العقل الديني.. إلى أين؟!

قَيْس الجهضمي

يتناول صابر الحباشة في مقاله "أسئلة العقل الديني وأدواره" كثيرا من الأسئلة والمحاولات لفَهْم مسار العقل والجدال القائم بينه والنقل، في ظل تطور العالم الإسلامي، وكيف يمون لنقد العقل من أثر إيجابي في التطور الحضاري، وإنَّ من التساؤلات التي يجب أن تُطرَح على الواقع الديني: كيف للعقل الديني أن يأخذ دوره في فهم الواقع والتعامل مع مجريات العصر؟

ويَرَى حباشة أنَّ كثيرا من المحاولات التأويلية التي تَسْعَى لإظهار كيفية استعمال العقل عبر التجريب دائما ما يستعجل أصحابُها النتائج قبل اختبار المعطيات التي اتخذوها لعملية الاختبار على الواقع والفكر، كما أنَّ من آفات الأطروحات الفلسفية في هذا الشأن كونها تبتعد عن مجال التأثير العقلي ويكثر فيها الاشتغال اللفظي.

والناظر في عناوين مشاريع الفكر العربي الإسلامي، يرى كثرةَ حضور العقل فيها، وهو ما يدعو لضرورة الممارسة الفكرية، إلى أن نصل إلى تنظيم الخطاب حول العقل. ويقول الحباشة إننا بحاجة لإقامة مشاريع تقوم على فهم وتوظيف العلوم الحديثة والتراثية لمقاربة العقل في النص الديني؛ بما يُعطِي صورة تكاملية وموضوعية تتناسب مع الواقع، وأنَّ مشروع العقلانية ضروري لمواكبة التطور في كل الجوانب، إضافة إلى ما تنتجه العقلانية من توازن داخل الوسط الإسلامي لتجاوز جدليات الواقع وتقبل الآخر.

العقل والخطاب الديني:

يذكر الحباشة أنَّ كلمة "عقل" وردتْ في القرآن الكريم بصيغة فعلية، وهذا دليل على أنَّ العقل الإسلامي هو عقل مُتحرِّك ومتجدِّد، كما أنَّ صورة العقل في النصوص القديمة تتمثل في أنه أداة غريزية، ثم إنَّ هذه الأداة تنتج الأفكار لتكوِّن حصيلة معرفية عن طريق الإدراك، وهو ما يُسمِّيه البعض "العقل المكتسب"، وقد حصل العقل على مكانة كبيرة كونه يستعمل في استخلاص المعنى من النص والاستنباط والاستدلال في الأحكام الشرعية، ومن جانب آخر كونه من شروط التكليف، وأدَّى تصنيف العلوم في الحضارة العربية إلى "علوم الدين" -ذات المكانة العليا- و"علوم دنيوية" -أقل منها مكانة- إلى تهافت الناس للعلوم الدينية وترك العلوم الأخرى؛ مما أدى للتخلف في المجالات العلمية والتقنية، وما تلى ذلك من استعمار في الأراضي العربية، ثم يتحدَّث الحباشة عن العقل بأنه في التقاليد العربية الإسلامية يضطلع بمهمة التأويل و"التأويل هو نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ"، واستعمل السلف لفظ التأويل بمعنيين: الأول هو التفسير، والثاني بمعنى المآل والعاقبة كما ورد في القرآن الكريم.

 

العقل والتصوف:

ويأخذ الحباشة كتاب المحاسبي "فهم العقل" كمثال اهتمَّ بقضايا العقل، ويوضح العلاقة بين التصوف والعقل في حقبة التصوف المبكر، ثم يذكر المحاسبي في باب "ماهية العقل وحقيقة معناه" أن للتسمية ثلاثة معانٍ "إحداها هو معناه لا معنى له غيره في الحقيقة" وهو الغريزة التي وضعها الله في الإنسان، أما المعنيان الآخران فقد اعتبرهما من الأسماء التي جوزتها العرب على العقل، وهما مرتبطان بالمعنى الحقيقي للعقل إذ يقول "كانا عنه فعلا، لا يكونان إلا به ومنه"، ولعلها إشارة الى افتتان العرب بالعقل إذ عدَّدت مسمياته، ويفند المحاسبي العملية العقلية أنها بحاجة لأداة إدراك وموضوع إدراك، فربما قصد بالأداة الحواس والموضوع هو المادة المحسوسة والرابط بينهما ما تبعثه الذات الإلهية في الإنسان؛ إذ يقول: "إن للعقل أداة إدراك وموضوع إدراك بتوسط الذات الإلهية، وضعا لا دخل للبشر فيه" وهذا هو العقل الطبيعي، ثم لا ينفي عنه المحاسبي التطور والتدرج في المعاني، وهنا يصل به إلى العقل المكتسب؛ إذ يقول: "فالعقل غريزة يولد العبد بها، ثم يزيد فيه معنى بعد معنى بالمعرفة بالأسباب الدالة على المعقول".

 

العقل وابن خلدون:

يُقرِّر ابن خلدون في مُقدِّمته دور العقل؛ إذ يقول: "العقل ميزان صحيح؛ فأحكامه يقينية لا كذب فيها"، ثم يستثني الأمور الغيبية بأنها غائبة عن مجال إدراكه.. قائلا: "غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة...، فإن ذلك طمع في محال"، وأن الإنسان تميز عن غيره بالفكر وأنه "على قدر حصول الأسباب والمسببات في الفكر مرتبة تكون إنسانيته"، ثم يذهب إلى أن كل المعاني تدرك بالتجربة، ويقسِّم ابن خلدون العقول إلى: عقل تمييزي، وعقل تجريبي، وعقل نظري؛ فالتمييزي مثاله التمييز بين الإنسان والحيوان، والتجريبي هو ما استقرَّ في الإنسان من نتيجة فعل ما كتنظيم حياته الاجتماعية. أما النظري، فهو أرقى ملكات الإنسان؛ كونه اهتمَّ بكثير من العلوم. ويذكر الحباشة أنَّ الحضور الديني عند ابن خلدون هو ما يحصل في العقل التمييزي، أما التكاليف الدينية فبحاجة للعقل التجريبي، كما أنَّه يتبنى الرؤية التقليدية للعقل التي تتساوق مع الفطرة السليمة؛ إذ يقول: "فما دخل في نطاق الإمكان قبله وما خرج عنه رفضه"، ويوضح المقصود بالإمكان قوله: "وإنما مرادنا الإمكان بحسب المادة التي للشيء"، كما أنَّ العقل لدى ابن خلدون هو الآلة التي تستخدم في قبول الخبر المؤول ورفضه بناءً على علاقته مع المعقول. ويرى الحباشة أنَّ المنظومة التراثية تراقب بشدة عملية نقل نصوص التشريع على عكس ما يحصل في النصوص التأريخية والأدبية.

 

نقد العقل الديني:

ويستخلص الحباشة من القراءات السابقة في النماذج التي لامست قضايا العقل الديني، أنَّ ابن خلدون وغيره ممن هم في دائرته لم يستطيعوا أن يصنعوا للعقل مسارا يتجاوز الإشكاليات المطروحة في ذلك العصر، ثم يَرَى أنَّ العقل هو مرجع التأويل الواقعي، وإن ذهب الأصوليون إلى تقديم العقل الشرعي على العقل الاستدلالي بدعوى وصاية الدين على الغايات النبيلة فهو حتما سيصل للحقيقة الواقعية، وأدى الالتزام بـ"عدالة السلف" أو "التأصيل الشرعي" إلى: تجديد الخطاب الديني في الشكل فقط؛ حيث إنَّ الفقيه يتمسَّك بالرجوع للماضي وأقوال القدامى بدلًا من التطلع للواقع وقراءته؛ مما أدى لظهور شطحات تأويلية تكون بعيدة عن المفهوم والمقصد؛ لأنهم رفضوا الانفتاح على علوم جديدة بحكم تطورات العصر، وما تلاه من عدم احترام الخطاب الديني للعقل المعاصر بسبب عدم عنايته بابتكار الحلول للاقتراب منه واحترامه؛ بحيث يتحوَّل الخطاب الديني ليشمل كلَّ الأفراد بدلًّا من تمركزه في قلة من المتدينين، ثم يذكر الحباشة أنَّ من مقومات نجاح العقل الديني العربي والإسلامي هو أن يسعى إلى التواصل مع العقل الغربي والاستفادة من تجاربه في تطوير الجانب العقدي وربطه مع المادة والواقع المعاصر. ويرى الكاتب أنَّ قراءة العقل الفلسفية مُجتزئة وغير خالصة بسبب مدى قابلية العلماء المسلمين للتعامل مع الفسلفة؛ كونها علما جاء إليهم من الخارج، ولا علاقة له بالإسلام، ثم تعامل العلماء معها بصورة انتقائية قبلوا البعض منها ورفضوا الآخر.

وأرى أنَّ العقلَ الدينيَّ لم يؤدِّ دوره الحقيقي لأتباعه باستخدام أساليب الإقناع لجذب الناس إليه لا بالتقليد ولا بالاتباع، وأن على أصحاب الخطاب الديني أن يشتغلوا بالفكرة أكثر بدلًا من الخطابات التي يطغى عليها الاشتغال اللغوي الرنان في أوتار القلوب؛ لأنَّ ما يسكن في العقل عن قناعة يبقى، أما الشعور فيزول مع انتهاء الحدث.

أخبار ذات صلة