إرنست غلنر: الإسلام حداثي إن تعالى.. رجعي إن دنا

فاطمة بنت ناصر

لم أكُن أعرف إرنست غلنر حتى قراءتي لمقال الأستاذ مصطفى لافي الحرازين. المقال حمل عنواناً لافتا للغاية "الأصولية عين الحداثة: قراءة نقدية في أفكار إرنست غلنر". ربما لست وحدي من يتعجَّب حين يرى كلمة كالحداثة بجانب كلمة كالأصولية. الكثير يراهما كمتناقضات لا تجتمع. إلا أنَّ الأنثروبولجي البريطاني إرنست غلنر لا يراهما كذلك.

لم يكن تحليل هذا المقال سهلاً بسبب التراكيب اللغوية التي استخدمها الكاتب؛ حيث وجدت كتابات إرنست الإنجليزية أبسط بكثير من مقال أ/الحرازين. مع تقديرنا لمجهوده العظيم بلا شك.

 

البداية: حيث قلب الكاتب وهواه

ويبدأ أ/الحرازين بذكر محاسن إرنست المدافعة عن قدرة الإسلام على إعادة التشكل حداثيا، ويقول إن إرنست يعطل الكتابة "المحلية" التي "تنال" من الإسلام من حيث قدرته على هذا التشكل. الكلمات بين علامات التنصيص آسفة لوجودهما في افتتاحية مقاله أ/الحرازين. لماذا الأسف؟ فالكاتب يجزم أن الكتابات المحلية أي "بعض الكتاب المسلمين" ينالون من الإسلام إن كتبوا أنه غير قادر على التشكل حداثياً! "ينال" كلمة قاسية متحيزة لا ترى في الاختلاف رحمة بل تراه هجوماً ومؤامرة. نعم، إن أفكار إرنست يظنها الكاتب تدافع عن الإسلام ومقدرته على التأقلم، إلا أنَّ إرنست لا يدافع أو يهاجم، هو يدرس "الحالة الإسلامية" من منظور علمي كمتخصص في الشأن الإنساني وليس بصاحب أيديولوجية. وهناك كثر ممن يخالفونه في طرحه، بل إنَّ كاتبَ المقال يختلف معه كذلك. فلماذا يكون اختلافنا مقبولاً واختلاف الآخر معنا "ينال" منا؟!

يدور المقال حول الحداثة، وكيف تشكل الغرب وتفاعل معها. ويقارن بين "التنوير" كنموذج غربي، وبين التجربة الإسلامية في التعامل مع الحداثة؛ حيث يقول إن التنوير الغربي عانى من هشاشة في المفردات ساهمت في رخاوته؛ حيث يرى أنَّ الإسلام بمكوناته من الأقوال والقواعد يتشكل مع الزمن وبالتالي ليست الحداثة إلا وجهاً من وجوه تحولاته على مدى العصور؛ ذلك لأنه إسلام القول والفعل، حيث إنَّ العبادة في الإسلام ليست بالعبادة الصوفية المعزولة. ولعلِّي اختلفت هنا بقول الكاتب إنَّ الإسلام يتطهر من أشكال التوسط والممارسات الصوفية والعقدية. فظاهريًّا: نعم، الإسلام ينبذ التوسط، إلا أنَّ الممارسة الشعبية في عدد من الدول الإسلامية ذات الثقل السياسي والاعتباري: كمصر، والعراق، وإيران...وغيرها، تمارس أشكالا متنوعة من الطرائق الصوفية وممارسات أخرى ذات طابق توسطي وتبرُّكي في زيارة الأضرحة والقيام عليها. وهنا لابد من وقفة نتحذر فيها من محاولة فصل الإسلام أو أي دين عن طرق ممارسته. بل إن محاولة هذا الفصل وعزله يجعلنا ننظر للدين بنظرة "ما ينبغي عليه أن يكون؟" وليس بما هو كائن.

 

غلنر: الإسلام المتعالي البروتستانتي والإسلام الطرقي الكاثولوكي

الإسلام كما يراه غلنر ينقسم إلى: إسلام متعالٍ وإسلام طرقي كما سمَّاهما كاتب المقال. التأني في قبول الترجمة من عدمها أمر ضروري. ببحثي عن غلنر وآرائه وجدته يصنف الإسلام كالآتي: (low islam & high islam). وبالبحث وجدت أنَّ اللفظين يرتبط تعريفهما بالعلو والدنو الثقافي ( low and high culture) (1). وأن غلنر قام بمقاربة مهمة تجاهلها كاتب المقال؛ حيث إنَّه كان دائم الإشارة للإسلام المتعالي بـ"الإسلام البروتستانتي" والإسلام الطرقي بـ"الإسلام الكاثولوكي". ويعتمد هذا التوصيف في درجة قرب وبعد الممارسة الدينية من العامة.حيث المتعالي البروتستانسي هو الأكثر قرباً ومباشرة في العلاقة بين الله وعباده، بينما يدنو الطرقي الكاثولوكي إلى عامة الناس ويسعى إلى تلبيه احتياجاتهم اليومية. فيظهر الوسطاء الذين يقربون بدورهم الدين للعامة، وكذلك يظهر الارتباط بالخوارق والكرامات...وغيرها من الأمور التي تتوسط إيمانيا بين الناس والله. إيران نموذج للإسلام المتعالي مثلا. إلا أنَّ غلنر -كما يقول الكاتب- صاغ فرضياته في الستينيات ولم يقاربها بالثمانينيات حين تشكل النموذج الإيراني.

 

الشرعية أم السيادة..الدولة والوحي!

إنَّ الشرعية والسيادة أمران بالغا الأهمية حين يتعلق الأمر بالدولة ونظام إدارتها. وكما نعلم فإنَّ الشرعية ركيزة أساسية في بناء الدولة الحديثة الديمقراطية. السيادة في الإطار الديني الغربي زالت تقريباً عن المجال السياسي، وغلنر في هذا الشأن يحمل آراءً مختلفة عن كثر يعلون من شأن الشرعية وضرورة الفصل بين الوحي والسيادة في نظام الدولة الحديثة. فنرى غلنر مؤمناً بإمكانية الاندماج بين الدولة والوحي. الاندماج المباشر الذي يطبق الإسلام المتعالي دون وسيط. وهنا يأتي الفرض، حيث لا سبيل للأخذ والعطاء مع الوحي. فالقواعد تطبيقها ملزم وصارم. ويرى غلنر أن اللحمة الاجتماعية ستتحقق بهذا. وكما قلنا فإن هذا الرأي يختلف معه كثر؛ أهمهم: دوركايم (2) الذي يعتقد بأهمية وجود الوسائط بين الدين والدولة والفرد. نجد هنا رأياً مُناقضاً لما يعتقد به غلنر. فهو يرى أنَّ وجود الوسائط هو ما أسهم في هشاشه التنوير الأوروبي وضعفه، بينما النموذج الإسلامي الأصولي الذي يُعلِي من شأن القواعد وتطبيقها الملزم دون تهاون هو ما يمكنه تأسيس نموذج ثابت لا يتأثر بالزعزعة البشرية في أي زمن يكون تطبيقها فيه.

 

غلنر بين القومية والأصولية

أثناء البحث عن غلنر وآرائه، وجدت رأيا أساسيًّا له لم يتعرض إليه المقال. ألا وهو رأيه في القومية التي كما يقول غلنر أن القومية في سياقها الإسلامي لا نعلم هل خدمتها الأصولية الدينية أم هي التي قامت بخدمتها؟. وفي كلِّ الأحوال نراهما لا يفترقان في السياق المجتمعي الإسلامي، بينما نرى القومية والأصولية الدينية ابتعدتا عن بعضيهما في السياق الغربي المسيحي حتى انفصلا.

 

من يُدِر العالم يتحكَّم بالجميع

يذكر كاتب المقال نقطة مهمة حول أثر النظام الاقتصادي العالمي في التأثير على حركة التنوير وأي حركة تعترض مصالحها. فقد لا يكون ضعف التنوير سببه الوسائط البشرية ولا ما يفترضه غلنر من نظريه تفترض نجاح فرض وإلزام القواعد في الأصولية الإسلامية على المجتمع. فكلاهما يخضع لسلطة أقوى تهيمن على العالم اقتصادياً وتُسهم في ضعفهما معاً.

وختام القول.. أنه في محاولة لفهم اللحظة الدموية الراهنة التي لم يشهدها غلنر البريطاني (ت 1995) ولا حتى دوركايم الفرنسي (ت 1917). ماذا سيقول غلنر يا تُرى حين يرى الأصولية القوية -كما يراها- تفرض القواعد بهذا الشكل رافضةً كل الوسائط، وتزيح بالقوة كل من يعترض طريقها، مُدمِّرةً الحضارة غير صانعة لها كما تخيل. أم سيلقي غلنر اللوم على دوركايم ويقول له: إن إسلام السفلي -إسلام الوسائط من مشايخ وأتباع- هما السبب وراء كل هذا؟!

لو كان غلنر ودوركايم من الأحياء، ماذا سيقولان اليوم؟ هذا ما أدعوكم وأدعو نفسي للبحث عنه.

----------------------------------

هوامش:

1- من مقال "بين الدين والمدنس" لإرنست غلنر، نُشر عام 1996.

2- دوركايم: عالم اجتماع وفيلسوف فرنسي.

أخبار ذات صلة