كاملة العبري
ربما يبدو مفهوم الدولة المدنية عندما نستمع إليه لأوَّل مرة وكأنّه يعني "الدولة الحديثة" أو الدولة التي تحكمها مجموعة من القوانين الحديثة، بدون أن يخطر على بالنا أنّ الدولة المدنية مرَّت بأطوار تاريخية وظروف اجتماعية وسياسية وثقافية حتى تبدو كما هي عليه اليوم، وأن هناك فلاسفة ساهموا في نشر خطاب التنوير كفولتير وجان جاك روسو وديفيد هيوم وإيمانويل كانت، مما مهَّد لقيام الثورة الفرنسية التي صاحبتها شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة وفصل الدين عن الدولة إلى أن شكَّلت كل هذه العوامل ما يُعرف بالدولة المدنية اليوم.
مهّد سعيد بن سعيد العلوي لمقاله "الدولة المدنية وخطاب الحركات الإسلامية" بثلاث مقدمات يراها ضرورية، المقدمة الأولى تحدث فيها عن مفهوم الدولة المدنية من حيث إنّها الدولة مثلما تمثل في الفكر السياسي الحديث والدولة على النحو الذي يشرع لها الفقه الدستوري المُعاصر. وعن دور مؤرخ الفكر في إلقاء الضوء على الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية التي تُساعد في قيام هذه الدولة.
المُقدمة الثانية تحدث فيها عن الحركات الإسلامية المعاصرة، التي تعددت مُسمياتها ما بين حركة الاحتجاج السياسي بواسطة الدين الإسلامي أو الإسلام الاحتجاجي، أو كما يطلق عليها في الغرب بالإسلام الجهادي، وهذه الحركات ترى أنّ الحكم في زمن الخلافة الراشدة هو نموذج الحكم المثالي الذي يجب أن يُطبق اليوم. ونوَّه العلوي باختلاف مواقف الحركات الإسلامية من أنظمة الحكم السائدة ما بين رافض للنظام وما بين من يحمل السلاح ويستخدم العُنف لمحاولة تغيير النظام. وليس أدل على ذلك مما حدث في الجزائر في التسعينيات أو ما يعرف بـ" العشرية السوداء".
المقدمة الثالثة والأخيرة تحدَّث فيها العلوي عن النقلات التاريخية المُهمة للحركات السياسية الإسلامية وهي فترة الثلاثينيات والستينيات، الثلاثينيات تمثلت في حركة إسلامية سياسية هي الإخوان المُسلمين والستينيات تمثلت في إعدام سيد قطب الذي دون أفكاره في العديد من كتبه.
يجب أن أوضح هنا في هذه النقطة دور الظروف السياسية في هذه المراحل- الثلاثينيات والستينيات- في نشوء الحركات الإسلامية السياسية، ففي فترة الثلاثينيات ساهم الاستعمار في مصر والرغبة في التعبير عن الهوية الإسلامية مُقابل الهوية الغربية بطريقة غير مباشرة في نشوء هذه الحركات.
أما في فترة الستينيات، فقد خلف فشل المشروع القومي العروبي وفشل الشيوعية في البلدان العربية الرغبة في البحث عن مشروع بديل يحل محل هذه المشاريع السياسية. هنا سيؤرخ الكاتب في مقاله لنموذجين من الخطاب الإسلامي، أحدهما للإخوان المسلمين "مجموعة رسائل الإمام حسن البنا"، والآخر لسيد قطب في كتابه "معالم في الطريق".
الدولة المدنية في خطاب الإخوان المُسلمين :
يوضح العلوي هنا كيف يرى الإخوان المسلمون شكل الدولة، حيث يرى مؤسس الجماعة حسن البنا أنّ الحركة هي دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، كما تشمل الجانب الرياضي " لأنّهم يعنون بجسومهم ويعلمون أنّ المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف" وهي أيضًا رابطة علمية وثقافية واقتصادية " لأنّ الإسلام يعنى بتدبير المال وكسبه من وجهه" وفكرة اجتماعية. مما يبين أن حسن البنا يرى أن جماعته شملت كل الجوانب المهمة في الحياة. كما أنّ الإخوان المسلمين كما يرى البنا هيئة سياسية تعمل على إصلاح الحكم، وذلك ما تشترك فيه جميع حركات الإسلام السياسي وهو رغبتها في إقامة حكم إسلامي يرون أنّه النموذج الصحيح لطريقة الحكم. وقد تكون هذه الفكرة – هيئة سياسية – هي الأبرز من غيرها من الأفكار. يقول البنا " الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون بجعل الحكومة ركناً من أركانه ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد (....) والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقيهات والفروع" مما يوحي بشكل واضح الهدف الذي ترومه هذه الجماعة وهو الحكم. وقد وضح العلوي للقارئ الفرق بين العقائد والفقهيات، حيث إنّ العقائد تعني القطعيات والمسلمات التي لا تقبل جدلاً ولا تحتمل تأويلاً، أما الفقهيات فهي من الظنيات.
ويقول البنا أيضاً "وبيان ذلك أنّ الإخوان يعتقدون أنّ الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام وأنّها شريعة إسلامية يجب على المُسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها، والخلاف مناط كثير من الأحكام في دين الله، ولذلك قدَّم الصحابة – رضوان الله عليهم – النظر في شأنها على النظر في تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه (...) والأحاديث التي وردت في وجوب نصب الإمام (....) لا تدع مجالاً للشك في أنّ من واجب المُسلمين أن يهتموا بالتفكير في أمر خلافتهم منذ حورت عن مناهجها ثم ألغيت بتاتا على الآن" مما يدل على مركزية موضوع الخلافة في فكر الحركة.
وكما بين الكاتب أنّ الحركة لا تعتبر أن هناك تعارضا بين أفكارهم والحكم المدني، فالدستور هو الإسلام، والاعتراض لا يكون على الدستور باعتباره قانونا أسمى يكون الاحتكام إليه، وإنما الاعتراض على القوانين والتشريعات التي يعمل بها، حيث يقول البنا "يعتقد الإخوان المسلمون أنّ نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام. وهم لا يعدلون به (.....) فنحن نسلم بالمبادئ السياسية للحكم الدستوري باعتبارها متفقة، بل مستمدة من نظام الإسلام".
الإسلام والجاهلية أو الإسلام والدولة المدنية:
الأمر فيما يتعلق بالدولة والمجتمع بالنسبة لسيد قطب يكاد يكون "إثنينية مطلقة" فإما أبيض أو أسود فلا وجود لمنطقة رمادية، فالدولة والمجتمعات إما أن تكون إسلامية أو جاهلية، كيف تكون جاهلية؟ حسنًا، يستشهد الكاتب بعدد من أقوال سيد قطب، منها "نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم. كل ما حولنا جاهلية.. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم". ويصف سيد قطب خصائص المجتمع الجاهلي" كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده.. متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي، والشرائع التعبدية، وفي الشرائع القانونية "إلى قوله في موضع آخر هو كل مجتمع" لا تكون فيه الحاكمية العليا لله – سبحانه –".
وإن كان الإخوان المسلمون يعترفون بالدستور، فسيد قطب لا يعترف بذلك، حيث يقول" فلا تبلغ لنا الهزيمة أن نلتمس للإسلام مشابهات في بعض الأنظمة القائمة، وفي بعض المذاهب القائمة، وفي بعض الأفكار القائمة فنحن نرفض هذه الأنظمة في الشرق والغرب على السواء".
ختاما، يرى الكاتب أنّ حركة الشيخ البنا أكثر اعتدالا من حركة سيد قطب التي يغلب فيها التعصب أكثر. كما استطاع الكاتب في هذا المقال أن يحلل خطاب حركتين إسلاميتين ورؤية كل منهما للدولة المدنية، لكنه أفرد مساحة أوسع للحديث عن الإخوان المُسلمين على خلاف حديثه عن سيد قطب، مع هذا تظل المقالة غنية جدًا بالتحليل الوافي عن الدولة المدنية ورؤية الحركات الإسلامية لها، كما يتَّسم المقال بتسلسل الأفكار وتنظيمها مما يجعله سهلا للقارئ.
