كاملة العبري
اقتبس ابن رشد عن أستاذه أرسطو نظرية الحجج الثلاث وهي: الحجة البرهانية والحجة الجدلية والحجة الخطابية، في بحثه "الإقناع بين العنف والعقل في منزلة التعذيب الحجاجية عند ابن رشد" يناقش الباحث والأكاديمي المغربي فؤاد بن أحمد رأي ابن رشد في الإقناع بالتعذيب في الحجة الخطابية، وكان السؤال الرئيسي للبحث هو:
ما معنى أن يكون التعذيب موضوع تفكير في القرون الوسطى الإسلامية؟
يشير الكاتب إلى العلاقة بين الحجة والتعذيب عن طريق الجذر الاشتقاقي لكلمة حجة الذي يفيد العنف والأذى بمعنييه المادي والنفسي، كما بين أيضاً المعنى النفسي الذي تنطوي عليه أيُّ حجة وهو إضفاء لغطاء المعقولية على الميولات والرغبات الدفينة في التدمير والهدم.
ما هو نوع الحجة التي يناقشها هنا الكاتب؟
الحجة الخطابية وهي تعني : "التي يعتمد صاحبها على مُقدمات ظنية، تأخذ بالظن الراجح دون الحرص على إبراز الدليل والبرهان، بل يعتمد فيها على استخدام اللغة والبلاغة في إقناع المتلقي". وهي تعتمد على إثارة المخاطب والتأثير فيه.
هنا تناول الكاتب مناقشة المواطن التي استخدم فيها ابن رشد ثيمة التعذيب، وهي:
1-الإقناع الصناعي وغير الصناعي:
يقول ابن رشد في هذا في كتابه تلخيص الخطابة: فأما الأشياء التي تفعل التصديقات في هذه الصناعة فمنها ما هي صناعية وتلك التي وجودها لاختيارنا ورويتنا ونحن الفاعلون لها، ومنها ما هي غير صناعية وهي التي ليس وجودها لاختيارنا ورويتنا، مثل الشهود والتعذيب والعقود.
فالإقناع الصناعي هو اقتناع حقيقي لا شك فيه، أما غير الصناعي فيخالطه الريبة، وما يؤكد هذا أن الباحث عرض رأي ابن رشد في هذا، حيث يقول ابن رشد : إنما كانت الضمائر أشرف من هذه (الأشياء التي تقنع من خارج) وأشد تقدمًا لأنها قد تستعمل في إثبات ما كان من هذه غير بينة أو بينة الإقناع. فقد يظهر من أول الأمر أن كثيرًا من هذه الأشياء التي من الخارج إنما يفيد الإقناع فقط، لكن هذا الإقناع قد يخفى في بعضها خفاء.
وعلى الرغم من أنّ القناعة هي غاية الخطابة بالنسبة لابن رشد، إلا أنه يقول في كتابه: "وليس عمل هذه الصناعة أن تقنع ولابد، أعني أنه ليس يتبع فعلها الإقناع بالضرورة كما يتبع فعل النجار وجود الكرسي ضرورة".
2- التعذيب طريق للإقناع :
يشير الكاتب إلى وجهة نظر ابن رشد في ضرورة استعمال الأقاويل الخطابية والشعرية في إقناع الناس على الفضائل، ومن الأساس فالحجة الخطابية تعمل على إثارة الأحاسيس لا العقول، كما يرى ابن رشد أنّه يتعذر إقناع الناس بالحجة البرهانية حيث يقول : "إنما خصّ أفلاطون الجمهور بالطرق الخطابية والشعرية في تعلم الحكمة لأنّه ليس هناك من طريق غيرها إلا أحد أمرين، إما أن يتعلموها بالأقاويل البرهانية وهذا ممتنع في حقهم، وإما ألا يتعلموها أصلاً وهذا ممكن".
إحدى النقاط التي استنتجها الكاتب هي أن ابن رشد يرى بالطبيعة الشريرة للإنسان وأن التعليم يحد من جبروته، واستدل على ذلك من قول ابن رشد: إن للخطابة منفعتين. إحداهما أنها تحث المدنيين على الأعمال الفاضلة. والمنفعة الثانية أنه ليس كل صنف من أصناف الناس ينبغي أن يستعمل معهم البرهان في الأشياء النظرية التي يراد منهم اعتقادها – وذلك إما لأنّ الإنسان قد نشأ على مشهورات تخالف الحق، فإذا سلك به نحو الأشياء التي نشأ عليها سهل إقناعه وإما لأن فطرته ليست معدة لقبول البرهان أصلا وإما لأنه لا يمكن بيانه له، في ذلك الزمان اليسير الذي يراد منه وقوع التصديق فيه – فلهذا قد نضطر إلى أن نجعل التصديق بالمقدمات المشتركة بيننا وبين المخاطب أعني، بالمحمودات. وأيضاً يقول :
"إن الناس بالطبع يميلون إلى ضد الفضائل العادلة فإذا لم يضبطوا بالأقاويل الخطبية غلبت عليهم أضداد الأفعال العادلة. وذلك شيء مذموم يستحق فاعله التأنيب والتوبيخ أعني الذي يميل إلى ضد الأفعال العادلة، أو المدبر الذي لا يضبط المدنيين بالأقاويل الخطبية على الفضائل العادلة".
ويوافق الكاتب ابن رشد في رأيه، فهو لا يراها نزعة تشاؤمية منه بل إنّ دور الخطابة يكمن فعلاً في الحد عن طريق الإقناع من ميولات النّاس الطبيعية وتعليمهم الفضائل، فالاستعداد لا يكفي لتجنب الشرور. بالنسبة لابن رشد والكاتب فالخطابة هنا مثلها مثل التعليم تعمل على تنمية الأخلاق الفاضلة في الناس.
يأتي بعد ذلك رأي ابن رشد في الإقناع عن طريق التعذيب، وفي ذلك يقول : "أما الطريق الثاني فهو السبيل التي تسلك مع المتمردين والأعداء، ومن لا يتحلى بما يجب له من فضائل، وهي سبيل الإقناع والإكراه".
والتعذيب من الأشياء الخطابية غير الصناعية الفاعلة للقناعة والتي ذكرها ابن رشد جنباً إلى جنب مع السنن والشهود والعقود والإيمان، لكن يرى الكاتب أنّ للتعذيب خصوصية مختلفة.
كيف يكون للتعذيب خصوصية مختلفة؟
يرى بن أحمد أن خصوصية التعذيب تكمن في أنّه قائم على الخوف الكبير الذي يولد تخيلات كاذبة وهلوسات مرضية وبالتالي ليس من السهولة بمكان الإقرار بصدق ما يقول المعذب، حيث إنّ الصدق ليس قيمة مطلوبة لذاتها، وإنما يضطر إليها بالعرض.
يقول ابن رشد : "فأما التقرير بالعذاب فإنها شهادة ما لقول المعذب وفيه له تصديق ما لأنّه يخاف إن كذب أن تعاد عليه العقوبة، ولما يتخيل أيضًا أن في الصدق النجاة من الشر الواقع به إلا أنه صدق مكره عليه". وهذا إقرار من ابن رشد بأن المعذب يلجأ إلى التصديق خوفًا من العقوبة والعذاب وأن كلامه لا يحمل رأيه الحقيقي.
في النهاية يعلن ابن رشد أن على الحكام والقضاة تجنب استخدام هذا النوع من الاستدلال الذي يكون فيه الإنسان مكرهًا بالعذاب بل يجب استعمال باقي الأشياء التي تنتج تصديقات مثل الشهادة والإيمان وهذا ما يراه ابن رشد متوافقاً مع الشريعة.
الجيد في مقال الباحث ابن أحمد أنه استقى معلوماته من كتب ابن رشد نفسه، لا من مصادر تكتب عنه، كما أن استنتاجاته في البحث كانت قوية، وبدأ بحثه بعنوان يجلب الحيرة لقارئه أول وهلة ويجعله يتساءل هل يا ترى الفيلسوف وقاضي قرطبة يقر بالتعذيب للإقرار ؟! .
