المواطنة لا تعني حب الوطن فقط

عبدالله العلوي

لعل هناك غموضًا ما في فهم المواطنة الحقيقية للدولة الحديثة، وقد تكون من بين الإشكاليات المهمة التي يجب وضعها في الحسبان، ووضعها ضمن الإطار الدستوري للدولة، وقد تحدث العلماء والفلاسفة قديمًا وحديثًا عن مفهوم المواطنة الدستورية، ذلك لأنّه مفهوم المواطنة له اعتبارات تاريخية واجتماعية ودستورية وسياسية لكل دولة قائمة، ففي مقال الباحث الموريتاني عبدالله السيد ولد أباه الذي عنوانه :"المواطنة في عصر ما بعد الدولة الوطنية (مفهوم المواطنة الدستورية لدى هابرماس)" حاول أن يبرز الأفكار العامة حول فكرة المواطنة في الدولة الحديثة.

تباينت التعاريف حول مصطلح المواطنة، وكلها تنصب على وجود طرفين، الأول: فرد (المواطن) والثاني جهة (الدولة) فدائرة المعارف البريطانية عرفتها بأنها: "علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون الدولة، وبما تتضمن تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة"، أمّا موسوعة كولير الأمريكية فاختصرتها في سبع كلمات فكان تعريفها: "أكثر أشكال العضوية في جماعة سياسية اكتمالًا"، ويمكن أن نقول إّن تعريف الناشط السوري الحقوقي حسان أيو هو أشمل تعريف للمواطنة حيث يقول "إنّ المواطنة هي انتماء الإنسان إلى بقعة، أي الإنسان الذي يستقر بشكل ثابت داخل الدولة أو يحمل جنسيّتها ويكون مشاركًا في الحكم ويخضع للقوانين الصادرة عنها، ويتمتع بشكل متساو مع بقيّة المواطنين بمجموعة من الحقوق ويلتزم بأداء مجموعة من الواجبات تجاه الدولة التي ينتمي إليها".

مرّ مفهوم المواطنة عبر التاريخ البشري بعدة مراحل في فهمه، يقول الدكتور/ عثمان بن صالح العامر: "لقد اقترن مبدأ المواطنة بحركة نضال التاريخ الإنساني من أجل العدل والمساوة والإنصاف، وكل ذلك قبل أن يستقر مصطلح المواطنة وما يقاربه من مصطلحات في الأدبيّات السياسيّة والفكريّة والتربوية"، ويقول الدكتور/ غازي التوبة: "يظن كثير أنّ المواطنة تعني "حب الوطن" ولكن الحقيقة أنّها لا تعني ذلك فقط، بل هي مفهوم غربي بدأ قبل الميلاد مع الحضارتين اليونانية والرومانية، وكان له معنى خاص في هاتين الحضارتين، وكان له تميّز بين مضمون المواطنة في كل من مدينة أثينا، ومدينة اسبارطة (المدينتين اليونانيتين) ثم أخذ معنى آخر في مرحلة العصور الوسطى في أوروبا، ثم أصبح له معنى ثالث في العصور الحديثة".

إذن يحكم تاريخ المواطنة مفهوم الدولة ونشأتها وكيفية معيشتها في التاريخ الإنساني، فالإنسان كان يعيش مع بعضه البعض، وينشئ قانونًا بنفسه، يتفق فيه مع غيره ممن سيعيش معه في ذلك المجال الجغرافي، كي يؤمن لنفسه الأمان، ولعائلته، ويبدو أنّه من الصعوبة تحديد تاريخ لنشأة الدولة كي نستطيع أن نقول أن المواطنة بدأت في تاريخ معين، كما أن البحث في هذا الأمر فراغ، والبحث عن فراغ هو في حد ذاته فراغ، فالدولة هي ظاهرة اجتماعية ترجع أصولها إلى الحضارات القديمة، وهي عبارة عن تفاعلات متباينة للأوضاع المختلفة سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها، وقد حاول العلماء والفلاسفة إيجاد نظريات لذلك، فهناك نظريات الثيوقراطية وهي نظريات دينية إما أن تجعل الحاكم إلهًا، فإطاعته من الوطنية والمواطنة الصادقة كما نجده عند الفراعنة حيث قال فرعون:« أنا ربكم الاعلى »، وإما أن تجد الحاكم هو شبه إله كما عند الحضارات الهندية القديمة فقد عدو "ابراهما" شبه إله، وإما أن يكون الحاكم هو مفوّض من الله أي يحكم باسم الإله فيجب على جميع البشر طاعته وهذا ما وجدناه في عصور الظلام في أوروبا، حيث روّج علماء الدين آنذاك بأنّ قسطنطين مفوّض من قبل الله تفويضًا مباشرًا، وإمّا أن يكون هناك تفويض غير مباشر، أي أنّ الرب يوجّه الحوادث والأمور بشكل معيّن كي يختار البشر هذا الحاكم.

جاءت بعدها النظرية الوراثية وهي نظرية قامت على الإقطاع، فأصبح الحكم وراثيًا يتبع أبا عن جد، فصار الحكم محصورًا على عوائل معينة، بحيث إنّ الأرض مملوكة لعائلة معينة وهي لها الحق بالتصرّف بالأرض، ثم نظرية العضوية والنظرية النفسية ونظرية التطور العائلي وهي النظرية التي جاء بها أرسطو فيرى "أنّ الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، ولا يستطيع أن يعيش منعزلًا، فهو يشعر بميل غريزي للاجتماع، فيلتقي الذكر بالأنثى مكونين بذلك وحدة اجتماعيّة صغيرة وهي الأسرة، وتتفرع الأسرة وتتشعب مكونة العائلة، فالعشيرة فالمدينة التي هي نواة الدولة"

تتابعت بعدها النظريات الاجتماعيّة والنظريات القانونية، ولكن شدت انتباهي نظرية القوة والضعف التي جاء بها المفكر الفرنسي "جان بودان" فقد أدخل عنصر القوة في نشأة الدولة على أساس أنّ الحروب والصراعات بين العائلات أدت إلى سيطرة الأقوى على الأضعف وبالتالي أصبح المنتصر الأقوى يمثل فئة الحكام بينما المهزوم الأضعف هو المحكوم، ويبدو أنّ هذا المفهوم هو السائد في نشأة الدولة العربية في العصور القديمة.

ظهرت في العصور المتقدمة النظريات المختلفة التي تنظم الدولة الواحدة، وهذا يخص القرن الماضي بالتحديد، فقد برزت للعيان أنواع مختلفة للحكومات، فهناك الدولة القوميّة، وهناك الدولة الليبرالية، وهناك الدولة الديمقراطية، ودولة القانون وغيرها من الدول، فالدولة القومية التي تقوم على ألوهية الوطن والأمة والقوم، فهم يرون أنّ الأمة هي أساس الحكم، وربما ظهور الثورة الفرنسية في عام 1789م هو سبب من الأسباب المباشرة لظهور الدولة القومية، والدولة الليبرالية هي التي تنحاز لحرية الشعوب في ممارستهم لحقوقهم، والدولة الديمقراطية هي التي تفسح للشعوب المشاركة في الحكم وفي سياسة الحكومة، ودولة القانون أي أنّ الدولة تقوم على قانون ينظم حق الفرد والسلطات المختلفة في الدولة.

ولقد نادى الكثير من الأوروبيين بحق المشاركة في الحكم، وحق الأفراد في مشاركة الحكومات في اتخاذ القرارات، كما نادوا بالحريّات المفرطة للشعوب، وهذه هو الاتجاه الذي نادى به الليبراليون الكلاسيكيون، فهم يرون أنّ المواطن يجب أن يتمتع بحريات واسعة كبيرة جدًا، وأنّ الدولة لا تتدخل أبدًا في حريات الناس، إلا أنّ الليبرالية الكلاسيكية لم تصمد كثيرًا فسقطت شيئًا فشيئًا إلى أن بقي لها الجذور فقط، وحلت الليبرالية الجديدة محلها حيث تدعو الليبرالية الجديدة إلى العدالة الاجتماعيّة، وتهدف إلى جعل المجتمع متفقًا فيما بينه وتسمح للدولة بأن تتدخل في التنظيم، ووضع معايير أكثر إيجابية للتحقق من وجود فرص متساوية للأفراد لنيل الحرية والنجاح، كما تدعو بأن الحرية المطلقة لا يمكن تحقيقها إلا في ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية ملائمة.

إن إشراك الفرد أو المواطن في الأمور السياسية إشراكًا مطلقًا ومباشرًا لا يمكن أن نعده من الديمقراطية بحجة المواطنة الدستورية، وكي يكون المواطن ذا دراية بدستوره، فليس كل أفراد الدولة الوحدة لهم اطلاع موسع بالسياسات والعلوم القانونية، ولكن فتح المجال للدولة بأن ترشح من هم يرون فيه الشخص الذي يحقق مصالهم وحرياتهم، والحريات المطلقة أمر يجعل الأمة دون تنظيم من الدولة.

بعد المرور على تلك النظريات القديمة والحديثة في مفهوم الدولة والعلاقة بين الدولة والفرد، فتحقيق المواطنة الحقيقية لا بد أن يكون نابعا في ذات كل فرد من أفراد الدولة نفسها بداية من الحاكم إلى أضعف فرد من أفراد الدولة، فكلهم ينتمون لهذه الأرض، وكلهم يحبون وطنهم، فالمواطنة كما يقول الدكتور غازي التوبة: "هو مفهوم ذو مضمون ثقافي وسياسي واجتماعي واقتصادي...إلخ ولا يعني حب الوطن فقط، وهو مرتبط بتكون (الوطن – الأمّة) نتيجة عناصر ثقافيّة وسياسيّة واجتماعيّة واقتصادية ودينية في عصور متتالية، وقد فشل الفكر القومي العربي الذي قاد المنطقة في المائة سنة الماضية في توليد قيمة "المواطنة" لأنّه فشل في تحديد عوامل بناء الأمة، لذلك لجأ إلى الروابط الدنيا من طائفية وقبلية، وعمل على إحيائها من أجل إحكام سيطرته على شعوب المنطقة".

 

 

أخبار ذات صلة