ناصر الحارثي
يسعى المفكر والأكاديمي الصيني تشونج كيجون في مقاله حول الثقافة الإسلامية وتحديثها إلى إبراز وجهة نظر جديرة بالاهتمام وهو حول علاقة العرب بالغرب وهل هذه قضية خاصة ومختزلة بالعرب والمسلمين وحدهم، أم أنه أمر تعاني منه كل الحضارات العريقة التي تعاني من ويلات التخلف والتراجع الحضاري، وحاول الكاتب في مقاله إظهار مآثر الحضارة العربية على الغرب، ويربطها بمآثر الصين على الدول التي تجاورها، ثم يعرج إلى أساليب وطرق التعامل مع قضية التراجع الحضاري وكذلك طرق وأدوات النهوض.
كانت الحضارة الإسلامية العربية في العصور الوسطى، ذات صيت في الفلسفة والأدب والعلوم وفنون شتى، وعلى الرغم من أن الحضارة العربية بدأت متأثرة، إلا أنها ما لبثت أن تحولت إلى حضارة مؤثرة، فاستفاد من نورها كل الحضارات التي تجاورها وتتاخمها، وأصبح كل من الهند والفرس والإغريق يستقون من قبس تطورها، وفي أواسط القرن الثامن إلى القرن التاسع إبان حكم العباسيين لبغداد، نشطت حركة الترجمة عند العرب منطلقة من بغداد إلى المسلمين في كل بلاد، حتى هضم المسلمون الثقافات الهندية والفارسية واليونانية، وبرز منهم علماء في الفيزياء والكمياء والطب والحساب وفي العلوم الإنسانية، أمثال الكندي والرازي والفارابي والخوارزمي وابن سيناء، وفي مجال الأدب أبي نواس وأبي العتاهية وابن رومي والجاحظ والمقفع والمعري أبي العلاء، لذا استنار من حضارتهم الغرب الغارق في الظلام، الذي كانوا غارقين في الاستبداد والخرافات والأوهام، لذا كان وجود الحضارة العربية وقيام الحروب الصليبية، تمهيدا لعصور التنوير الأوروبية، فلقد كان تأثر الغرب بالحضارة العربية أمرًا معروفا في ذلك الزمان، فلقد كانت العربية لغة العلم والمعرفة حتى أشار أحد الأسبان، واسمه الفارو وهو متعصب لثقافته ومنزعج من انتشار لغة العرب، بأن الجيل الناشيء للأسف الشديد لا يتحدث ولا يقرأ إلا من كتب العرب، ويترفع عن قراءة الكتب المسيحية ولا يكتب أحد منهم باللغة اللاتينية، ويتحدث أيضا ما بال الجيل الجديد يهتم بالعربية، ويهمل لغته الأصلية، ولقد أشارت الألمانية زيغارد هوكنه في كتابها الموسوم شمس العرب تسطع على الغرب، بأن العرب لم ينقلوا ويترجموا وينظموا العلوم اللاتينية وحسب، بل ساهموا في تأسيس طرق ومناهج لعلوم جديدة، فلقد أسسوا في الكيمياء والطبيعة والجبر والجيولوجيا وحساب المثلث وعلم الاجتماع وعلوم عديدة، أضف إلى ذلك عدد من الاختراعات والاكتشافات والابتكارات في حقول شتى، والتي للأسف سرقت ونسبت إلى شخصيات أخرى، ولقد أضافت الكاتبة التي حاولت إظهار الحقائق بأن العرب خدموا الغرب في وضع الأسس والطرائق، للبحث العلمي وكذلك ساهموا في إنقاذ الكنيسة من السقوط والغياب، حيث أن الكنيسة لم تستيقظ طوال فترة إغلاقها على معتقداتها الباب، وحين انفتحت أبواب أوروبا تجاه حضارة الإسلام، استفادوا من العرب في السياسة والمعرفة والتجارة وانطلقوا للأمام.
ولقد تأثرت حينئذ رموز الأدب الغربي من شعراء وأدباء، بعدد من كتاب العرب وببعض الترجمات لعدد من الشعراء، فبوكاشو في كتابه القصصي المشهور الصباحات العشرة، كان يسير على منوال كتاب ألف ليلة وليلة، وما أشعار الإيطاليين دانتي وبترارك إلا أشعار بنكهة عربية وإسلامية، فلقد تأثر دانتي بكتابات ابن عربي وقصة الإسراء والمعراج الإسلامية، وأما في رائعته الشهيرة الكوميديا الإلهية فهي تحاكي ما كتبه أبو العلاء المعري في رسالة الغفران المعروفة، ولقد تحدث بعض الباحثين حول قصص الفابيلو الفرنسية والشطار الإسبانية، وكيف أنها تأثرت ونسجت على منوال القصص العربية، واستفادة الغرب من العرب لم تقتصر على الأدب وحده، بل شمل العلوم العلمية والفلسفة والجغرافيا وغيره.
ويضيف الكاتب بأن هناك من يردد على الدوام بالمركزية الأوروبية، وأن حضارتهم مصادرها لم تتعدى المناطق الغربية، وبأنهم استلهموا عصر النهضة والتنوير من الأمجاد اليونانية، وأنّ العرب فقط ترجموا المصادر الغربية واللاتينية، والحقيقة أنّ المسيحية دخلت حرب شعواء ضد علوم اليونان، واعتبرتها علوما وثنية مصدرها الشيطان، في حين أنّ العرب كانوا يتنافسون حتى وصل وزن الكتاب المترجم ذهبا، تعظيما للعلم في بيت الحكمة حتى ترجموا المعارف كتابا كتابا، وأمّا محاولة الأوروبيين للتقليل من إنتاج العرب وتعظيم الغرب فليس بغريب، فهم أيضًا ينظرون للصين بأنّها لم تكن مؤثرة، في حين أنّها في العصور الوسطى كانت أيضًا متطورة، ففي القرن الثامن ميلادي كان عصر تانغ مجيدا بإنجازاته، حتى أصحبت الصين العظيم قبلة لكل من حولها للعلم والاقتباس من حضارته، لذا محاولة طمس حضارة الشرق ليس المقصود فيه العرب وحدهم، بل حتى الصين وكل حضارات العصور الوسطى حتى يختزلوا المجد في حضارتهم، ونحن هنا لسنا في محاولة التباكي على التاريخ، بل لزرع الثقة في أنفسنا وأننا لسنا كما يدعون بأننا كنا على هامش التاريخ، بل كنا سادة الأمم عندما أخذنا بأسباب التطور والحضارة، ولسنا مجرد راكبي حمير وبغال بل شيدنا بالعلوم حضارة ومنارة، ولقد ذكر طه حسين أن لا أحد أفضل من أحد، ولا يوجد امتياز حضاري أزلي لعرق أو جنس أو بلد، فليس قمر الغرب أكثر ضياء من الشرق ولا قمر الشرق أكثر نورا من الغرب، فكل حضارة قدمت للإنسان ما هو إيجاب وما هو سلب، وعلينا أن نسعى إلى أن تتكامل الحضارات، لكي تتقدم للإنسانية بثقافتها الكلية وتشرق بالإنجازات.
لقد سعى الكاتب إلى إظهار محاسن الشرق، التي لا يكاد يظهرها من الغرب إلا من صدق، وأبعد عن نفسه العظمة وأنصف للمعرفة والعلم، وأوضح بأنّ المعرفة لا تعرف جنسا ولا لونا ولا دما، بل هي تستنير في الأرض كلما وجدت أرض غنية بالحضارة والمعرفة، تحاول أن تحويها وتترجمها وتطورها بأساليب علمية مكثفة، فالمقال يشير إلى أن العرب عليهم أن لا يغرقوا في نظرية المؤامرة، فكل حضارة عظيمة تحاول أن تهمش تاريخ من سبقهم بجهل أو مكابرة، وما النهوض من هذا الوحل إلا بالاستفادة من وسائل الذين كانوا يوما خلفنا، وأننا لن نتطور حتى نحاكيهم في مناهجنا، فكما أن من حقنا أن نفاخر بأمجادنا، وآثارنا علينا ألا ننام عليها وأن نستيقظ من سباتنا.
