منى أحمد أبو زيد
يحاول هذا الكتاب أن يُجدِّد النظرة للإسلام مما يُتيح بعث المنهجية الإسلامية الأصلية من رقادها ونفض الغبار عنها وتجديدها. هذه المنهجية كانت خصبة في مجال علوم الدين والفقه. وكانت أيضًا خصبة في مجال التصوف، واستطاعت أن توازن بين العقل والروح. وبما أن العالم المعاصر قد بالغ في الاتجاه المادي المتطرف فإننا الآن بحاجة إلى الاتجاه المعاكس كي نحدث التوازن بالسير باتجاه العصر الروحاني. فبعد أن تطرف الغرب في الماديات والنزعات الإلحادية كان متوقعًا أن يعود إلى الروحانيات يومًا ما.
والمقصود بالروحانيات، في هذا المقام، روحانية الروح التي تحرر، والتي تدهش باستمرار، أما بالنسبة للمسلم فإن هذه الروحانية تتيح له أن يفهم الآيات التي يبثها الله في العالم كي يقرؤها الإنسان ويتمعن فيها، عن طريق علم التأويل، وهو علم يهدف إلى العثور على المعنى الأصلي الأول لمفهوم الخلق والإسلام، والآيات القرآنية.
ويرى المؤلف أن الجرأة التأويلية هي وحدها التي تمكننا من الاستمرار في الحياة انطلاقًا من المستويين البيولوجي والمادي، ولا يقصر المؤلف الحاجة إلى هذه الجرأة على العالم الإسلامي فقط، وإنما يضم إليها العالم الغربي، وربما البشرية بأسرها. بحيث تُساعدنا الحكمة الصوفية على إضاءة حاضرنا ومستقبلنا.
ومؤلف الكتاب هو «إريك يونس جوفروا» فرنسي الجنسية اعتنق الإسلام وعمره 27 عامًا بعد رحلة بحث في الديانات. سلك طريق التصوف وأصبح مختصًا فيه من الناحية الفكرية. يقوم بالتدريس بجامعة «ستراسبورج» بفرنسا بمعهد الدراسات العربية وله سبعة كتب ترجم بعضها إلى العربية.
ويتكون الكتاب من أربعة فصول. الأول وعنوانه «من الوحي إلى تاريخ البشر» حيث يتناول المؤلف فيه عملية «قلب» القيم في الإسلام. ففي القرن السابع الميلادي حدثت ثورة أثارها الدين الجديد. كانت في البداية ميتافيزيقية ولكن هذه الثورة القرآنية كانت أيضًا ثورة اجتماعية- سياسية لأنّ التعاليم الدينية الكونية للإسلام، وكذلك مبدأ المساواة الاجتماعية التي نص عليها حطمت القيم القديمة التي كانت سائدة آنذاك في المجتمع العربي كما حطمت العصبيات القبلية والعشائرية والفوارق الفاصلة بين مختلف طبقات السكان: أي بين الأغنياء والفقراء، أو بين الأقوياء والضعفاء، أو بين النبلاء وعامة الشعب.
ويعرض المؤلف أمثلة على هذا «القلب» الذي تعرضت له القيم في الإسلام:
أولاً: يقلل الإسلام الأولي من خطورة «الخطيئة» التي ارتكبها آدم في الجنة ويعتبرها نسبية، ويرى أنَّها لم تؤثر على الطبيعة الأساسية الخالصة للإنسان. وانقلبت هذه القيمة إلى عكسها في عصور الانحطاط والجمود عن طريق الهوس بالخطيئة والتحريم. من هنا انقلب الحياء وهو قيمة إيجابية إلى الإفراط في الخجل أو الحياء المتصنع وهو قيمة سلبية.
ثانيًا: المبدأ القرآني الذي يتحدث عن الحرية والمسؤولية الفردية عن الأعمال، انقلب إلى تواكلية وقدرية. هذا «القلب» لقيمة إيجابية إلى قيمة سلبية ناتج عن سوء فهم للعقيدة الإسلامية الخاصة بالقضاء والقدر.
ثالثًا: انقلب انفتاح الإسلام على ما هو كوني في العصور الأولى إلى ما هو عكسه، أي إلى انكماش الإسلام وتقلصه إلى البُعد العرقي.
رابعًا: كان هناك قبول بالغيرية والتعددية الداخلية في الآراء إبان العصر الكلاسيكي المبدع. لكنه تحول لاحقًا إلى فرض الرأي الواحد والمذهب الواحد فأصبح الإسلام نمطيًا أحادي الجانب، وساد الانغلاق والانكماش إبان عصور الانحطاط ولا يزال.
خامسًا: كان الإسلام في العصور الأولى المبدعة يتبنى الأخلاق الكونية المنفتحة على الإنسانية، فأصبح الآن خاضعًا للأصولية الجهادية العنيفة التي تكفر الآخرين.
إنَّ معنى الغيرية والقبول بالاختلاف وروح الانفتاح التي اتسم بها المسلمون قد تجلت إبان الفترة العباسية في بغداد بشكل خاص؛ والدليل على ذلك انعقاد مجالس المناظرات العامة بين مختلف ممثلي الفكر الديني. وشهدت هذه المناظرات نقاشات ساخنة بين مُمثلي مختلف الفرق الإسلامية المتنافسة. كل ذلك تمَّ في جو من الحرية الفكرية، وشارك فيها ممثلو الأديان الأخرى كاليهودية والمسيحية الذين دخلوا في صراعات شديدة مع المسلمين، بل كان يشارك أحيانًا فيها ممثلو الأديان الوضعية.
ويعرض المذهب الصوفي نفسه على أساس أنه تعددي، كما يعبّر عن ذلك القول المأثور: «السبل المؤدية إلى الله بعدد بني آدم». ونجد أن تجارب الصوفيين الأوائل تظهر لنا تيارات عديدة وغنية من التجارب الصوفية. ولم ينتصر التيار الامتثالي التقليدي الأعمى في الصوفية إلا بشكل متأخر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
ويتساءل المؤلف في الفصل الثاني عن المطلوب في الإسلام هل هو «الإصلاح» أم «ثورة في المعنى»؟ ويعتقد المؤلف أن الإصلاح في الإسلام يتضمن أيضًا الروحانية. ويؤكد ذلك بأن اللجوء إلى العقل لدى المصلحين الكبار من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد إقبال لم يتم على حساب المقاربة الروحانية للعالم والدين. فقد فعلوا ما فعلوه وهم مطلعون على ذلك النقد الذي وجهه كانط في أوروبا للعقل عن طريق حصر نطاق صلاحياته وتبيان الحدود التي يتوقف عندها. ومن الصحيح أنَّ هؤلاء المصلحين الإسلاميين كانوا يدينون التصوف الشعبي والتعلق بالخرافات، لكنهم كانوا أيضًا يضعون المثال الروحاني الأعلى فوق كل شيء.
واعترف أغلب المفكرين الإصلاحيين المسلمين في القرن العشرين بأنهم يدينون بالكثير للصوفية، أيًا كان مصير أفكارهم وأطروحاتهم لاحقًا تجاهها سلبًا أو إيجابًا. فبالإضافة إلى محمد عبده وإقبال. فالمفكر الهندي سيد أحمد خان، والباكستاني المودودي، قد اعترفا باحترامهما لأحد شيوخ الطريقة النقشبندية: أحمد سرهندي.
وفي هذا الفصل يتحدث المؤلف أيضًا عن معاني «الجهاد» وكيف أنَّ المسلمين قد حصروها في مفهوم واحد فقط وهو القتال، ونسوا الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس، والاجتهاد الروحاني. ويؤكد المؤلف على أن هذا القصور أحدث المأزق الذي أصاب العالم الإسلامي وأدى إلى انتصار القراءة المنغلقة الضيقة للقرآن، ولذا ينبغي القول بأن العلم الروحاني ليس مضادًا للعقل. فهناك العقل العادي الذي نعرفه، وهناك العقل الفوقي أو العلوي الذي يتجاوزه ويعلو عليه، وقد ورد هذا العلم الروحاني في سورة أهل الكهف يتحدث عن الخضر- عليه السلام-، ذلك العلم السري الغامض للأنبياء والأولياء الصالحين.
ويُطالب المؤلف المسلمين بممارسة الاجتهاد بصفته فهمًا ذكيًا وعميقًا للوحي وإرادته. وبهذا المعنى يطالب الصوفية أيضًا. فالصوفية مدعوة لممارسة الاجتهاد. وهي مطالبة أن تخصب الساحة الإسلامية الظاهرية العامة وأن تخصب أرضية تحرياتها الخاصة بالذات. وهي أرضية تبدو مبدئيًا أكثر دقة وصعوبة لأنها تخص قضايا الروح. إن المقاربة الروحانية للحقيقة والواقع كانت فعالة ومفيدة وناشطة وحاضرة في الثقافة على مدار القرون الأولى لكنها توقفت في العصور المتأخرة ونضبت. لقد ساهمت هذه المقاربة الروحانية بشكل مبكر جدًا في تجديد المعنى في الإسلام، وهو تجديد لا يتوقف إلا كي يبدأ من جديد.
وفي الفصل الثالث يطرح المؤلف سؤالاً آخر عن ما بعد الحداثة: هل هي مأزق مسدود أم نعمة إلهية؟ ويعرض المؤلف موقف المسلمين من الحداثة، ويرى أن الاتجاه الشائع المهيمن عندهم- منذ القرن التاسع عشر- هو الإدانة المطلقة التي لا رجوع عنها، وهي إدانة تتخذ شكل الشائعة الجماعية؛ لأنهم يعتقدون أن مشروع الحداثة الغربية يهدف إلى فرض العلمانية والدَنيَوة على البشرية جمعاء، وكذلك نزع القداسة وتصفية الدين.
ويشير المؤلف إلى أنَّ الإسلام أكثر الأديان تعبيرًا عن التطور والحداثة والعلمانية وبالتالي فربما كان هو دين الأزمنة الحديثة؛ لأنه دين بسيط عقلاني في عقائده. فعقائده تُختصر في الإيمان بإله تجريدي إلى حدٍّ ما بالإضافة إلى بعض الشعائر البسيطة والكونية علاوة على إلغاء التمييز بين الإيمان والعقل، أو بين الوحي والخلق.
ولا ريب في أنَّ إحدى سمات الحداثة/ أو العولمة الحالية هي تسريع الزمن، وهذا التسارع للزمن يتماشى مع إلغاء المسافات الجغرافية. وشعار الصوفي في الحياة هو أنّه «ابن اللحظة»، أو ابن عصره. واللحظة عند الصوفية تتطابق مع الوضع الروحي (الحال) حيث يجدون أنفسهم فيه أو بالأحرى الذي يضعهم الله فيه. وهي «حالة» يمكن أن تُنعت أحيانًا بالسيكولوجية، وأحيانًا بالروحانية. ولا يقيمون أي وزن للماضي أو للمستقبل بل يهتمون فقط بالحضور الإلهي هنا والآن. ينبغي على الصوفي إذن أن يظل دائمًا «حديثًا»، فالصوفي بالدرجة الأولى خادم مطيع لله الحي. وبالتالي يمتلك القدرة على اكتشاف الحكمة الكامنة خلف الطفرات العنيفة التي نشهدها.
ويقدم المؤلف طريق الصوفية كعلاج لتعاسة العالم. وأن إعادة ضخ العامل الروحاني والخيالي في الغرب هو الحل لكي لا يتحول أفراده إلى فرائس وضحايا للمحللين النفسانيين. إذ تتفشى الأمراض النفسية عندهم بسبب غياب أي معنى آخر للحياة غير الماديات الاستهلاكية، ثم تتزايد حالات الانتحار بسبب غياب الطمأنينة الروحية أو الدينية الراسخة.
ويتناول المؤلف في الفصل الرابع: «الصوفية في شكل طريقة: محصلة وتحديات» ويطرح المؤلف في مستهل هذا الفصل سؤالاً مهمًا: هل عقيدة الصوفية وأخلاقيتها تتضمن بديلاً عن أزمة القيم الحالية أم لا؟ وإذا كان الأمر بالإيجاب فهل يتجسد ذلك على أرض الواقع أم أنه يظل لغوًا لا أهمية له؟ ويجيب المؤلف قائلاً: إن الصوفية ليست فلسفة تجريدية، وإنما ممارسة عملية تدريبية، إنها تجربة داخلية تؤثر بشكل متضافر على الجانب الروحاني، والنفساني، والجسدي.
وعلى المستوى الجماعي تجسدت حكمة الصوفية ومثالها الأعلى في صيغ إنسانية واجتماعية محددة تمامًا، وهذا التجسد راح يقوى ويترسخ بمرور الزمن. وشكلوا في الفترة الحديثة الزوايا أو الطرق الصوفية، وهذا ما كان الباحثون الغربيون قد دعوه «جمعيات دينية للبر والإحسان».
والنقد الأساسي الذي يوجهه المؤلف إلى الطرق الصوفية هو النزعة التعصبية الضيقة والمناقشات الحامية الكائنة بين الطرق المختلفة، وذلك يضر كثيرًا بالطابع الكوني للصوفية. وينتج عن هذه المجموعات الصوفية التحزب الضيق الذي أصاب الآخرين بالعلل والعاهات، في حين أن هذا التحزب مرفوض عند الصوفية الحقيقيين الذين اعتبروا أنّ الاختلافات بين الطرق الصوفية أمر طبيعي ومرغوب؛ لأنه يتجاوب مع الحساسيات والأمزجة الروحانية. وبالتالي فلا ينبغي أن يؤدي إلى نبذ الآخرين والتعصب ضدهم، إلا أن للصوفية دورهم الإيجابي، وخاصةً الطرق الصوفية الموجودة في بلاد المغرب وأفريقيا الصحراوية. لأن الطرق الصوفية هناك حاربت الاستعمار، ومنذ القرن الخامس عشر قامت الزوايا الصوفية الكبيرة بالجهاد الشعبي ضد الإسبان والبرتغال. ويعترف محمد أركون بهذا الدور الإيجابي للزوايا الصوفية ويلوم الحركة الإصلاحية التي أهملت هذا الجانب.
والبدايات الأولى للمقاومة ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر تتمثل في شخصية الأمير عبد القادر الجزائري. ومن المعلوم أنه وُلد وتربى في أحضان الطريقة القادرية، ورفعه شعبه إلى مرتبة «أمير المؤمنين» كي يخوض النضال ضد الفرنسيين. بالإضافة إلى شخصيات أخرى عديدة.
وتقوم الطرق الصوفية المستقرة الآن في الغرب بالاهتمام بالتراث الإسلامي وتنشطه وتنشط معه الحياة الإسلامية ككل، وذلك عن طريق تدشين المهرجانات والأحداث الثقافية. يُعبر كل هذا عن حاجات المجتمع الغربي للروحانيات، ولهذا السبب أصبحوا ينظمون أكثر فأكثر تظاهرات ثقافية وفنية حول الصوفية. يضاف إلى ذلك أن الأفراد أو المجموعات التابعة للأوساط الصوفية يسهمون إلى حد كبير في انبثاق ثقافة إسلامية غربية وازدهارها عن طريق الكتابة والترجمة والنشر.
ويؤكد المؤلف أخيرًا على أن ممثلي الطرق الصوفية ناشطون ومنخرطون في الحوار بين الأديان، بل ويتدخلون في الحوار بين الرهبان الذين ينتمون إلى أديان مختلفة، وخاصةً على صعيد التجربة الروحانية. وهو ما يدعى بالحوار الرهباني بين الأديان؛ ذلك لأن الروحانية تتيح تجاوز الحواجز العقائدية أو اللاهوتية بين الأديان دون إهمالها أو محوها.
-----------------------------------------------------------------------
عنوان الكتاب: المستقبل الروحاني للإسلام
تأليف: إريك يونس جوفروا
ترجمة: هشام صالح
الناشر: نبض للنشر والتوزيع بالتعاون مع المركز القومي للترجمة، العدد (2674) الطبعة الأولى، 2016م.
عدد الصفحات : 247 صفحة - اللغة الفرنسية
Õ أستاذ الفلسفة الإسلامية- كلية الآداب- جامعة حلوان- مصر.
