الأطلس السياسي للمتوسط 2016

الأطلس السياسي للمتوسط 2016.jpg

فرانشيسكو أنجيلوني وأندريا أونغاري

عزالدين عناية*

يصدر هذا الأطلس الجيوسياسي، الذي أنجزه فريق من الباحثين الإيطاليين المتعاونين مع معهد سان بيو للدراسات السياسية في إيطاليا، في ظرف تشهد فيه ساحة المتوسط توترات عميقة، تبلغ آثارها مختلف شعوب المنطقة، أبرزها المسألة الأمنية التي صارت هاجسًا يؤرق الجميع، ومسألة الهجرة القسرية التي تدفع بمئات الألوف للرحيل من جنوب المتوسط إلى شماله.

ينقسم الكتاب إلى قسمين متفاوتين من حيث الطول. في القسم الأول وهو بمثابة مدخل تمهيدي، تطالعنا مقالتان تُعنى كلتاهما بموضوعين لافتين يبدوان متلازمين: الأول بعنوان "الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي: من الربيع العربي إلى تنظيم الدولة الإسلامية" من إعداد ألفريدو ماكي والثاني بعنوان "تنظيم الدولة الإسلامية: مولد وصعود نموذج جديد في الإرهاب الدولي" من إعداد غابرييل ياكوفينو. يستهل كاتب الموضوع الأول حديثه بعبارة "لم يعد لشمال إفريقيا والشرق الأوسط أثر، بالشكل الذي عهدناهما عليه في القرن الفائت"، فالمنطقة تشهد تحولا متسارعا. مبرزا التلازم الذي نعيشه في الوقت الحالي بين أعمال الإرهاب وتوظيف الإعلام. حيث نجد قرابة 700 قناة تلفزية عربية، ثلاثين منها تبث على مدى 24 ساعة. تركز تركيزًا قويا على المادة الإخبارية السياسية التي تخدم توجهات سياسية محددة، أحيانا متضاربة إلى حد كبير في ما بينها. هذا الجو يبدو مشحونا بتدافع سياسي يهدف إلى السيطرة على عقل المتابع قبل البحث عن ترقية وعيه. فالقنوات العربية الإخبارية كما يُبرز التقرير في مجملها قنوات تخدم أجندات سياسية، قبل أن تكون قنوات مستقلة.

تطرقت المقالة إلى دور وسائل الإعلام إبّان مرحلة تفجر الربيع العربي، يورد الكاتب أن السلطات القائمة حينها أبانت عن عجز في صدّ جيش متنوع من وسائل الإعلام، متكون من القنوات التلفزية والهواتف النقالة والحواسيب، وهو ما تجلى بامتياز في تغطية الثورة التونسية. مبرزا كاتب التقرير وقائع عجز أنظمة ما قبل الربيع العربي، من خلال استعادة الدور الذي قام به الإعلام الدولي في تأجيج الثورات وتغطيتها. ناهيك عن دور "الويب" في تأجيج الثورات العربية، وإن كان فعله محدودا بين أقلية من الشرائح الشبابية. فتونس البلد الأكثر استعمالا لوسائل الاتصال الحديثة بين بلدان المنطقة كانت ثورتها في الواقع مدينةً في جانب منها إلى هذه الوسائل. وقد تطور الأمر مع الثورات المتناسلة من الثورة التونسية ببروز ظاهرة "المواطنين المراسلين"، وهي ظواهر ترافقت مع تفجر استعمال وسائل الاتصال الحديثة التي باتت حاضرة بقوة وبالغة التأثير. ودائما ضمن معالجة مسألة الميديا يطالعنا تحليل معنون بـ"داعش وميديا الرعب" يعتبر فيه الكاتب استعمال تنظيم الدولة الإسلامية لوسائل الاتصال قفزة نوعية ضمن توظيف التقنيات الحديثة بوصف ذلك جهادا إلكترونيا لم يعهده المتابعون للتنظيمات الإرهابية والحركات المتطرفة. ذلك أن مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية والمنضوين تحت لوائه باتت الصورة المشهدية الطاغية عليهم تتلخص في تأبط الواحد منهم كلاشينكوف والإمساك بجهاز سمارت فون وامتلاك حساب على تويتر وصفحة فيسبوك. إنهم "مجاهدو الديجيتال"، كما يسميهم الكاتب، الذين ما عادت تنطبق عليهم خصوصيات الجهاديين التقليديين، بل صاروا من أكثر المغامرين ولعا بآخر التطورات التقنية الموظَّفة لغرض نضالي متشدد. مختتما الكاتب بحثه بقول: إن الرد الغربي المرتبك على توظيف داعش وسائل الاتصال الحديثة هو رد غير كاف، يتطلب حزما للوقوف ضد هذا التوظيف الدعائي العنيف لوسائل الاتصال.

ودائما ضمن ذلك المدخل التمهيدي للأطلس، تأتي المقالة الثانية من الكتاب الواردة في القسم الأول، بقلم غابرييل ياكوفينو، بمثابة سرد تاريخي لنشأة وتطور تنظيميْ "القاعدة" و"الدولة الإسلامية". حيث تضعنا المقالة أمام مناخ توتر عام يخيم على المنطقة. يستهل فيه الكاتب حديثه بالتطرق لأوضاع المنطقة بتناول قضية تأثير زلزال ما يسمى بـ"الربيع العربي"، ما جعل المنطقة تقف على مفترق طرق بين التحول الديمقراطي والانزلاق نحو الحرب الأهلية. فتونس مهد الربيع العربي، وعلى سبيل المثال، تتجه نحو ديمقراطية مرتابة مرفوقة بعلامات إيجابية في تجاوز عسر الولادة المصحوبة بمطالب اجتماعية كثيفة تثقل مسار التحول. في مقابل ذلك نجد ليبيا وسوريا اللتين تشهد كلتاهما تشظيا سياسيا مخلفا أوضاعا أمنية شائكة باتت خارج السيطرة وتهدد بالامتداد نحو الخارج، في مقابل تراجع بشائر الديمقراطية في مصر والتحول نحو حكم ذي طابع سلطوي.

في مقارنة بين تنظيميْ "القاعدة" و"الدولة الإسلامية" يُبرزُ كاتب المقالة أن النشاط المتطور للتنظيم الأخير، إلى حد الترويج لتشكيل دولة، وإن كانت دولة هلامية غير حدودية، يعود بالأساس إلى ضعف بناء الدولة العربية التقليدية وانخرام نظامها الاجتماعي واضطراب مقوماتها، ما جعلها عرضة لتحديات متنوعة. فما كان "تنظيم القاعدة" في ما مضى يجرؤ على فعل ما فعله "تنظيم الدولة الإسلامية" لو لا ما حصل من انخرام في بنية الدولة العربية بعد رحيل أنظمة سلطوية كانت قادرة على ضبط الأمور وإن جاء بأسلوب عنيف.

في القسم الثاني من الكتاب وهو القسم الأوسع والأكثر تدقيقا في تناول قضايا البلدان الواقعة جنوب المتوسط، يُعنى كل مبحث من مباحث التقرير بدولة من دول المنطقة: وهي على التوالي المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر ولبنان وسوريا وتركيا والسلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل ناهيك عن الأردن وإن لم ينتمِ جغرافيا إلى الدول المطلة على المتوسط. فالأوضاع السائدة في هذه البلدان تشي بقطيعة جذرية مع الماضي وتلمح بتحولات لا عهد للمتوسط بها بعد دخول لاعب سياسي عنيف متمثل في الإرهاب وغير خاضع للأنماط التقليدية مما أدخل ارتباكا قويا على العلاقات بين ضفتي المتوسط.

المغرب: ضمن قائمة التقارير المخصصة لتلك الدول يستعرض كاتب التقرير أوضاع المغرب السياسية والاقتصادية منذ الاستقلال وإلى غاية فترة حكم الملك محمد السادس. يتحدث الكاتب عن الاعتدال السياسي في الأوساط السياسية المغربية التي استطاعت دمج الإسلام السياسي مما جنبها سلسلة من الهزات. فقد اجتازت المملكة الربيع العربي بأضرار أقل مقارنة بغيرها من الدول. ولعل السياسة الواقعية للمغرب هي ما جعلته يغنم من الربيع العربي أكثر مما يخسر، متجليا ذلك في ترسيخ الإصلاحات السياسية والسير نحو تبيئة الديمقراطية، ناهيك عما غنمه البلد من مغانم اقتصادية في أجواء عالمية تخيم عليها الأزمة. فمع السنوات الخمس الأخيرة غنم المغرب من السياحة، بفعل الأضرار التي لحقت بمنافسيه، ما لم يغنمه في سنوات سابقة. كما أن السنوات الأخيرة ترافقت في المغرب بتقلص ظاهرة الإرهاب وهو ما انعكس على جلب العديد من المستثمرين الأجانب. وبشكل عام لم يكن تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية على المغرب بالحدة التي عرفتها بلدان مغاربية أخرى، والأمر يعود للهدوء النسبي للأوضاع، لكن تبقى الهواجس الأمنية حاضرة بقوة برغم عدم وجود هزات عنيفة، فهناك سياسة أمنية استباقية تميز المغرب.

الجزائر: يتناول كاتب التقرير الأوضاع السياسية في الجزائر، منطلقا مما يُعرف بالعشرية السوداء التي شهدها البلد وهي فترة حرجة أربكت الدولة. خاضت فيها حربا شرسة ضد الإرهاب مع ضمان حد أدنى من الحرية للتوجهات الإسلامية المعتدلة، ودون اجتثاث أعمى للإسلام السياسي. مبرزا كاتب المقالة أن عدم نضج الحركة الإسلامية في الجزائر (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) أدخل اضطرابا على علاقة الإسلام السياسي بالدولة. فالقيادات السياسية للجبهة هي قيادات شعبوية وهو ما خلق توترات حادة مع السلطة السياسية.

يلاحظ كاتب التقرير عدم وضوح مستقبل الجزائر السياسي، فترة ما بعد بوتفليقة، بفعل مطالب اجتماعية شبابية متنوعة وعدم حدوث تحول اجتماعي يستوعب الشرائح الجديدة المتعلمة. وصحيح أن ما يميز الجزائر هو الديمقراطية الوطنية، غير أن هيمنة الجيش على معظم هياكل الدولة وقدرته الواسعة على التدخل يبقى ما يشوب هذا المسار بالعطل. وصحيح أن الجيش هو الراعي والحامي للدولة، غير أن دوره الوصائي سلب تشكيلات سياسية واسعة بلوغ مرحلة النضج السياسي.

لكن ما يلاحظه التقرير، بفعل مساندة نظام الحكم لقضية البوليساريو، محدودية استغلال الجزائر مجالها المغاربي بشكل فاعل وعملي، خصوصا وأن الجزائر تبدو مغلقة على القطر المغربي من حيث التعاون الاقتصادي، ينضاف إلى ذلك توتر الأوضاع الأمنية في الجارة ليبيا والخشية من تدخل خارجي، قد تكون انعكاساته وخيمة على الجزائر. يختتم كاتب التقرير مقالته بالحديث عن تواجد عائق كبير في الجزائر يتمثل في تردي الإدارة وتلوثها بداء البيروقراطية، وأثر ذلك على العصب التنظيمي للدورة الاجتماعية.

تونس: تبدو تونس الحالية أمام تحول عميق باتجاه الجمهورية الثانية بعد أن تخلصت من الديكتاتورية، لكنها تبقى في مواجهة أزمة اجتماعية مستفحلة ومطالب شرائح واسعة من الدارسين والخرّيجين الجامعيين. وصحيح أن الأمور، في عهد الرئيس المخلوع بن علي، كانت تحت السيطرة، غير أنها بقبضة من حديد، وبالمثل إن تطورا اقتصاديا حصل غير أنه كان لصالح بورجوازية ناشئة لم تتوان في ترسيخ تفاوت اجتماعي فجّ.

نجحت الثورة التونسية في ظلّ زلازل سياسية اجتاحت المنطقة، غير أنها تبقى رهينة المسألة الاقتصادية، وهي العائق الأكبر أمام ترسيخ الديمقراطية. من جانب آخر أبرز الإسلام السياسي في تونس، ممثلا في حركة النهضة، نضجا في التعامل مع الساحة التونسية، من خلال تبني مفهوم المشاركة السياسية وعدم احتكار نتائج الثورة، لكن يبقى الإسلام السياسي النهضوي –نسبة لحركة النهضة- غير قادر حتى الراهن على إغراء التوجهات الدينية الأخرى، مثل السلفية والجهادية، التي تعتبر حركة النهضة انحرافا عن الخط العام للإسلام السياسي وارتماء في أحضان الاستكبار.

ليبيا: تكاد ليبيا اليوم، كما يصوّرها التقرير، تنحدر إلى مجتمع اللا دولة أمام التشظي السياسي الحاد للبلد والتخندق داخل تكتلات متناحرة. لكن الجلي في التوزع الجديد دخول لاعب داعش الخارج عن السيطرة، وهو ما يعكر الأمور أكثر، ما يجعل البلد ينطبق عليه توصيف "الدولة الفاشلة" على حد تعبير كاتب المقال، بعد فشل العديد من مبادرات التسوية بما يضع البلد أمام تدخل أجنبي وشيك، قد يعمّق من هوة التشظي ويفاقم من مخاطر التدويل.

مصر: الطفرة الإنمائية الشعبية التي تحققت إبّان الفترة الناصرية تبخرت أمام تشكل بورجوازية جشعة، ظهرت مع فترة السادات وتدعّمت مع فترة مبارك، باتت تحتكر موارد الدولة وتتحكم بمفاصل الاقتصاد المصري. هذا الأخطبوط الجاثم على الاقتصاد المصري الذي انطلق مع حقبة السادات وتواصل في عهد خلفه هو ما جرّ البلاد نحو أزمة اجتماعية خانقة وفق التقرير.

لقد كانت عملية التصحيح مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، التي أنقذت البلد من الانهيار وخلصت المسار السياسي من احتكار الإخوان، عملية إيجابية بيد أنها لم تُعد البلد إلى مساره الصحيح بفعل هيمنة الرؤية السلطوية والانطلاق في سياسة اجتثاث تتنافى مع الوعود الديمقراطية التي بشرت بها الثورة. وهو ما ولّد توترا خلف تراجع جملة من القطاعات مثل السياحة والاستثمار الخارجي، جعلت البلد يدور في حلقة مفرغة تتميز كما يسميها الكاتب بالثبات السلبي.

إسرائيل: جعلت فترة الاضطرابات العربية إسرائيل في مأمن من التحديات الأمنية، سواء المتأتية من الجبهة اللبنانية أو من الداخل الفلسطيني، لكن حالة الجمود تلك لم تفرز إرادة سلام حقيقية في إسرائيل لتسوية شجاعة للملف الفلسطيني. والوضع الذي تعيشه إسرائيل ينطبق على السلطة الوطنية الفلسطينية في ظل عجزها عن بناء وحدة داخلية بين غزة ورام الله.

لبنان: يبدو لبنان واقعا بشكل مباشر تحت تأثير الحرب الأهلية السورية، سياسيا واقتصاديا. فقد انعكست آثار الحرب بشكل مريع على الوضع اللبناني الهشّ ليبقى البلد يئن تحت وطأة اللاجئين والمهجّرين السوريين.

سوريا: التي باتت ساحة دولية للصراعات، فقدَت وحدتها الترابية وانفجر وضعها الاجتماعي بشكل درامي، وهو ما يشي بصعوبة العودة إلى سوريا التقليدية الناشئة عقب فترة الانتداب. وأمام حالة التدهور المتطور لا يبدو أنّ هناك حلا جديا في الأفق من الأطراف الدولية الفاعلة في الساحة السورية. في وقت تبدو فيه قدرات الشعب السوري غير كافية لتجاوز التدويل الذي انحدرت إليه الأوضاع، ما يجعل الأزمة مرشحة لمزيد من التأزم وِفق ما يرصده التقرير.

الأردن: إن يكن البلد ليس دولة متوسطية فإننا نجده محشورا ضمن سلسلة الدول الواقعة جنوب المتوسط، بوصفه امتدادا سياسيا لجغرافيا التوتر. وبرغم عدم وقوع البلد تحت ضغوطات أمنية وإرهابية مباشرة، على غرار بلدان مجاورة، فإنّ الأردن يبدو متأثرا اقتصاديا بأوضاع الدول المجاورة وبالوضع الإقليمي عامة لا سيما في ظل ضعف موارد البلد وتعويله على الدعم الخارجي. وبفعل أوضاع اللاجئين والمهجّرين السوريين تبدو أوضاع البلد خانقة أمام تواضع الإمكانيات. مع أنّ الأردن من أبرز الدول العربية التي تحاول إقامة علاقات متوازنة مع جميع دول المنطقة ومع الغرب.

تركيا: مع حزب العدالة والتنمية تعيش تركيا تجربة فريدة تتميز بنهضة اقتصادية وانفتاح ديمقراطي، وفي الآن نفسه تبدو وجلة أمام العديد من الملفات الداخلية والإقليمية، مثل القضية الكردية والمسألة السورية. لكن ما يبرزه التقرير أن ثمة خشية من تحول إردوغان إلى "طاغية باسم الديمقراطية" لصالح إسلام سياسي براغماتي. فهناك ريبة يجليها التقرير من زحف النموذج الإردوغاني الذي يُخشى تحويره لبنى تركيا الحديثة.

يتميّز هذا الأطلس، الذي هو في الواقع تقرير جيوسياسي، بعرض واضح لأهم القضايا الشائكة في المنطقة، معتمدًا في ذلك على إحصائيات حديثة في المجالين الاجتماعي والاقتصادي؛ لكن يبقى طابع السرد والتحليل هو الطاغي على مضمون المؤلف دون انتقاد للأوضاع السائدة.

--------------------------------------------------------------

الكتاب: الأطلس السياسي للمتوسط 2016.

إعداد: فرانشيسكو أنجيلوني وأندريا أونغاري.

الناشر: بوردو بالتعاون مع مركز الدراسات العالمية (روما) "باللغة الإيطالية".

سنة النشر: 2016.

عدد الصفحات: 409ص.

 


* أستاذ تونسي بجامعة روما

أخبار ذات صلة