غداً من سيحكم العالم ؟

غلاف كتاب غدا من سيحكم العالم ؟.jpg

إميل أمين

مدير مركز الحقيقة للدراسات السياسية والاستراتيجية- القاهرة

من سيحكم العالم غداً؟ الولايات المتحدة؟ الصين؟ الهند؟ أوروبا؟ مجموعة العشرين؟ منظمة الأمم المتحدة؟ أم تراها الشركات متعددة الجنسيات وعصابات الجرائم المنظمة هي التي ستمسك بمقاليد الأمور فيه وتسوسه؟

أي بلد؟ أي تحالف؟ أي هيئة دولية سيكون لها من الإمكانيات ما تحجم به التهديدات البيئية والنووية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية والعسكرية التي تترصد العالم وترمي بأثقالها عليه؟

     أسئلة عديدة ومثيرة يطرحها "جاك أتالي" المفكر الفرنسي الاستشرافي، رئيس لجنة تحرير النمو الاقتصادي الفرنسي والذي اعتبرته مجلة "الفورين بوليسي" الأمريكية، واحداً من أهم المفكرين المائة حول العالم طوال الفترة الممتدة من تمام 2008 وحتى 2010.

"جاك أتالي" مشغول من أخمص قدميه وحتى شعر رأسه يحلل العالم الذي يبدو أنه يعيش فوضى غير مسبوقة في الآونة الأخيرة، تتقاطع فيها خطوط السياسة بالاقتصاد، والعسكرية بالثقافات ولهذا يتساءل من جديد من سيتمكن من تقييم الإمكانيات الهائلة لكل الثقافات؟ وهل يتوجب ترك الأديان تهيمن على العالم أم تسليم قيادة الإمبراطوريات والأسواق؟ أم رده إلى القوميات وإعادة خلق الحدود فيما بينها؟.

الآن يتساءل الجميع ومن بينهم مؤلف الكتاب هل الولايات المتحدة الأمريكية القطب القائم أم الصين القطب القادم من سيحكم العالم غداً؟ هل سنشهد تحالفًا بينهما؟ أم ستقوم الصين بالأمر وحدها؟ هل ستحكم الهند العالم أم تراها أوروبا التي ستمسك بزمامه؟ ولم لا تحكمه كبرى المؤسسات والشركات بل ولم لا يقع في أيدي عصابات الجريمة المنظمة؟

يؤكد المفكر الفرنسي أنّ العالم لن يحكمه أي من النوعين المشار إليهما، حتى وإن بقيت أمريكا على ما بها من السطوة والقوة أو أصبحت الصين في عداد الأقوياء، ذلك أنّه على نقيض ما تذهب إليه في الغالب الأذهان يضعف شيئاً فشيئاً، احتمال وقوع العالم تحت هيمنة إمبراطورية في حين تقوى يوماً بعد يوم سطوة السوق عليه.

 

هل من حاجة لحكومة عالمية؟

 

المؤكد أنّه ينبغي القول أنّه إلى حين تفرض هذه المسلمات نفسها فإنّ السوق ليس بمقدورها العمل بشكل صحيح دون سلطة القانون، وهذه الأخيرة يصعب تطبيقها واحترامها دون وجود دولة. والدولة في ضوء ذلك لا يستقيم بقاؤها إلا إذا كانت ديمقراطية بحق.

هنا فإنّ ظاهر الأمر أنّه لن يتسنى لإمبراطورية أو سوق السيطرة على المشكلات الهائلة التي سيكون على العالم مجابهتها، مما قد يتطلب حكومة عالمية تأخذ شكلاً أقرب ما يكون للأنظمة الفيدرالية المعروفة حالياً، ويمكن القول أن الاتحاد الأوروبي يشكل بما لا يدع مجالاً للشك أفضل مختبر لذلك والتكليفات المنوطة بهذه الحكومة المرتقبة هي من ناحية إدارة المصالح العامة ككوكب الأرض، ومن ناحية أخرى التعيّن من احترام كل أمة لحقوق كل مواطن ينتمي للإنسانية، أما حكومات الأمم فستترك لها مهمتا التأكد من احترام القوانين الخاصة بشعوبها وحماية ثقافاتها.

     

    1989 نظام عالمي غير مستقر

 

 هل كان عام 1989 موعد ولادة نظام عالمي مستقر أم غير مستقر؟ الشاهد أنه في هذا العام تفتت الكتلة الشرقية وانفردت الولايات المتحدة بالسيطرة على العالم أو هكذا بدا لها الأمر، وقد أطلقت على هذا الوضع الجديد، مصطلح "النظام العالمي الجديد".

تلا ذلك وعلى غرار ما حدث في نهاية القرن التاسع عشر، أن عم الكرة الأرضية نوع من التفاؤل العالمي، انفتحت قارات بعضها على بعض، بل والتحمت وتضامنت.

أصبحت الأسواق إجمالية وتضخمت المؤسسات واتسعت لتشمل أنحاء عدة من الكرة الأرضية، تقنيات منوعة على شاكلة الشبكة العنكبوتية قللت من التكلفة والزمن اللازمين لقطع البشر والأشياء والأفكار للمسافات الطويلة.

جعل ذلك قيم الغرب وعلى رأسها الحرية الفردية بصوريتها الملموستين: السوق والديمقراطية من المطالب الكونية وشاهد ذلك ما جرى في تونس ومصر حديثاً.

ولكن ورغم ما بدا من أنّ العالم أصبح رقعة واحدة، إلا أنّ الأمر ليس على ما يرام، وأنّ هناك حالة من تفكك الأوصال تنتاب كل شيء، فهناك أزمة اقتصادية عاتية تستعصي على أي زمام منذ فترة طويلة.

   

أمريكا وحالة التفكك العالمي

هل واشنطن هي اليوم سيدة العالم بامتياز؟ الملاحظ أنّ الولايات المتحدة تضعف تدريجاً دون أن يظهر في الأفق بلد آخر قادر على شغل مكانها في مجال تسيير الأعمال في العالم، ونلاحظ أن أمما بالغة القدم تتفكك، وعشرات الدول أصبحت عاجزة عن حماية هويتها وضمان أقل قدر من التكافل والتضامن مع الضعفاء على أراضيها.. أقاليم بالكامل أصبحت مناطق انفلات أمني، في كل مكان تطغى مسائل المالية والتأمين والتسلية على الاقتصاد الحقيقي والمنفعة العامة، العملات النقدية طالها الخراب وتفاقمت حالات انعدام المساواة وتزايدت وتيرة الهجرة، وشهدت البيئة تراجعاً حاداً، وذلك بالإضافة إلى نقص المياه والتزايد السريع في سبل التدمير النووية والبيولوجية والكيميائية، والوراثية للإنسانية وتضاعف المخاطر الجهازية. ويمكننا القول في النهاية إنّ الكوارث بكل أشكالها وأنواعها مثل زلزال مارس 2011 والتسونامي وكارثة اليابان النووية تذكرنا دوماً أننا تحت رحمة النكبات والمصائب الطبيعية ذات المردود الكوكبي.

 

العالم بين النمو وبين الفوضى

 

 هل من حقيقة مؤكدة لعالمنا المعاصر كما يراه "جاك أتالي"؟ الحقيقة التي تتكشف من خلال سطور كتابه هي أننا اليوم بين شقي رحى، بين نمو عالمي متزايد وفي نفس الوقت على حافة الفوضى العارمة، إدراكنا للمستقبل والطريقة التي ينبغي لنا بها السيطرة عليه، - وفي هذا قولان - سيترتب بشكل كبير على هذا التاريخ الطويل.

هنا تعود التساؤلات.. من يمكنها أن تصبح غداً القوة الفائقة الجديدة؟ من ذا الذي يمكنه أن يحوز كل الإمكانيات الاقتصادية والعسكرية والمالية والديموغرافية والثقافية والإيديولوجية لحكم العالم؟ ومن ذا الذي تهفو نفسه إلى ذلك؟ هل يمكننا كما سبق للكثيرين في السبعينيات أن يعيد تشخيص تواري الولايات المتحدة الأمريكية وتراجعها؟ ولصالح من يخفت تأثيرها؟ من سيكون بوسعه التصدي لما يحمله الغد من رهانات كوكبية.

فيما يمكن لتاريخ الألفيات الثلاث الماضية مساعدتنا للإجابة عن هذه الأسئلة تحسباً لما سيحدث في العقود الثلاثة القادمة؟

إذا كان التاريخ ينحو إلى تكرار نفسه فأمامنا وقت طويل ستبقى فيه الولايات المتحدة الأمريكية القوة العسكرية والتقنية والمالية والسياسية والثقافية الأولى في هذا الكوكب، وهذا لا يتنافى مع إمكانية وجود تراجع على الأقل في القيمة النسبية.

 

    من سيضحي قلب العالم؟

 

 يبدو هذا السؤال جوهرياً غاية في الأهمية، وربما سنرى للمرة العاشرة أن هناك "مركزاً" سيضحى "قلب العالم" وسيفرض حكومته مثلما فعل ذلك من قبل الهولنديون والفلمنك وسكان البندقية وجنوة والإنجليز والأمريكيون. هذا المركز لم يتحدد بعد هل سيكون أمريكا أو صينياً أو هندياً أو أوروبياً. هذا لا يعني على الإطلاق أنّه سيكون بوسعه حكم العالم.

التاريخ لن يكرر السيناريو ذاته، لن يتسنى لقوة بعينها ما يجعلها قادرة على إدارة شؤون الكون، ولن توجد واحدة باستطاعتها الاضطلاع بهذه المهمة الثقيلة، لن تكون الولايات المتحدة الأمريكية حاكمة العالم، ولن تملك الصين لا السبيل إلى ذلك ولا الرغبة فيه، وكذلك الحال بالنسبة لأوروبا ومجموعة العشرين، ثنائية مكونة من الولايات المتحدة الأمريكية والصين ستحل تدريجياً محل انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بهذه السطوة الهائلة، من دون أن تملك إزاحتها من المشهد، أو أن تحكم العالم. لا أحد باستطاعته التصدي للمشكلات الجهازية التي تلوح في الأفق.

 

    هل الحكومية العالمية ضرب من الخيال؟

 

لا يبدو من الوهلة الأولى أن مثل هذا التطور يمكنه الحدوث، فالعالم بين أيدي القوى الكبرى وأولها الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يبدو أن أياً منها لديه سبب يرغب من أجله في تغيير النظام القائم منذ عام 1954، وحتى إن بدت من جانب إحداها هذه الرغبة فمن الواضح أنّ قدراتها على الخروج بها إلى حيز التنفيذ تتراجع يوماً بعد يوم، أما القوى الجديدة مثل الصين والهند والبرازيل وإندونيسيا والمكسيك وتركيا وجنوب إفريقيا ونيجريا، إذا جاز لنا إضافتها فترفض من جانب تشكيل حكومة فوق قومية وديموقراطية للعالم، وستميل من جانب آخر للمطالبة بحقها في إدارة شؤون كوكب الأرض.

هذا لا يعني بحسب "جاك أتالي" أن الإقدام على التفكير في حكومة عالمية ضرب من الخيال، فالتاريخ يفوق بخياله كل الروائيين، فقط ربما ينبغي وبدون شك انتظار كوارث من النوعية المالية أو البيئية أو الديموغرافية أو الصحية أو السياسية أو الأخلاقية أو الثقافية على شاكلة تلك التي حدثت في اليابان في مارس2011، تجعل البشر يدركون أن مصائرهم وأقدراهم وثيقة الارتباط ببعضها البعض، سيعون حينئذ عظم التهديدات الجهازية التي هم بصددها.

 

الحكومة العالمية فكرة تاريخية

 

هل فكرة الحكومة العالمية هي فكرة حديثة مستجدة أم أنّ لها أصداءً في التاريخ؟ المؤكد أن هناك عدداً لا حصر له من مشروعات إقامة حكومة للعالم، والحقيقة أن المكانة التي يحتلها الأوربيون في هذا النوع من الفكر يجب ألا تدهشنا، فمن ناحية هناك على الأقل ثمانية بلدان تقع في القارة القديمة كانت فيما مضى إمبراطوريات ذات طموحات كوكبية اليونان، الرومان، الإسبان، البرتغال، الهولنديون، الفرنسيون، الألمان، الأمريكيين، الإنجليز، وقد استقى كل من الفاتيكان والولايات المتحدة الأمريكية نفسيهما من هذا الحلم العولمي الأوروبي واستوحيا وجودها منه.

ونشير هنا إلى أنه من صالح كل الأمريكيين والأوروبيين وجود حكومة عالمية تمد سطوتها على بقية البشر، غير أنّ إقرار الأمر على هذا النحو لا يحول دون التفكير.

كانت أوروبا مهداً للديمقراطية من هنا وجب عليهم عدم الاندهاش من كونها واحدة من الأماكن الرئيسية التي ابتكرت فكرة وجود حكومة ديمقراطية للكوكب بأسره، وهي في ذلك ليست منفردة، ففي الصين والهند وإفريقيا يتم تدارس الأمر بنفس الطريقة.

واتساقاً مع تعريفها فإنّ أفضل حكومة للعالم عليها أخذ الصالح العام لكل من كوكب الأرض والبشرية في الاعتبار، وترتيباً في ذلك، ينبغي لهذه الحكومة إلا تكون ببساطة متعددة الأوجه، وإنّما عليها أن تكون ذات بعد فوق قومي.

 

    ما هي معالم الحكومة العالمية؟

 

 لتحديد معالم هذه الحكومة لا يكفي أبداً الاقتصار على إصلاح دولة غير كاملة، فالأمر ليس به قلعة يتم الاستيلاء عليها ولا ملك يتم إسقاطه عن عرشه ولا وزارات أو قصور للدولة يتم احتلالها، وكأن الأمر يتعلق بطائرة لم يغب فقط قائدها وإنما خلت أساساً من مقصورة الطيار، من هنا يصعب التفكير في حكومة العالم بمفردات الاستيلاء على السلطة أو الاندراج في آلية سلطة سابقة على وجودها.

يعد هذا من قبيل الصعوبات وحسن الحظ في آن واحد فعدم محدودية التفكير هو ضرب من الحظ، أمّا الصعاب فتكمن في الشروع في التنفيذ، فما أيسر تخيّل حكومة ديمقراطية كوكبية في عالم مثالي ينعم فيه كل فرد بحق التنقل والتجوّل بحرية، حكومة بها برلمان وأحزاب وإدارة وقضاة وقوات شرطية ومصرف مركزي وعملة نقدية ونظام حماية اجتماعية، وسلطاته إحداهما مكلفة بنزع السلاح، والأخرى تضطلع بمهمة مراقبة أمن الطاقة النووية المدنية، بالإضافة إلى كيان معارض متكامل.

 

 الحكومة العالمية هل هي ديكتاتوريّة؟

 

 في عالمنا الواقعي من المحال إيجاد مثل هذه الحكومة، الأقرب والأكثر احتمالية للوجود هي حكومة أكثر تواضعاً، التطور الكوكبي السريع يغيّر تدريجياً من أحوال التنظيمات الموجودة على الساحة لتوجيهها إلى النموذج المثالي، والحقيقية أنّه يكفي للحيد عن طريق الكوارث عمل بعض الإصلاحات على شاكلة الدمج بين مجموعة العشرين ومجلس أمن الأمم المتحدة، على أن توضع تحت إمرة هذا الكيان المدمج الدولي كل المنظمات ذات الاختصاص العالمي مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وإخضاعها في مجملها لرقابة جمعية الأمم المتحدة في عشرة أسطر، وتبنيها في يوم واحد.

    لكن السؤال الذي يطرحه الكثيرون هل الحكومة العالمية التي يتحدث عنها "جاك أتالي" تختلف كثيراً عن طرح الحكومة العالمية الخفية والسرية التي تناولتها أقلام كثيرة وسطرتها كتب شتى طوال عقود مضت؟ الشاهد أنّه قد يعيب أحد على هذه الحكومة العالمية ديكتاتوريّتها الضاغطة على مستوى كوكب الأرض. وحقيق أنّ البشرية إذا ما طلب منها التصويت فسوف نشهد نسبة معارضة عالية، في حين أنّها ترتضي عن طيب خاطر التصويت على نص عام يؤكد وحدة وتكاتف الجنس البشري مطالبة بالإشراف على الولايات العامة بالعالم ... السؤال الآن إذا كانت هذه هي نقطة البداية، فهل من مشروطية أو مشروطيّات يضعها "أتالي" حتى يضحى المناخ العالمي مهيأ لقبول ودعم فكرة الحكومة العالمية؟

 

 

 

الأزمة الخطيرة طريق الحكومة العالمية

 

يخلص جاك أتالي إلى أنّه بدون حدوث أزمة خطيرة لا سبيل إلى ظهور حكومة فوق – قومية للعالم. لن تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية ولا الصين ولا الهند ولا البرازيل ولا اليابان ولا أوروبا ولا أولئك الذين يمكن أن يرغبوا في منافسة الإمبراطورية المهيمنة، المساعدة في إيجادها.

كما رأينا من قبل لم يكن لأقوياء الوقت الراهن قط أسباب تدفعهم للرغبة في تغيير أي شيء في النظام القائم، حتى إذا راودتهم اليوم الرغبة في ذلك؛ فقدراتهم على إتيان الفعل تتناقص شيئاً فشيئاً.

أمّا القوى الجديدة فهي لم تر يوماً استحقاقاً لها في اقتصاد العالم وفي هيئات العالم الموجودة على الساحة، وترجع خشيتها من احتمال وجود حكومة فوق قوميّة إلى رؤيتها أنّ مثل هذه الحكومة ليست إلا سبيلاً لإخفاء محاولة حفاظ القوى المضمحلة على هيمنتها.

هذا لا يمنع وجود إمكانيّة التفكير في استراتيجيّة تقود العالم إلى سيطرة على مستقبله.. لخير هذا العالم.

----------------------------------------------------------

اسم الكتاب: غدًا من سيحكم العالم

اسم المؤلف: جاك أتالي

اسم المترجم: سونيا محمود نجا

دار النشر: المركز القومي للترجمة – القاهرة

سنة النشر 2016

عدد الصفحات 450

أخبار ذات صلة