«الأعْلَام السوداء وصعود داعش»

51RJR5PQJ2L._SX322_BO1,204,203,200_.jpg

مُحمَّد السَّماك

صَدَر كتابٌ حديثٌ في الولايات المتحدة الأمريكية، يروي قصة الإرهاب في الشرق الأوسط؛ من خلال رواية القصة الخلفية لصناعة "داعش". وتتناول أبرز فصول الكتاب مرحلة التحول من أبو مصعب الزرقاوي إلى أبو بكر البغدادي.

مؤلف الكتاب هو الصحفي الأمريكي جوبي وريك، وهو باحث مُتخِّصص بشؤون الشرق الأوسط في صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية. وهو أيضاً مؤلف كتاب "العميل الثالث" الذي يروي قصة العملية الإرهابية التي استهدفتْ نيويورك وواشنطن في العام 2001. وهو من أهم الكتب التي تناولت تلك العملية الإرهابية الكبرى، وأوسعها انتشاراً. ويعترف المؤلف في مقدمته بأنه أفاد من كتاب صَدَر في العام 2005 للكاتب جان تشارلز برازرد، عنوانه "الزرقاوي: الوجه الجديد للقاعدة". ويقول إنه أضاف إلى هذه الخلفية مجموعة كبيرة من المعلومات الموثَّقة التي حَصَل عليها من: المخابرات الأمريكية، ومن المخابرات الأردنية. ويسمِّي مصدريْن لمعلوماته الاستخباراتية؛ هما: أبوهيثم من المخابرات الأردنية ورئيس وحدة مكافحة التجسس فيها، والدكتور باسل الصبحة الذي تولى معالجة الزرقاوي وهو في السجن.

وفي الأساس، يربط المؤلف في كتابه بين صعود الزرقاوي والأخطاء السياسية والعسكرية التي ارتكبتها الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق جورج بوش في الشرق الأوسط، ويصف المؤلف الزرقاوي بأنه كان مدمناً على شرب المسكرات، وأنه كان مغرماً جدًّا بالوشم حتى إنه لم يترك مكاناً في جسمه من دون وشم. وكان كذلك يتعاطى المخدرات ويتاجر بها قبل أن يكتشف الدين. وقد بلغ من تعصبه الديني أنه استخدم موس الحلاقة لإزالة وشم كان مرسوماً على صدره ضد الدين.

ويقول المؤلف إنَّ الزرقاوي سافر إلى أفغانستان في العام 1989 للاشتراك في العمليات الجهادية. وعندما عاد إلى الأردن اعتُقل. وفي السجن نصّب نفسه زعيماً على مجموعة من السجناء بسبب العنف الذي كان يمارسه ضد معترضيه من السجناء الآخرين. كما استطاع أن يستقطب السجناء الإسلاميين الآخرين الذين دانوا له بالزعامة. وقد شكل إرهابه للسجناء واستقطابه للإسلاميين النواة الأولى لحركته.

وفي العام 2001، بعد الاجتياح الأمريكي لأفغانستان (ردًّا على عملية 11 سبتمبر 2001)، توجه إلى المرتفعات الجبلية الوعرة والمعزولة في شمال العراق قرب الحدود مع إيران؛ حيث أقام معسكرا للتدريب لإنشاء وحدة من "المجاهدين" لمقاتلة الأمريكيين في أفغانستان. فقد كانت طموحات الزرقاوي حتى ذلك الوقت محدودة. إلا أن الاجتياح الأمريكي للعراق في العام 2003، شكل دفعة قوية لهذه الطموحات؛ فالعدو لم يعد بعيداً.. لقد أصبح في عقر الدار!

ومما أعطى الزرقاوي قوة معنوية إضافية، الخطأ الفادح الذي ارتكبته الإدارة الأمريكية لتبرير اجتياح العراق. فقد أعلنت إدارة الرئيس جورج بوش أن الرئيس العراقي السابق صدام حسين، استخدم الزرقاوي ليكون صلة التواصل بينه وبين المجموعة التي نفذت عملية 11 سبتمبر الإرهابية. وكان الهدف من ذلك هو ربط صدام حسين بتلك الجريمة، ومن ثم تبرير عملية اجتياح العراق للإطاحة به.

ويقول مؤلف الكتاب جوبي وريك: إنَّ إدارة المخابرات المركزية كانت تعرف أن هذا الاتهام ليس صحيحاً، وأنه صنع فقط لأسباب سياسية. ولكن بصرف النظر عن الغاية السياسية من وراء اصطناعه، إلا أنه جعل من الزرقاوي شخصية مهمة لم يكن يحلم بها هو شخصيًّا، وأعطاه دوراً لم يقم به ولم يكن يحلم به أصلاً.

وبعد أسابيع على توجيه هذا الاتهام إلى الرئيس السابق صدام حسين، قامت الولايات المتحدة بالاجتياح العسكري للعراق. ومن خلال الاتهام والاجتياح معاً، حصل الزرقاوي على شهرة داخل العراق تمكن من خلالها أن يستقطب مجموعات من المقاتلين المُعَادِين للقوات الأمريكية. وهكذا تحول ذلك السجين الأردني الذي كان غارقاً في وحول الجريمة والمخدرات إلى بطل وطني!

ومما زاد الطين بلة، كما يروي المؤلف في كتابه، أن إدارة الاحتلال الأمريكي للعراق (بريمر) اتخذت قرارين خطيرين نزلا برداً وسلاماً على الزرقاوي وعلى المهمة التي انتدب نفسه لها. القرار الأول يتعلق بحل حزب البعث وتصفيته. أما القرار الثاني والأسوأ، فإنه يتعلق بحلّ الجيش العراقي وتسريح ضباطه وجنوده. أدى القراران إلى اطلاق موجات من الناقمين السياسيين والعسكريين العاطلين عن العمل والمحرومين من أي دخل. تلقف الزرقاوي هؤلاء بكل غضبهم ونقمتهم ورغبتهم بالانتقام ليجعل من حركته، حركة تحرير ضد الاحتلال الأمريكي. وقد وفرّ له هذا الإجراء الأمريكي بيئة حاضنة لم يكن يحلم بها. كما وفّر له الملجأ والتغطية والتمويل والمشاركة القتالية التي كان يتمناها. وتمكن بالفعل من القيام بعدة عمليات إرهابية لم تستهدف الأمريكيين فقط، ولكنها استهدفت مواطنين عراقيين آخرين على خلفية مذهبية، لاتهامهم بالتعاون مع الأمريكي المحتل.

بَقِي الزرقاوي هدفاً للقوات الأمريكية التي كانت تطارده في كل مكان من العراق، إلى أن تمكنت من تحديد موقعه ومن ثم قصفه بالطيران في يونيو 2006. وبعد مقتله، عملت الولايات المتحدة على تصفية تركته من خلال البطش بالعناصر العراقية التي تعاونت معه. أدى رد الفعل إلى بروز قائد جديد ليحل محله، هو أبو بكر البغدادي.

كان البغدادي -كما يروي الكتاب- سجيناً في معسكر "البقعة" الذي كانت القوات الأمريكية تستخدمه لسجن المعتقلين الإسلاميين. لذلك أطلق على هذا المعسكر فيما بعد "جامعة المجاهدين"؛ ذلك أن تعذيب السجناء وإهانتهم وعدم احترام مشاعرهم الدينية، فجّر غضب هؤلاء الذين ما إن عرفوا طريقهم إلى الحرية، حتى تحولوا إلى قوى ناقمة لقتال سجانيهم السابقين. وكان البغدادي واحداً منهم. فقد قدم له مقتل الزرقاوي على طبق من فضة، زعامة تنظيم قتالي مسلح ومشبع بالعداء للولايات المتحدة وللمتعاونين معها داخل العراق.

ومرة جديدة يُبيِّن الكتاب كيف أن الأخطاء السياسية الأمريكية وفّرت دفعات من القوة لهذه الحركة من حيث لم تكن تحتسب. ففي العام 2005، سحبت الولايات المتحدة قواتها من العراق، وسلَّمتْ الحكم فيه إلى رئيس الحكومة نوري المالكي الذي مارس سياسة مذهبية تمييزية ضد المسلمين السُّنة.

كما وفَّر الانسحاب في توقيته المتلازم مع سياسة الحكومة الجديدة، قوة دفع جديدة لحركة البغدادي. فقد ازدادت مشاعر الكراهية، وتعمقت حالة اليأس من أي إمكانية لإنقاذ الوحدة الوطنية العراقية. وهكذا تحولت مشاعر الانتقام من القوات المحتلة المنسحبة إلى السلطة الجديدة وإلى سياستها المذهبية. وتجسدت هذه المشاعر فيما بعد في إعلان ما يسمى "الدولة الإسلامية" بزعامة أبو بكر البغدادي الذي أعلن نفسه خليفة على المسلمين!

ويروي مؤلف الكتاب جوبي وريك أنَّ من أهم ما قام به البغدادي بعد تسلمه قيادة التنظيم إثر اغتيال سلفه الزرقاوي، هو استخدام "الإعلام الاجتماعي" الإلكتروني الحديث للتواصل مع جهات وأفراد خارج العراق، وحتى خارج الشرق الأوسط. وقد تمكَّن بالفعل من استقطاب عدد من الشبان المسلمين في أوروبا على خلفية معاناتهم من التمييز أو من البطالة، أو من الاثنين معاً. كما استطاع استقطاب عدد من غير المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام من أجل الوصول إلى مواقع في التنظيم تمكنهم من الانتقام من مجتمعاتهم التي تنبذهم لسبب أو آخر. وهكذا تحولت السجون في بعض الدول الأوروبية إلى مصدر للمنضمِّين لـ"داعش" كلٌ لأسبابه، ولكن تحت مظلة وهمية وواهية واحدة هي المظلة الإسلامية!

لم يكن الإسلام حافزاً لانضمام هؤلاء إلى "داعش". ولم تكن "داعش" في الأساس وليدة حركة فكر إسلامي، إلا أن الإسلام كان مطلوباً كغطاء تبريري واستقطابي معنوي.

وكانت مجموعة من العلماء قد نشرت بياناً مشتركاً في صحيفة الهيرالد تريبيون (عدد 3 ديسمبر 2015) جاء فيه ما ترجمته حرفيًّا: "أظهرت الدراسات البحثية أن الحرب والصراعات الاجتماعية يشعلهما التوتر الاجتماعي الحاد وتصاعد التوتر السياسي والعنصري والديني بين المكونات المختلفة للمجتمع. وأنه إذا لم تضبط هذه التوترات فلا بد أن تنفجر على شكل عنف اجتماعي".

وكان من بين هذه المجموعة الدكتور جون هاغلين مدير معهد الدراسات التكنولوجية والسياسات العامة في الولايات المتحدة، والدكتور آشلي دينز نائب رئيس معهد الدراسات الفيزيائية الفضائية في كندا، والكولونيل غونتر شاسيه نائب رئيس العلوم العسكرية في حلف الناتو (شمال الأطلسي).

وقد انفجرتْ التوترات بكل أبعادها السياسية والعنصرية والدينية في كل من العراق وسوريا. واستناداً إلى الدراسة، فإنَّ كلفة الحرب في سوريا تبلغ 3.6 مليار دولار سنويًّا، إضافة إلى آلاف الضحايا من كل الأعمار. ووجدت من يستغلها ويصب الزيت عليها، من الزرقاوي إلى البغدادي، إلى.....!

ولقد صَدَر كتابان آخران يركزان حول دراسة ظاهرة نجاح البغدادي في استخدام الإعلام الاجتماعي، عنوان الكتاب الأول هو: "داعش: داخل الجيش الإرهابي" للكاتب مايكل وايز. أما الكتاب الثاني فهو للكاتبين جيسيكا شترن وج.م بيرغر وعنوانه: "داعش دولة الإرهاب".

ومن خلال عرض علمي لهذه الكتب، يتبيَّن بصورة جلية أن الدراسة التي قام بها باحثون وعلماء من الولايات المتحدة وأوروبا، تؤكِّد على حقيقة أساسية وهي أن أبطال الحركات الإرهابية (من بن لادن.. إلى الزرقاوي فالبغدادي) لم ينطلقوا دفاعاً عن قضايا إسلامية، وأنهم ليسوا مراجع دينية إسلامية. فالسيرة الذاتية لكل واحد من هؤلاء تؤكد على البعد الانتقامي الشخصي، وعلى الاستقواء بقرارات خاطئة اتخذتها إما الإدارة الأمريكية السابقة (إدارة الرئيس جورج بوش تحديداً) أو بعض الإدارات العربية المتعاونة معها (إدارة المالكي في العراق نموذجا).

وتبيِّن هذه الدراسات العلمية أيضاً أنَّ الإسلام استعمل بصورة سلبية ليس فقط لاستنفار وهمي لعناصر إسلامية متحمسة عن غير وعي، ولكنه استعمل لما هو أسوأ، لتغطية جرائم إرهابية ارتكبت عن وعي باسم الدين الإسلامي، وهو منها براء.

-----------------------------------

- الكتاب: "الأعْلَام السوداء: صعود داعش".

- الناشر: دار دوبل داي، 2016.

- عدد الصفحات: 344 صفحة.

أخبار ذات صلة