مريم العدوية
1. استهل الأكاديمي المصري أحمد محمد سالم مقالة له تحمل التساؤل السابق بسبر أغوار اللغة؛ إيماناً منه بأنها الأساس في إيضاح المعاني والمصطلحات التي تُستخدم سياسياً واجتماعياً. ولقد وجد بأن للعدل عدة معاني في معجم (لسان العرب)، ومنها: عدل الحاكم في الحكم. أما من جانب السنة فهنالك كذلك ذكر للعدل في عدة مواضع. بينما الحر، والحرية في (لسان العرب) جاءت نقيض العبد، والعبودية ولقد ورد ذكرها في السنة النبوية في أكثر من موضع؛ فجاء الاستخدام اللغوي الاصطلاحي التقليدي للحر والحرية مفهوماً ذو دلالة شرعيّة في الإسلام، وارتبط تاريخياً بالرّق ولم يحمل معاني سياسية بالمعنى الحديث، على الرغم من كونه شمل في فترات من التاريخ الفئات المعفية من الجزية ونحوها.
2. وبتسليط الضوء على مفهومي العدل والحرية في الإطار الشرعي السياسي الإسلامي يتبين لنا أن العدل شكل قيمة محورية في ( السياسة الشرعية) سواء من ناحية نظرية الإمام أو الآداب السلطانية وما شاكلها من نصائح للملوك. وكان مفهوم السياسة الشرعية للعدل يعني تنفيذ حكم الله كما ورد في الشرع. ولكن لم يخل الأمر من هوة كبيرة بين الدعوة إلى العدل نظرياً والتنفيذ على أرض الواقع إلا في فترات معينة. ويعتبر مبدأ العدل في الثقافة الإسلامية حجر الأساس وجوهر القيم السياسية. ويذهب البعض إلى أن العدل قيمة جماعية بينما الحرية قيمة فردية، وهذا ليس من باب إعطاء الأهمية لقيمة دون أخرى ولكن؛ لأن تشكل العدل منوط به منطقياً إلى إيجاد الحرية على أرض الواقع.
وعلى الرغم من محاولة القول بأنّ مركزية العدالة في الاتجاه السياسي لا تلغي الحرية؛ فإنّ الفقه الإسلامي لم يشمل أي معالجة لقضية الحرية، بل إنّ حديث الآداب السلطانية عن الجزية ونحوها يوضح لنا أن توظيف الفقه السياسي الإسلامي لمعنى الحر جاء بما يقابله في اللغة بمعنى العبد، وأنّ المعنى الاجتماعي هو الموجود في الدلالة اللغوية، بينما لا نجد في السياق السياسي الشرعي أي حديث عن الحرية أو الحريات بالمعنى السياسي لها. ومن جانب آخر نجد أنّ حديث الثقافة الإسلامية القديمة عن الحرية جاء من منظور إنطولوجي ميتافيزيقي، حين ناقش علماء الكلام قضية الحرية والجبرية.
3. السياق الشرعي/ الحديث (العدل /الحرية): لقد كان من تبعات تأثير الإمبراطورية الأوروبية على الإمبراطورية العثمانية في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر (العدل) كقيمة مرتكزة في السياق الشرعي ومسيطرة على تطور الفقه في السياسة الإسلامية وبالتالي ظهر مصطلح الحرية بالمعنى السياسي. ومن هنا دخلت على الثقافة العربية والإسلامية رؤية جديدة لما كانوا عليه؛ فمن قيمة العدالة لديهم إلى الحرية لدى الغرب.
وبالنظر إلى بعض نتاجات رواد الفكر العربي الحديث أمثال: رفاعة الطهطاوي يتبين لنا أنه كان من الصعب التخلي عن تراث الفقه الإسلامي السياسي في سبيل ما جاء من الغرب؛ فظل العدل عند الطهطاوي مثلاً هو القيمة المحورية بينما نظر إلى الحرية الغربية كآلية القياس والمماثلة في نقل الوافد الغربي إلى ثقافتنا. ويرى خير الدين التونسي كرجل دولة نفس وجهة نظر الطهطاوي رجل الدين؛ فالحرية امتداد للعدالة. ويتبين لنا أن التونسي في رؤيته إلى الحرية يعطفها على العدل وهو بهذا يتفق مع الطهطاوي، ولا ريب أنّ وحدة النظر لديهما متفقة نتيجة لانطلاقهما من قاعدة ثقافية واحدة لا تفرق بين الدين والسياسة. ومن جانب آخر حملت أفكار الأفغاني اضطراباً واضحاً؛ لأنه كان يبحث عن زعامة سياسية أكثر من بحثه عن بناء نسق فكرى إصلاحي، ولا شك أنّ اقترابه من الملوك كان أثرهُ سلبياً على أفكاره؛ فقد اتخذ موقفاً سلبياً من قضية الحرية. وكان ينظر إليها على أنّها نهج غربي خالص، وكانت الحرية لديه تعنى أحياناً الإباحية وجحود الدين. بينما تحدث الأفغاني بإيجابية عن العدالة وذلك من خلال ترويجه لفكرة (العادل المستبد). وبهذا يمكن القول أنه عاد بالفكر العربي خطوة للوراء، حين خالف الطهطاوي والتونسي في كون العدالة امتداد للحرية.
بينما ركز عبدالرحمن الكواكبي على نقد استبداد الإمبراطوريّة العثمانية، ولقد كان أكثر ميلاً كذلك للنمط الشرعي. ويشيد الكواكبي بنظام الخلافة ويعتبره حكما مدنيا، والدليل على ذلك أنّه في كتابه (أم القرى) قد دعا إلى خلافة كونفيدرالية إسلامية، يجتمع تحت غطائها كل أجناس المسلمين، ومن ثم لا يمكن أن نعتبر نقد الكواكبي للاستبداد هو رفضا لنظام الخلافة بقدر ما هو نقد لاستبداد السلاطين، ورغبة في عودة العدالة إلى نظام الخلافة.
ومن خلال تحليل النماذج السابقة للمفكرين نجد أن نسق السياسة الشرعية كان هو الحاكم في نظرة المفكرين العرب إلى الحرية بالمعنى الحداثي من خلال العدالة، أو كامتداد للعدالة بالمعنى الشرعي وهو ما نجده في آراء كل من: الطهطاوي والتونسي والكواكبي. وإن كان الأفغاني أكثر قرباً إلى النسق الشرعي من أي مفكر آخر. ولكن مع ذلك فإنّ هناك مفكرًا مسيحيًا عربيًا وهو أديب إسحاق تبنى الدعوة إلى منظومة أفكار النسق الغربي الخالص الذي يركز على الدعوة إلى الحرية دون الالتفات الواضح للعدالة، ولكن اليوم لا نجد أثراً واضحاً لأفكار أديب إسحاق على الفكر العربي نتيجة لقصر عمره وكثرة تنقلاته وبالتالي لم يكن له الكثير من الطلاب.
4. السياق الحديث (الحرية): مع مطلع القرن العشرين أخذ سياق الحرية منحى حديثا، بعد أن كان في القرن التاسع عشر ذا منحى شرعي، فكيف انفصل الحديث عن الشرعي؟ يمثل الإمام محمد عبده وهو من تلامذة الأفغاني، الشخصية المفصلية في تاريخ الفكر العربي. وقد عُرف عنه الخطابات الدينية اللاذعة للعلمانية. ولكنه من ناحية أخرى دعا إلى الخلافة وانتقد ممارسات السياسة في التاريخ الإسلامي في الوقت ذاته واتبع سبيل معلمه الأفغاني في دعوته لفكرة (المستبد العادل)، وهو ما يفسر خروج تلاميذ من تحت يديه بأفكار متناقضة الآراء أمثال: قاسم أمين.
ومن بعده كان أحمد لطفي السيد أبرز داعية للنسق الليبرالي الحديث للحرية؛ حيثُ انتقد نظرية ( المستبد العادل). ولقد تعرض لهجوم شديد من المحافظين متهمين إياه بإشاعة الأفكار الغربية، وعلى الرغم من ذلك أثمرت دعواته هو وقاسم أمين إلى تبني النسق الحداثي الليبرالي للحرية وازدهار الحياة السياسية المصرية. وفي ظل ازدهار النسق الليبرالي انحسرت الدعوة إلى التيار الشرعي، هذا على الرغم من دعوة رشيد رضا مرة أخرى إلى الخلافة في كتابه (الخلافة أو الإمامة العظمى) ومهاجمته لليبراليين.
وقد انتهى خطاب الإصلاح لدى محمد عبده بما يحمله من استنارة إلى محافظة على يد رشيد رضا، وامتد أثره بتتلمذ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين.
وبهذا انتهت الممارسة السياسية الشرعية بسقوط كمال أتاتورك وأصبحت ممارسة السياسة الشرعية مجرد حلم يراود الحركات الإسلامية. ولكن من ناحية أخرى لم تتأصل جذور (الحرية) وفق المعنى الحديث في الفكر العربي نتيجة البنية الاجتماعية القائمة على القبيلة والعشيرة؛ فما زالت دعوة الليبراليين نخبوية تبدو كجسم غريب في المجتمع.
