مُرافعات«بلينيل» السيمفونية «مِنْ أجل المسلمين»

غلاف كتاب من أجل المسلمين.jpg

يونس بن مرهون البوسعيدي

 في زيارة لي لِفيينّا عاصمة النمسا الجارة لِألمانيا، تكشّف لي ملمحٌ مُهِمْ عن كيفية النظرة للعربي أو المسلم القادم مِنْ أدغالِ الكبت واللاحريّة - "كما يظُنّ شريحة مِنَ المجتمع الأوروبي، أو كما يُشاء أنْ يُصوّر له إعلاميًا" - ومواجهة فكرة أنّه آتٍ (بجرثومة الإرهاب في دم مُعتَقَدِه) ، هذا المَلْمَحُ الذي تكشّفَ لي هو ملْمَحُ التبايُنِ بين الإنسان أنّى كان في أصقاعِ هذه المعمورة، والمبتَسِمْ لأخيه الإنسان غير المؤدلج بلغطِ بالسياسة وتحزباتها، وغلط فهم الأديان، هذا الكشف أو التكشّف أرجعني لكتاب "مِنْ أجل المُسلمين" للصحفي الفرنسي "إيدوي بلينيل" الذي قدّم له بعبارة "يدٌ ممدودةٌ وفِعْل تضامني"، ويُوصَفُ أنّه خلّف أصداءً واسعَةً ومتباينةً في الأوساطِ الإعلاميةِ والسياسية والفكرية في فرنسا، وقد وصفه مُترجِمُه عبد اللطيف القرشي بوصفٍ لطيف شدّ انتباهي فيقول: "مراجعة مِنْ أجل عدالة لا تقف عند باب الانتماءات الطائفية أو الوطنية، وأنه يتوجّه إلى المستعمِرين بقدْر توجُّهِه نحو ضحاياهم أنفسهم، يتوجّه إلى المهيمنين، والمُهيمَنْ عليهم..."، وقد صدرتْ ترجمتُهُ الأولى هديّة مع مجلة الدوحة الثقافي في يونيو 2015م، بترجمة عبد اللطيف القرشي، بينما صدر الكتاب في لغته الأصلية في طبعةٍ فرنسية عن دار "لاديكوفيرت" بباريس سنتي 2014 و2015م، وبالطبع هذا الكتاب لا يُمثّل دراسة أكاديمية أو بحثّا محكّما، بل أصله عبارةٌ عن مقالات صحفية للصحفي الكاتب وضع لها أرقامًا، -لاحظتُ أنّها سُمّيتْ "بمرافعات سيمفونية"، وهو العنوان الذي اقتبسْتُ منه كذلك هذا المقال، ومع غرابة التركيب لكنها تُوحي إلى مداولات ورُدُوْدٍ على مقالات كُتّابٍ آخرين، ووضع المُترجِم لها فصولًا معنونةً باقتراحٍ منه وتزكية من الكاتب، وكان "بلينيل" يردّ في مقالاته على الهجوم الذي يُشنّ على مجتمع المهاجرين، أو الفرنسيين ذوي الأصول العربية والمسلمة، مِنْ قبل "وجهاء مِنَ الثقافة الفرنسية" مثل "إريك زيمور" الذي أصدر كتاب "الانتحار الفرنسي"، و"رونو كامي" الذي أصدر كتاب "انتحار أمّة" وأطلق مصطلح "الاستبدال الكبير" الذي يُشير فيه إلى معدّل الخصوبة المرتفعة للجاليات العربية والمسلمة مقابل الأوروبية والفرنسية "محذرًا" مِنْ خطر وتبعات ذلك، والتي على إثْرها قام "نيكولا ساركوزي" وزير الداخلية آنذاك بحملته "البوليسية العشوائية" على أبناء الجاليات المسلمة في المساكن العشوائية بفرنسا، ومن ثَمّ أنشأ وزارة "الهوية الوطنية" حين صار رئيساً لفرنسا، وقد جاهر الكاتبان في الكتابين بمعاداة الجالية العربية والمسلمة، وأنها ممتنعةٌ عن الاندماج في رُوح الجمهورية الفرنسية وهي العلمانية الفرنسية أو "اللائكية الفرنسية"، إضافة إلى أنّ المفكر الفرنسي البارز "آلان فينكلكروت" صاحب كتاب "الهوية التعيسة" أطلقَ عبارة أو فكرة |مشكلة الإسلام في فرنسا| الذي قالها على الإذاعة العامة الفرنسية، في العيد المسيحي الديني "إثنين العنصرة" ولذلك مغزاه زمكانيًا، وكان منها البدءُ في تحويل "بلينيل" مقالاته إلى كتاب.

 

عنوان هذا الكتاب نسجه "بلينيل" على منوال مقال الأديب الفرنسي الشهير "إميل زولا" الذي نُشِر عام 1896م، وكان بعنوان "مِنْ أجل اليهود" عن قتل ضابط يهودي يُدعى "ألفريد دريفوس" اتُهم بالخيانة لألمانيا، ثم ثبتت براءته، وتسبب هذا الضابط في كُرْهِ المجتمع الفرنسي لليهود حينها، ويجد "بلينيل" أن هذا العنوان المقصود جاء مِنْ أجل المباغتةِ وإحداث الصدمة وإيقاظ الضمائر التي ألِفَتْ لكثرة الخطابات "المسمومة" حالة "الإسلامفوبيا" ، آملًا أنْ تقف فرنسا ضدّه كما تقف ضد ما يُعرَفُ بمعاداةِ السامية، خصوصا أنّ معاداة الإسلام والمسلمين في فرنسا وأوروبّا يتم توظيفها لصناعة "عدو وهمي داخلي" بذريعة حماية العلمانية الفرنسية "اللائكية" مع أنّ "زيمور" و"بلينيل" دخلا في احتدام فكري ومقالات صحفية في المقارنة بين الإسلامفوبيا، ومعاداة السامية.

 

في البدء هناك جواب لتساؤل عن سرّ تعاطف "بلينيل" مع الجالية المسلمة، أو انفتاحه عليهم، وذلك مردّهُ أنّه وُلد في المستعمرات الفرنسية، وأمضى قسْمًا كبيرًا مِنْ طفولتِهِ وصباه في الجزائر، وهذه المعايشة لمجتمع المُستَعْمَرات والعرب المسلمين منحتْهُ انفتاحًا، وقدرةً على فهْمِ الآخر المختلف، كما أنّ الصحافة منحتْهُ اطلاعًا على فكر الآخر، فقد ترأس تحرير "اللوموند" من 1996م – 2004م، وله أكثر منْ عشرين كتابًا نقد فيها بغير مهادنة ما يراهُ ركودًا مجتمعيًا فلسفيًا في فرنسا، وكوْنُ الكاتب صحفيّا، يتمتع بِحراك مجتمعي يؤهّله – في نظري- لأنْ يكون مرآة لفهم "واقعٍ" أوروبي، ولم أقُل "الواقع الأوروبي" في فهم ما يحدثُ مِما يُسمّى الهجمات الإرهابية، وردّة الفعل الأوروبية، "المجتمعية، البرلمانية، الفكرية" تجاه هذا "الإرهاب" ، خصوصا وأنّ أوروبا تعتبر الملجأ الأهم "للنازحين" العرب" سواء قبل أو أثناء ما يعُرف بالربيع العربي، وما حدث بعده.

 

قبل الولوج للكتاب أحبُّ استعراض [نُكْتةٍ] في الطبعة التي بين يديّ، فقد وُشِّي الغُلاف بلوحةٍ للفنان العُماني موسى عُمر، هذي اللوحة تُشبِهُ نسيجًا باليًا أو ربّما جدارًا باليًا مُحاطًا ببراوز حائطي، وفي داخله لوحةٌ صغيرةُ ذات أيكونة قريبَة مِنَ غلاف اللوحة، إنما عُمّقت بما يُشبه الحروف القديمة، وبلونٍ أحمر، الألوان متوزِّعَةٌ بين الهادئة في البنيّ وقليل الورديّ، إضافة للونينِ صارخين هما الأصفرُ والورديّ يتناثران على الأطراف، وحاولتُ أنْ أستشفّ علاقة اللوحةِ بفحوى الكتاب "إنْ كان ثمّة علاقةٌ أو ضرورة لذلك" فأقول لعلّه في شكل الهلال في أعلى اللوحة، وما مثّله من رمزية إسلامية، لكني أحسستُ بعد قراءة الكتاب واستيعابِ محتواهُ بتوفيقٍ لا بأس به في اختيار اللوحة، في إشارة إلى فرنسا خصوصًا، وأوروبّا عمومًا وتشكّل المجتمع الأوربي بالمعرفة العمومية من فسيفساء دينية وعلمانية، وكأنّ هذا المجتمع قطعةُ نسيجٍ تشعرُ أنّها مقبلةٌ ككل العالَم على تغييرات، من ألوان هادئةٍ منذ أمدٍ، إلى ألوان بدأتْ بالصراخ، هذي النميمةُ يهزّ لها الرأسَ بشيء مِنَ القبولِ تأويلًا إذا عُدْنا إلى الحراكِ الذي يعيشه المجتمع الفرنسي والأوروبي وتوجّسِهِ مِنَ الاِسلام، ضمن التوجس الأوروبي المعروف بالإسلامفوبيا، والمباينة في رأي الكاتب أنّ الجمهوريين الفرنسيين يَرون أنفسهم حُرّاس "اللائكية" أي العلمانية الفرنسية، ويرون في اصطباغ الجمهورية بأيّ مظهرٍ "إسلامي" معادَاة لمبادئ الجمهورية اللائكية، مع العلم أنّ هؤلاء المتعصبين لمبدأ العلمانية الفرنسية "اللائكية" قد يكونون ضد اللائكية وهم يتخندقون في مواجهة عقيدة الأقلية من الفرنسيين ، كما يراهُ "بلينيل" رافضًا حتى لفظة "الأقلية" بل رافضا حشرهم في دور الضحية، مطالبًا إياهم بالتحلي والوضوح "وتنظيف أبويهم" في استعارةٍ إلى وجوب إخبار المسلمين الفرنسيين أنّ الإدانة بالإرهاب في ومن البلدان الإسلامية ليست بسبب الإسلام، وأنهم لا يحملون ذنْب هذه الإدانة، وأنّ غالبية عظمى منهم مولودون في فرنسا وأوروبّا ويحملون حبّها وهمومها وتطلعاتها، لذلك فتصنيفه بأنّه غريبٌ وأجنبيّ خارجي تصنيفٌ خارجيّ، كونه نشأ في ظهر المجتمع الأوربي، وهو ليس مُحتَلا لأوربّا، بل يرى البعض أنَّه من نتاج الاحتلال الأوروبّي، وهنا يستشهد "بلينيل" بمقولة "إيمي سيزر"  [لا أحد يحتل ببراءة، ولا ينجو المحتلّ بدورِهِ من العقاب، إنّ الأمّة التي تحتلّ والحضارة التي تبرر الاحتلال، هي حضارة مريضةُ مشوّهةٌ أخلاقيًا، وبإنكارها ستفتحُ المجال دون أدنى مقاومة لجلّادِها لعقابها الخاص] ، ويبدو أنّ "بلينيل" و"سيزر" أرادا بهذه العبارة أنْ يرميا إشارةً دبلوماسية حمراء إلى المجتمع الأوربي إلى أنّ هذا الفرنسي غير المسيحي، ذا السحنة الشرقية هو نتاجٌ للاحتلال الأوربي لقطعة الأرض الشرقية، ومحاولة مغنطة فكرها، وأنّ أفضل آلية للحفاظ على أوربّا سواءً بـ"لائكيّتها" القديمة أو بـ"لائكية" جديدة هو بصهر هذا "النتاج" والقبولُ بها كهُويّاتٍ جديدة، وعدم التعصّب للهوية الوطنية الأوروبية القديمة الموروثة من انفصال المجتمع عن قيم الكنيسة، بل قد تكون هذه الهُوية التي تتشكّل الآن هي تطور طبيعي لتغيّر وتطوّر للهويّات المجتمعية البشرية، وهنا يُصادِمُ "بلينيل" في مقاله الثاني المعنون بِـ"مشكلة فرنسا" حَملة "هناك مشكلة الإسلام في فرنسا" والتي قلنا إنّه أطلقها المفكر الفرنسي البارز "آلان فينكلكروت" ، ويرى أنّ هذه الأفكار العنصرية تُوجدُها وتصونُها "هزائم تتمثل في النكسات الفكرية، مِنْ مُدّعي الفكر والمعرفة من مُتوفّرين على بذخٍ اجتماعيّ..، وأنهم أمام عجزهم عن المعرفة والتفكير لم يعُدْ بوسعِهم سوى اقتراح انفعالاتٍ قاتلةٍ تُغلِّفُها هواجس الإسلامفوبيا" مُستَذْكِرًا أنه بعد الحربين العالميتين كان في ديباجة الدستور الفرنسي في الجمهورية الرابعة، مادةٌ احتُفِظ بها حتى في دستور الجمهورية الخامسة تقول "غداة الانتصار الذي حققته الشعوبُ الحرّة على الأنظمةِ التي سعَتْ إلى استعباد وإذلال الكائن البشري يُعلِنُ "الشعبُ الفرنسي"  أنّ كُل إنسانٍ بغضِّ النظر عن جنسِهِ ودينه ومُعتقده يتوفر على حقوقٍ مُقدّسةٍ لا تجوز مصادرتُها.." متسًائلا أيضاً هل يجب أنْ يخوض "الإنسانُ الفرنسي" كارثة أخرى ليعمل بهذه المادة الأساسية في الدستور، خصوصًا بعدما أبرز التقرير السنوي للجنة الوطنية للحقوق الإنسان بفرنسا إلى "استفحال العنف ضد المسلمين والزنوج والغجر الروم، وأنّ مؤشر التسامح داخل المجتمع الفرنسي في تراجعٍ مستمر...، وقد انزلقت العنصرية لتكون عنصرية ثقافية، وصار مصطلح الإسلامفوبيا يستعمل سياسيا لاستقطاب كُتَلٍ انتخابية أكثر اتساعا" وعلى هذا برز في الشارع الفرنسي تعنيف المرأة المحجبة على حجابها، بل اعتبار ذلك عملًا بطوليًا يصبّ في قِيم الجمهورية، ويعيد "بلينيل" تعليل هذا إلى قيام "هذه النُخب الفكرية والسياسية" خصوصًا اليمين المتطرف منها، بتوجيه إنسان الشارع الفرنسي إلى ملء – ما أُسمِّيه- "الفراغ  الجمعي الوطني" مِنْ أجل المصالح الشخصية والسياسية، وأنّ الإسلامفوبيا أصبح هو البديل لمعاداة السامية.

 

وبين "المزايدة" على الهُويّة، وتصنيعِها لملء "الفراغ الجمعي الوطني" والتعويد على ذلك ، يرى "بلينيل" في المقال الثالث المعنون "أنا أُتَّهَم[1]... " أنّ هذا التعويد هو [ تعويدٌ للوعيِّ على الإقصاء]، وهو العنوان نفسه لـ"إيميل زولا" في كتابه "مِنْ أجل اليهود" ما كان يراه مِنْ "حربٍ ذهانية[2]" مِنَ الاستقراطية الفرنسية ضد اليهود، شخصيًا أرى أنّ هذا "التعويدَ للوعي على الاِقصاء" شبيهٌ –بوجهٍ ما وذات خُبْث- شبيهٌ بإشغال "الإمبريالية" للشعوب بالحروبِ ولقمةِ العيش، بينما تقوم الإمبريالية بتنفيذ المخططات، والشعوب مُخدّرةٌ فيما تظنّه قضاياها، والإمبريالية تُخدّرُ الشعوب بكون جنس الإنسان في معظمه ظاهرةً صوتية، وليس العربُ فقط كما يقول "القُصيمي" ، خصوصًا بـ[إضفاء الشرعية على التمييز "بين الشعب الواحد" ، وإسباغ الاحترام على التشويش] ، بملء هذا الفراغ الجمعي الوطني من خلال تعويد الوعي على الإقصاء، ومقارنة "بلينيل" واقع اليهود من خلال نظرة "إيميل زولا" أنهم مُضطهدون ظُلْمًا بتهمة "دريفوس المظلوم" ، فنشوء صفات تمقت اليهود كجشعهم في حبّ المال، وتعميق ذلك الكُرْه حرْبًا ذهانية من الأستقراطيين الفرنسيين للمجتمع الفرنسي، يجدُ "بلينيل" أنه (بالطريقة نفسها اليوم، بين المال والإرهابِ، وعنف الأصولية المتطرفة، فإنّ مُسلمي فرنسا يجدون أنفسهم محطّ استهجان عام، وتُلقى عليهم مسؤولية جرائم لا علاقة لهم بها، وجريمتهم الوحيدة هي الانتماء والأصل والدِين). وكل هذا المقال لِـ"بلينيل" كان فيه موازيًا لمقالات "زولا" الشجاعة، وموقفه المهيب أمام قضيته التي آمن بها، كمقالات: شبح الغريب، رسالة إلى فرنسا، رسالة إلى الشباب، قوْل لا.

 

 

[1] مقال "أنا أتّهم" لإيميل زولا، نُشر على الصفحة الأولى من صحيفة باريس اليومية في 13 يناير 1898، ووجّهه للرئيس "فيليكس فاورى" واتّهم فيها الجيشَ الفرنسي بعرقلة سير العدالة، وقد دفع "زولا" حياته ثمنًا لهذا المقال المنشور في كتاب "من أجل اليهود" "زولا"، فقد نُفي للندن ومات هناك مخنوقاً عام 1902م.

 

[2] أرسل "زولا" رسالة لزوجته حين أطلق حملة لنصرة اليهود في شخص "دريفوس" ، وكتب في الرسالة "أجدُ أنّ صمتي نذالةً" ، معبّراً فيها عن وجهة نظره أنّ دفاعه عن المستضعفين "أي اليهود كما رآهم حينها" سيُعيد لفرنسا شرفها، بل قال بزهوٍ وشجاعة ذلك أمام القضاة في محاكمته التي حكمت عليه بالنفي.

 

الكتاب: من أجل المسلمين

المؤلف:  إيدوي بلينيل

المترجم: عبد اللطيف القرشي

الناشر: مجلة الدوحة الثقافي يونيو 2015م

أخبار ذات صلة