جدل العلاقة بين السياسة والدين

أمل السعيدي

إنَّ التاريخَ الخاصَّ على الرغم مما يُخصِّصه من صفات ومميزات، يعتبر جزءًا من التاريخ الإنساني العام الذي تتواصل فيه الحضارات والأفكار، وتتفاعل فيه في نسق سائد، لذا فإنَّ اللجوء إلى التاريخ المقارن يُضفي قيمة على فهم المشكلات واستشراف حلولها؛ فعادة ما تقوم المناهج المقارنة بتناول ظواهر مختلفة، إلا أنَّها تبحث في أوجه التشابه بينها؛ مما يوفر الكشفَ عن طبيعة هذه الظواهر وتحولاتها، وبهذه الطريقة يقوم الباحث وجيه كوثراني في مقاله "في إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة" أو "الحد الفاصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية"، بالبحث حول علاقة الجدل القائمة بين الدين والسياسة في كلٍّ من المسيحية والإسلام؛ أي أنَّه يتتبَّع مساريْن ثقافيين مختلفين، إلا أنه يبحث في أوجه التقاطع بينهما، مُحاولاً بذلك تقديم قراءة حول هذا الموضوع. وما سأقوم به هو مناقشة هذا المقال وتلخيصه.

يكتب وجيه كوثراني أنَّ في الإسلام ثمة موقفيْن إزاء مسألة علاقة الدين بالسياسة؛ فهنالك من يقول بتوحد واندماج السياسة مع الدين على أن هذا معطى تاريخي ثابت في تاريخ الإسلام وثقافته، وهنالك من يعترف بالثنائية بين الطرفين وإمكانية الفصل بينهما. ويقتبس كوثراني للإشارة إلى الموقف الأول ما كتبه المستشرق برنارد لويس في كتابه "اللغة السياسية للإسلام"، حول أنَّ السلطتين المنفصلتين الدين والسياسة كانتا مُنفصلتين على الدوام في تاريخ المسيحية؛ نظراً لوصية مؤسسها "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، فكان أن أصبح لكلٍّ من السلطة الروحية والسلطة الزمنية تشريعاتهما وقوانينهما، وتفاعلت هاتان السلطتان إمَّا سلباً أو إيجاباً. لكن في الإسلام لم يوجد هذا الفصل قط، ويبدأ برنارد لويس بتتبع اللغة العربية؛ فلا يوجد في لغتنا العربية مرادفات لكلٍّ من الروحي والعلماني، حتى إنَّ ألفاظ دور العبادة من قبيل "مسجد" و"جامع" تدل على دور العبادة فحسب، ولا تدل على فكرة مجردة كما كانت الحال مع "الكنيسة"؛ للدلالة على أنها مؤسسة ذات سلطة. وفي وقتنا المعاصر، فإنَّ أي تشريع زمني لا يخضع لقواعد الشريعة يعتبر خيانة ومعصية للإسلام، وأجدني أتفق مع ما ذهب إليه برنارد لويس هنا؛ لأنَّ الإسلام الذي قدم نفسه على أنه دين شمولي، لا يمكن إلا أن يخضع كل السلطات له، وأن يقدم هو حلولاً لتنظيمها والعمل بها.

ويعودُ وجيه كوثراني ليشير إلى موقف الكُتَّاب الإسلاميين المعادين للاستشراق من أمثال محمد عمارة.. قائلاً إنهم استخدموا نفس المفاهيم ليصلوا للاستنتاج نفسه الذي وصل إليه المستشرقون؛ فمحمد عمارة يرى أن العلمانية إنما هي أصل من أصول المسيحية، ومرحلة الصراع بين البابوية والقيصرية إنما كانت انحراف عن مبادئ المسيحية يتحمل وزره رجال الدين المسيحيين، أما في الإسلام فلا يوجد مشكلة، حيث لا وجود لهذا الاستقطاب الحاد بين السلطتين ولا وجود لمشكلة الكهانة والحق الإلهي؛ لذلك رأى محمد عمارة أن العلمانية لا يمكن أن تكون الحل؛ لأنه حسب ما تقدم لا يرى أن ثمة انفصالا يقوم عليه الصراع بين السلطتين. وهذا يجعلنا جميعاً ووجيه كوثراني أيضاً في بحثه هذا نتساءل: ما هذا الذي يحدث في عالمنا الإسلامي اليوم؟ من إباحة للدماء ومن فرض لقوانين وتشريعات قسرية على المدنيين وإجبارهم على الأخذ بها. كيف يُمكن بأي حال من الأحوال أن نتجاهل كل هذا العنف الناتج إمَّا عن صراع الإسلاميين مع السلطة السياسية للحصول عليها عبر الجهاد، أي تقديم الإسلاميين أرواحهم فداءً للدولة الإسلامية التي يرغبون في تحقيقها، أو استخدام الحكام لرجال الدين لشرعنة أنظمتهم الاستبدادية. كيف يمكن أن نتجاوز استناد الكثير من المنظمات الارهابية على النص القرآني في تبرير قتل كل من غير دينه أو تبنى مذهباً بعينه، ألا يعد هذا دفاعاً عن الحق الإلهي كما حدث في المسيحية؟ ألا يمكن أن يكون هذا استقطاباً في أوج حدته بين السلطتين؟ يقول وجيه كوثراني إنَّ ما يفعله هؤلاء الإسلاميون إزاء هذا الواقع إدانته، وتنصيب أنفسهم دعاة للإسلام الصحيح الذي يرفض هذا كله، مُتهمين إحدى الفرق الإسلامية بهذا التجاوز عن حدود الإسلام الصحيح، ويكون بذلك ألغى التاريخ: تاريخ الفرق وصراعاتها، تاريخ الدول وعصابيتها، تاريخ الفقهاء وعلاقتهم بالسلاطين. وبهذا كان الخطاب الإسلامي المعاصر مُتعالياً على الواقع، لاغياً الصراعات في التاريخ أو معترفاً بها كانحراف، مُقدِّماً نفسه كنموذج للإسلام الصحيح حتى يستطيع أن يخوض الصراع السياسي بمواجهة التيارات العلمانية.

وفيما يتعلَّق بالفصل بين السلطتين الدينية والمدنية في أوروبا، فإنَّ الأفكار التقدمية التي ظهرتْ كانت نتيجة للصراعات بينهما، هذه الصراعات تقوم في أساسها على مستويين الأول يكمُن في طبيعة العلاقات بين سلطة الحاكم وسلطة الكنيسة أو رجل الدين. أما المستوى الثاني فيكمن في طبيعة العلاقة بين الأفراد من جهة وبين الفرق الدينية من جهة أخرى. ولقد وصلت هذه الصراعات إلى حدِّها الأقصى في الحروب الدينية الطاحنة التي خاضتها أوروبا، خصوصاً بعد انعقاد مؤتمر الكاثوليك والبروستانت الذي عُقد في العام 1555م في أوغسبورج (ألمانيا)، والذي قضى بأن يكون الناس على دين ملوكهم. ظهرتْ بعد ذلك الكثير من الرسائل والأفكار التي تُنادي بقبول الآخر والتسامح معه وتدعو للفصل بين السلطتين وعدم اتهام أحد بأنه سبب الفتن والعصيان، على اعتبار أنَّ للجميع حقهم في التعبير سواءً كانوا أقلية أو من أتباع المذهب السائد.

وفي الختام، يقول حول استمرار هذا الصراع الذي يجعل السياسة والدين أمراً واحداً لا يهدف -حسبما نرى- إلا لجعل تدين المجتمع مادة سياسية للولاء والطاعة والاستتباع، وأي مظهر من مظاهر الاختلاف ما هو إلا بدعة أو خروجا. وهنا تتماهى السياسة مع الدين؛ حيث الحلال أو الحرام؛ وبالتالي ولاء وطاعة أو خروج وممانعة، كما كتب كوثراني في مقاله. ومن هذا كله يذهب كوثراني إلى أنه لا حقيقة في اختلاف الإسلام عن المسيحية في مسألة التمييز بين السلطتين الدينية والمدنية؛ فكما أنَّ المسيحية وبعد صراعات عدة ذهبت إلى ما ذهبت إليه الوصية "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، كذلك هي الحال في الإسلام؛ فهنالك ما يُمكن أن يتم تأويله على نحو علماني في الإسلام، ويذهب بنا إلى هذه النتيجة.

ويتحدَّث كوثراني في الأخير عن أهمية العلمانية، وأنها ليست ضد الدين، بل ضد من يستثمر الدين في السياسة.

... أجدني أتفق مع ما ذهب إليه كوثراني حول أهمية العلمانية وتحقيقها في الوقت الحاضر في العالم العربي والإسلامي، وهنا لا أدعو إلى علمانية متطرفة لا تحترم التراث بل وتقصيه، كما حدث في النموذج التركي أيام أتاتورك. ما يجب أن يكون هو أن يكون الدين خاصاً بعيداً عن الحكم السياسي، خصوصاً في ظل الصراع حول تمثيل الإسلام التمثيل الأصح بين مختلف الفرق الإسلامية، وأن نذهب إلى وضع قوانين دستورية مدنية قائمة على القيم الإنسانية العامة.

أخبار ذات صلة