي علاقة التجاور على مستوى الظاهرة، يسبق الموت ألم يهيئ إليه، يجعله في قبضة الإدراك، وقبل الموت يوجد حظ أخير كما نشاهده في الدراما، ذلك هو الأمل يدفع الذات نحو شهادة طويلة تجعل من فكرة العدم مستحيلة، فيتخلق الوجود، الأمل يمد سلسلة من اللحظات التي تتعلق بها الأنا، فتستشرف المستقبل حينها تجد تفاعلا مع ذلك الزمن المرتقب، وتلاقيا مستمرا لا يقطعه التعاقب.
وبعد هذا التطواف يقدم الكاتب رؤية تساعد على سبر أغوار علاقة إنسانية تُشكل –حسب رأيه- العلاقة مع الآخر في شكلها الأصلي، هي (المؤنث) ويتساءل: هل يوجد وضع تظهر فيه آخرية الآخر في نقائها؟ وهل يوجد وضع لا يملك فيه الآخر سوى غيريته فقط بوصفها الوجه الآخر لهويته؟ ألا يوجد وضع يحمل الغيرية فيه كائن إيجابي بوصفها جوهرا؟
يجيب الكاتب في صفحة 58 قائلا: "أعتقد أن الضد الذي هو ضد مطلقا، والذي لم تتأثر ضديته بتاتا بالعلاقة التي يمكن أن تقوم بينه وبين المتعالق معه، تلك الغاية التي تسمح للضدية أن تبقى آخر على نحو مطلق، إنما هي المؤنث".
تتضمن الفكرة السابقة شرحا لمضمون اختلاف الأجناس، فلا يعدُّ اختلاف الجنس تناقضا، فتناقض الكينونة والعدم يقود كل واحد منهما نحو الآخر، العلاقة التي تدفع الجنسين للتفاعل هي علاقة الحب، فالحب ليس إمكانية ولكنه يغزونا من حيث لا نشعر، ومع ذلك فإنا الأنا تعيش فيه.
الختام
يمكن لهذا الكتاب أن يشكل استفزازا أحيانا، وصدمة أحيانا أخرى، ولكن في كل الأحوال يلامس إشكالا حيا بفكر فلسفي عميق بما فيه من استشعار للعلاقة التي تربط الزمن بالآخر، ذلك من خلال رصد الصور المتفرقة للنزعة الاجتماعية في مواجهة الإنسان الآخر.
قد يشكل الغموض حجابا في علاقة الأنا بالآخر، لكن ملامستنا للآخري في الحياة اليومية تعطي روحا لذلك التفاعل، فما يكونه الواحد بالنسبة إلى الآخر، يكون الآخر بالنسبة إليه، فهذه طردية العلاقات، وما كان هذا هكذا إلا لأنه لا يوجد بالنسبة إلى الذات مكان استثنائي تنفرد بنفسها، هي خاضعة إلى نظام التبادل، فهي في نظام استبدالي.
ولا ريب أن العلاقات التبادلية تظهر أحيانا غير تقابلية، أي تظهر بوصفها علاقة تحسم بشأن المعاصرة، أي يكون الطرفان متباينين، هذه الملحوظة نرصدها حين نرى الفقير، والضعيف والعاجز، ويكون الآخر الغني والقوي والقادر. هنا يمكننا القول إن العلاقة الغيرية ليست مكانية، ولا تصورية؛ العدل المطلق ينفي التفاضل ولا يمكن أن يكون ممكنا.
وفي نهاية المطاف يتبين أن هذا الكتاب لا يقدم مساعدة فقط في الحوار مع الآخر، وإنما يساعد أيضا على فهم الذات بشكل أفضل، وفهم الزمن بشكل أدق، ومدى تلاؤم الزمن مع الآخر، وإن بدا لنا عدم التلاقي، فالزمن يعني الديمومة من العلاقات، ومن الاستلهام من الآخر، وهو تفاعل أبدي لا ينقطع.
----------------------------------------
عنوان الكتاب: الزمن والآخر
اسم المؤلف: إيمانويل ليفانيس
اسم المترجم: منذر عياشي
الموضوع: فكر نقدي فلسفي
عدد الصفحات: 75 ص
الطبعة: 2015م
الناشر: دار نينوى للدراسات والنشر
