قانون التأويل عند الغزالي وابن رشد

ناصر الحارثي

تحدَّث زهير الخويلدي حول العلاقة بين ابن رشد والغزالي في مقاله بعنوان "تهافت الخصومة بين الغزالي وابن رشد حول قانون التأويل"، منطلقاً من زاوية جديدة حول طبيعة الخلاف بينهما وهي زاوية التأويل، مبينًا أنّ التأويل أحد أهم المداخل لفهم آراء القطبين والذي يكشف الكثير من النقاط المُشتركة بينهما في التعامل مع النص الديني، لذلك كان استعراض الخويلدي لقانون التأويل والتصنيف ومنهجية التأويل عند الغزالي مهماً جدًا في وضع نقاط التقاطع والتباين مع ابن رشد من خلال استيضاح ماهية التأويل عند ابن رشد وكيف تعامل معها وعلاقته بالقياس البرهاني.

قانون التأويل عند الغزالي

لقد صنَّف الغزالي القائلين بالتأويل إلى خمسة أصناف وهم القانعون بظاهر المنقول، المغالون في المعقول، الذين يجعلون المعقول أصلاً والمنقول تابعًا والذين يجعلون المنقول أصلاً والمعقول تابعًا، ولقد اعتبر الصنف الأول قابعاً في الجهل والتقصير والصنف الثاني مستخفاً بالشرع ورأى أيضًا بأنّ الصنف الثالث والرابع جانبهما الصواب في التأويل، وأن الصواب في اتباع الصنف الذي يوازن بين المعقول والمنقول ويعتبرهما أصلين مُهمين وأنّ هذه الفرقة هي الناجية لأنّها أنكرت التعارض بين الأصلين وابتعدت عن التفريق واقتربت من التأليف، وأما في آلية التعامل مع هذا النهج في التأويل في الأمور الغيبية فلقد ترك الغزالي ثلاث وصايا وهي عدم الطمع في الاطلاع على الأمور الغيبية وعدم تكذيب العقل لأنّه لا يتعارض مع الشرع والوصية الثالثة أن يبتعد عن التأويل لأنّ تأويل الغيبيات يغلبه الظنون، لذا نجد أنّ الغزالي لا ينظر إلى التأويل كوسيلة للمعرفة وطريق للوصول إلى الحقيقة بل كمقام للإنسان في العالم ودلالة وجود وهذا ما يُبين حداثة فكر الغزالي.

أما في قضية التكفير المنسوبة للغزالي فيُوضح الكاتب أنّ الغزالي يعترف بصعوبة التكفير حيث إنّ الغزالي عرَّف الكفر "أنّه تكذيب في شيء مما جاء به النبي وحقيقة الاعتراف بوجوه ما أخبر به الرسول عن وجوده له خمس مراتب وهو الوجود الذاتي والحسي والخيالي والعقلي والشبهي ومن اعترف بوجود النبي بوجه من هذه الوجوه الخمسة فليس بمكذب على الإطلاق،" وبالتالي فإنّ الغزالي بهذا المفهوم يضيق دائرة الكفر إلى حد كبير جدًا، حيث إنّه يربط بين قانون التأويل ودرجات الوجود الخمسة فمن لزم هذه الدرجات فهو مُصدق ولا ينبغي تكفيره.

ويمكننا تلخيص فكر الغزالي في قانون التأويل في أنّه لا ينبغي تكفير المؤولين الذين يلزمون دائرة التصديق، وأن كل الفرق الإسلامية على اختلاف مناهجها مضطرة للتأويل، كما أنّه يؤكد أنّ هناك طائفة من الناس تلزم التأويل عن طريق الظن دون الاعتماد على برهان قاطع، وأنّ إشكالية عدد من المؤولين هو اعتمادهم على القريحة في التأويل دون الاحتكام لقانون أو مبدأ، كما أنّ أهم إشكاليات التأويل هو عدم التمايز بين قضايا الوهم وقضايا العقل التي تعتمد على الأساسيات، كما أنّ الغزالي أوضح بأنّ أبعد التأويلات عن الصواب تلك التي تحل المجاز والاستعارة محل الوجود العقلي والوجود الشبهي.

الجدير بالذكر أنّ ردود الفعل حول نظرية الغزالي في التأويل كانت متباينة فهناك فريق اعتبرها نظرية ظاهرية في التأويل في حين صنَّفها فريق في أنّها تتبع التأويل الباطني، ولكن ما لا يُمكن نكرانه أنّ الغزالي ترك أثرًا واضحًا في بغداد خاصة بعد كتابه تهافت الفلاسفة، والذي كان كفيلاً بأن يجعل الناس بين مهاجم للفلاسفة وبين مُلتزم للصمت، وإن كان الحديث الذي كان سائداً هو مسألة قدم العالم ولكن في الحقيقة أن القضية كانت أوسع من ذلك. لذلك تعامل ابن رشد حكيم قرطبة مع فكر الغزالي بمنهجية دقيقة خاصة في كتابه تهافت التهافت، وعليه فإننا يُمكن أن نستوضح من خلال قانون التأويل وردود ابن رشد كيفية تعامله مع محاولة الغزالي انتقاد الفلاسفة وهل هناك صراع حقيقي؟ أم أنّه فقط تباين في آلية استخدام منظار التأويل في التعامل مع النصوص الدينية؟.

قانون التأويل عند ابن رشد

يرى ابن رشد أنّ الأشياء لخفائها لا تعلم إلا بالبرهان وأن البرهان يكون مستعصيًا على النّاس بسبب فطرتهم أو عاداتهم لذلك يقع التصديق على الأشياء المشتركة بين الجميع وهو ما جعل الشرع يقسم الأشياء إلى ظاهر وباطن، والباطن لا ينكشف إلا لأهل البرهان لذا تقسيمها يرجع إلى الأصناف الخمسة التي صنفها الغزالي، وهنا نرى نقطة التقاء بين ابن رشد والغزالي، ولكن ابن رشد حمل على الغزالي في أنّه كفر الفلاسفة في ثلاث مسائل وبدعهم في مسائل أخرى، وبيَّن ابن رشد أن الشرع ينبغي أن يُقرر على ظاهره ولا يسمح للجمهور الجمع بينه وبين الحكمة، فنجد هنا أن قانون التأويل عند ابن رشد يقترب كثيرًا من الغزالي، وأشار ابن رشد إلى أنّ مُهاجمة الغزالي للمُشككين في الوجود هي مهاجمة لمن يقصدون إبطال الشرائع والفضائل وهؤلاء مخالفون للشرع والحكمة، كما أنّ ابن رشد ساند الغزالي في نقده إياهم.

وأما مقاصد التأويل عند ابن رشد والتي استمد بعض مبادئها من الغزالي تتمثل في أنّه التفرد في البحث عن الحكمة، والتوافق بين الحكمة والشرع وأمر الشريعة، وكذلك الاستناد لقانون التأويل لفهم مقاصد الشريعة واتِّباع سنة النبي والاطلاع على مكنونات العلم الإلهي، وأيضًا رفض مغالاة الباطنية واعتماد القياس البرهاني في الموجودات فيرى ابن رشد أنّ التأويل إخراج اللفظ من الدلالة الحقيقة إلى الدلالة المجازية دون إخلال باللسان العربي، لذلك يضع ابن رشد شروطاً وأحكاماً للنّاس في مسألة التأويل ويصنفهم إلى جمهور وأهل جدل وأهل برهان، لذا نجد ابن رشد يغلب القرآن رغم أنه تلميذ أرسطو على الفلسفة لأنه تجاوز البرهان إلى الجدلية والخطابية، كما أنّه يقسم النصوص إلى قطعية لا تأول، ومتشابهة يمكن تأويلها، وأخرى عويصة يجب تأويلها.

ويرى الكاتب أنَّ ابن رشد يُكمل مشروع الغزالي في بناء قانون التأويل حيث إنّ نصوص الغزالي ونظريته لم تجد الوضوح في مسألة التأويل إلا عندما نقدها ابن رُشد، كما أنّ الطرفين يتفقان على أنّه عندما ترد شبهة يجب أن نبادر إلى رد الشبهة وليس التأويل، وأما في نقاط التشابه الأخرى التي يشترك فيها العالمان فهي الإشادة بالعقل ودوره في فهم الشرع والكون، والإشادة بالشريعة ومقاصدها والوفاق بين الحكمة والشرع والعقل والنقل، والاعتماد على علم الكلام في إسكات أهل الجدل، والإيمان بضرورة التأويل، وكذلك الاقتناع بعدم إمكانية الإجماع في الأمور النظرية على خلاف الأمور العملية، أضف إلى ذلك الانحياز إلى التعددية والقول بظنية الإجماع في الفقه، وهنا نجد أنّ الكاتب سعى إلى جمع النقاط المشتركة بين الغزالي وابن رشد رغم التباين في طريقة التنظير في قانون التأويل، رغم أنه برأيي أنّ التوافق الذي سعى إليه الكاتب فيه نوع من تحميل الكلام ما لا يحتمل؛ فالقول بالبرهان عند ابن رشد يختلف عن العقل عند الغزالي، إلا أن محاولة الكاتب أوضحت لنا بعض الملامح المشتركة بين الغزالي الباطني وابن رشد الظاهري.

 

أخبار ذات صلة