عبدالله العلوي
ما عاد العالم أجمع، والعالم العربي والإسلامي مثل سابقه، تجددت أشياء كثيرة سواء من الناحية الفكرية والمجتمعية والعلمية، حتى في تعاطيهم مع قضايا الإسلام الفقهية والعقدية، وهذا كائن عن عوامل مختلفة أهم تلك العوامل هو انفتاح العوالم على بعضها خاصة العالم التكنولوجي، فصار التقارب المعرفي والعلمي والفكري بين الحضارات أمراً لا مناص منه، والصحفي أمير طاهري في مقاله "كيف يفكر المسلمون في الزمن الحاضر؟ " أعطانا نماذج مختلفة في كينونة هذا التقارب.
جاء الإسلام بمبادئ تدعو إلى التطور، وتنفي التشدد، فالإسلام هو دين مُتجدد، والتجديد لا نعني به أن نغير في مبادئه وأفكاره وثوابته، وإنما أن نفتح باب الحوار والاجتهاد لمواكبة العصر، وفتح باب الحرية لمناقشة الأفكار بكافة أنواعها، والجمود في الإسلام الذي بثّه بعض المسلمين إلى العالم إنما يصنعه عقل المسلم الذي يجعل من الإسلام دين التشدد والعصبية، وهذه هي النظرة الذي أذاعها كثير من المسلمين في العالم، وفكرة أن الإسلام ليس دينًا متشددًا هي فكرة بدأت تنتشر في الأوساط العالمية الأوروبية خاصة، والعالم عامة، وبدأ الفصل بين معتنق المبدأ وبين المبدأ نفسه، فالخطأ هنا يقع على المعتنق وليس على المبدأ.
لا نستطيع – في الحقيقة- أن نقول: إنّ المرحلة التي تمر بها الدول العربية والإسلامية في الوقت الحالي مرحلة مظلمة بكاملها، رغم القتل والتشريد الذي يطول البشر، إلا أن هذا الصراع يمكن أن نصنفه هو صراع الفكر أكثر من كونه صراع السلاح، وهو ذاته الذي حدث في بداية الثورات الأوروبية في العالم الغربي، عندما كانت سيطرة الكنيسة وتدميرها للفكر الإنساني، مما أدى لأن تقتل وتسجن وتحرق من أجل أن تثبت رأيها بقوة، وهو ذاته الذي يحدث الآن في عالمنا الإسلامي، كل فئة وكل طائفة تريد أن تقول نحن على صواب وغيرنا على باطل، مما جعل الإنسان المسلم يوقن – بسبب هذه الصراعات- أنّه لا بد أن يقرأ ويفتش عن الحق بنفسه حتى يكون في طرف معين، فمن يناصر ومن يخالف حتى يكون في بر الأمان.
لقد لعبت الثورات العربية – إن صح القول- دورًا مهمًا في القضاء على الدكتاتورية العلمية والإعلامية والسيادية والدينية التي كان يمارسها علماء الدين والحكومات السياسية شيئاً ما ولو كان بسيطًا، فما أصبح التعليم محتكرًا على فئة من فئة، فدور التعليم هو دور الموجه، فما عادت الكتب الدينية خاصة لرجال الدين، وما عادت كتب الاقتصاد خاصة لأهل الاقتصاد، فقد تجد رجل الدين يقرأ في مختلف العلوم، وقد تجد الفنان يقرأ في كتب الدين، وهذا التمازج في التوجهات هي ظاهرة صحية، لأنها تنتج لنا جيلًا يحاور ويناقش، حتى أصبح يناقش في الأمور الحساسة من صميم مبادئ الدين الإسلامي، وأخص من بينها القضايا العقدية والفقهية، ولا ننسى الدور الذي لعبه الإعلام في ذلك، من خلال القنوات الفضائية والجرائد، فتجد الآن في الوطن العربي الواحد أكثر من أربعة جرائد وكل جريدة تناصر وتخالف، وقد تكون هناك رأي عقدي أو سياسي تختلف فيه جرائد الدولة الواحدة، هذا غير ما نجده في التلفزيونات والبرامج الإذاعية من حوارات وإن كانت حادة إلا أنها فتحت مجالًا رحبًا للنقاش والحوار، كما أنّ للتكنولوجيا دورها الفاعل، فما أصبحت المعلومة تحتاج إلى مكتبات ضخمة، تدخل المكتبة وتبحث بين رفوفها، وتقضي وقتًا مطولًا حتى تحصل على كتاب، ولربما حصلت عليه أم لم تحصل عليه، فلك تضغط زرًا معينا لتخرج لك المعلومة باحثة عنك، وتتسابق المعلومات كي تقدم نفسها لك، فصارت المعلومة في متناول اليد، يستطيع أن يحصل عليها أيّ شخص في وقت وجيز وبسهولة خارقة.
كل هذا التطور والتغيير في العالم العربي والإسلامي جعل من العقل المسلم يفكر ويعيد حساباته في مناحي الحياة المختلفة، إلا أنّ هناك فئة طاغية في المجتمع الإسلامي لم تستطع أن تتأقلم وتندمج مع هذه التطورات والتيارات المتجددة والمتشابكة، ولا تريد أن تتحرر من الكهنوت الذي يعشعش في رأسها، لذا أصبح تطبيقها في ظل الظروف المتغيرة صعوبة لا يمكن تحملها، وما نقصده من جمود للدين الإسلامي تمثله هذا الفئة من المجتمع بشكل طافح ومتغلغل، والحقيقة أننا لا نتفق مع فكرة أن العالم الإسلامي ما عاد ينظر إلى المشكلات السياسية على أنها مشكلات دينية، وأن السياسات بدأت تفصل الدين عن الدولة، ولكن الواقع يقول غير ذلك، فجل الصراعات في العالم العربي وأخص (سوريا – اليمن – ليبيا) صراعات طائفية في المرتبة الأولى أكثر من كونها صراعات سياسية، والسياسات العربية تلجأ للمذهبية في غالب الأحيان من أجل إشعال نار الفتنة بين الشعوب لتثبيت كراسيهم في مكانها، ولإلهاء الناس عن مطالبهم الحقيقية والشرعية.
وكما أنّ هناك فئة في العالم الإسلامي متشددة متعصبة طائفية، فهناك فئة أخرى تهاجم المرتكزات الإسلامية بشراسة، بحجة حرية الرأي، وفي غالب الظن أنّ هذه الفئة قد تأثرت بشكل كبير بالفكر الغربي، وما يعتنقه من فكر متحرر منفتح، فظهرت العلمانية والعقلانية والماسونية والشيوعية .... إلخ، وهذه الفئة منهم من أخذ يطالب بحقوق المرأة، وحقوق الطفل، وحقوق تحرر الأسرة، في مقابل ذلك يجعل هذا الهجوم الآخر في فوهة الدفاع عن المبادئ، فالإسلاميون يدافعون عن آراء يعتقدون أنّه لا يمكن المساس بها، ثم يأتيهم من ينسف هذا المبدأ الذي تربى عليه منذ نعومة أظافره، فمن أين لك الحق أن تهاجمه بكل ما أوتيت من قوة دون أن تلقي بالًا إلى مشاعره الدينية، ومن هنا يبدأ الصراع بين الدفاع والهجوم.
في تصورنا أن غالبية الشعوب الإسلامية تريد الاستقرار والاطمئنان، ولو رجعنا لفترة قصيرة سابقًا وجدنا طوائف مختلفة وبمذاهب مختلفة يعيشون في مجتمع معين ويتزاوجون من بعضهم، شريطة ألا يتم المساس بالذات الإلهية والمسلمات الدينية، وهذه الفئة هي الفئة الطاغية إلا أنّها فئة ضعيفة لا ينظر إليها بقدر النظر إلى الفئات الأخرى الظاهرة رغم قلتها.
الصراع الذي يمر به الوطن الإسلامي يحتم علينا القول أنّه لا يمكن أن نفصل الدين عن الدولة فصلًا نهائيًا في هذه الفترة والفترة القصيرة اللاحقة، ويمكن أن تكون خطوة مستقبلية، ولا بد من التدرج في الوصول إلى مرحلة الفصل بين الدين والدولة، لأنّ الحروب الآن هي حروب دينية، وقولك إنّ الدين بعيد عن السياسة هذا يزيد إلى الأزمة أزمة أخرى، ولكن يجب على الحكومات أن تمسك بوسط العصا، ويجب أن تفكر في العدل، والتوافق بين الأفكار الدينية المختلفة، ونجحت بعض الدول الإسلامية في هذا التفكير، أهمها الجمهورية الجزائرية.
إنّ التفجيرات في فرنسا وبلجيكا حديثًا وتفجيرات متفرقة في تركيا وفي السعودية والكويت ومصر وتونس، وشيوع التنظيمات الإرهابية المنتشرة في الدول العربية والإسلامية، وادعاء هذه المنظمات أنها تطبق الإسلام بحذافيره، جعل من صورة الإسلام صورة مشوهة، لأن المرجعيات التي يرجعون إليها هي مرجعيات لعلماء دين دُفنوا في قبورهم وبقيت أفكارهم تنتشر بشكل سلبي في المجتمعات الإسلامية عند الكثير من معتنقي الديانات الأخرى، علما بأن هذه التنظيمات تستند إلى نصوص دينية من أمهات الكتب الدينية تدعوهم للقتل والحرق والذبح، والحقيقة أن هذه الفئة يصدق فيها المثل العربي: "سمَن كلبك يأكلك"، وما هذه المنظمات الإرهابية في بلاد الإسلام إلا صناعات حكومات عالمية وأخص حكومات عربية إسلامية، أرادوا منهم أن يحققوا مطالبهم ومطامعهم في العراق وسوريا وليبيا واليمن، وعندما انتشرت هذه المجموعات وقوي عودها، لم تستطع هذه الحكومات السيطرة عليها، فهي مثل امرأة ولدت زناً، فلا هي تريد أن تقتله لأنّه طفلها وفلذة كبدها، ولا تريد أن تعترف به خوفًا من الفضيحة.
