العقل والعدل والأخلاق: مفاهيم ومرايا

ناصر الكندي

في مقالته المنشورة بمجلة التفاهم بعنوان "العقل والعدل والأخلاق مرايا اللغة والدين والفلسفة"، يتناول الباحث "فيصل الحفيان" مفاهيم العقل والعدل والأخلاق لغويا ودينيا وفلسفيا ويبحث العلاقة الجدلية بينها.

يفتتح كاتب المقال بتنبيه القارئ بأنه وضع في حسبانه ما كتبه بعض الباحثين العمالقة مثل المفكر المغربي محمد عابد الجابري ود حسين القوتلي ود رضوان السيد، وذلك من حيث الاستفادة والإضافة عليهم عبر إثارة الأسئلة وتحديد المفاهيم. ويبدأ الكاتب باستعراض مفهوم "العقل" من خلال مرايا اللغة وذلك بتقديم أهم التعريفات له في المراجع القديمة كابن فارس، إذ تعني كلمة العقل لديه الحبس والربط والجمع والفهم ونقيض الجهل.

 وأما بشأن "العدل"، فقد استدل الكاتب أيضاً بابن فارس حين يعرّف العدل بالمستوى الطريقة والحكم بالاستواء ونقيض الجور. وللعسكري تعريف آخر للعدل غير الاستواء بل الاستقامة، ذلك أن الاستواء نقيضه التفاوت والاستقامة نقيضها الاعوجاج.

ويستمر الباحث في تحرّيه عن مفهوم "الخلق" لغويًا، إذ يقول ابن فارس أن الخلق هو ملاسة الشيء، وهو السجية والنصيب وخلق الكذب أي اختلاقه. ويبدو أن كلمة خلق تجمع أمرين وهما الإيجاد والسجية كما يقول ابن فارس، أما العسكري فيقول إنِّ كلمة خلق أصل واحد لا أصلان، وهو التقدير. ويقول الجابري بأن الخلق كلمة ليست وحدها في دلالتها بل ترادفها كلمة أدب، ولكن هناك فرق دقيق بينهما إذ من الممكن القول "ولد مؤدب" ولكن لا نستطيع قول "فتى مخلق"، ويختلف اللغويون في مدى غريزيّة وفطرية الخلق، إذ منهم من يقول إنِّه عادة مكتسبة وآخر من يقول بأنه فطري.

بعد ذلك ينتقل الباحث إلى بحث هذه المفاهيم في مرايا الدين والفلسفة، فـ"العقل" في مرآة الدين يكون غريزة ونور كما ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل والتميمي والماوردي والمحاسبي، ويذهب المحاسبي إلى أبعد من ذلك ويقول بأنَّ العقل ثلاثة: عقل غريزة وهو يفرق بين العاقل والمجنون، وعقل فهم يشترك فيه العقلاء من المؤمنين وغيرهم، وعقل بصيرة وهو للعقلاء الذين فهموا الفهم الحق عن الله. أما العقل في مرآة الفلسفة فهو شيء مستقل وجوهر بسيط قائم بذاته ومفارق للأجسام وسائس للنفس ومدبر لها، وهو ليس ثلاثة كما قال المحاسبي بل عقل أول كما قال الكندي تليه عقول ثلاثة ثانوية، ويسميه الفارابي بالعقل الفعّال.

وكلمة "العدل" في مرآة الدين تتمحور في الله وحرية فعل الإنسان، وهو ما يذكّر بالقضية الكبرى التي أثيرت في التاريخ الإسلامي بين الأشاعرة والمعتزلة حول خلق الله لأفعال الإنسان كما قال الأشاعرة  أو حرية الإنسان في فعله كما قال المعتزلة،  وذلك لتحديد مفهوم العدل دينيا. أما من الناحية الفلسفية، فعلى الرغم من أن مباحث العدل فلسفية تناولها الفلاسفة قديما وحديثا، إلا أن القضية بصورتها المتكاملة هي قضية دينية إسلامية.

أما بخصوص كلمة "خلق" دينيا، فقد عدّه العديد من العلماء شيئا غرزيا فطريا وكذلك نوعا من العادة والاكتساب كما قال في ذلك الأصفهاني، وللخلق فلسفيا معنى متغير إذ يرى أرسطو في الفكر اليوناني أن الأخلاق كلها عادات تتغير وأنه ليس شيء منها بالطبع، وبإمكان الإنسان أن ينتقل من كل واحد منها إلى غيره بالاعتياد والدربة. ويصنّف جالينوس الأخلاق إلى نوعين: ما يكون طبيعيا مثل الغضب وما يكون مستفادا بالعادة والتدرب. ويؤكد الباحث أن قضية غريزية الخلق أو اكتسابه ما زالت مثارة سواء على مستوى النصوص الدينية الإسلامية أو على مستوى الفكر الفلسفي القديم اليوناني أو الفكر الفلسفي الإسلامي.

وينتقل الباحث الحفيان إلى المبحث الأخير وهو مرايا العلاقات أو الجدل بين المفاهيم الثلاثة: العقل والعدل والأخلاق. فهو يذكر بأنه من الممكن تصور ثلاثية العقل على شكل هرم مقلوب، رأسه العقل وقاعدته العدل والأخلاق. كما يربط الباحث بين العقل والعدل لغويا من خلال العود إلى مفهوم العقل كحبس وربط وجمع وفلسفيا بأنه الله، فلا يمكن تصور الإنسان عادلا إذا لم يكن لديه عقل ذلك أن انتفاء العقل يسلب ما يصدر عن الإنسان قولا أو فعلا قيمته وغايته. كما أن المعتزلة حين أكدوا أن العدل والتوحيد ثمرة من ثمار العقل فقد أرادوا أن يدحضوا القول بالجبر من خلال القول بخلق الإنسان لأفعاله ومسؤوليته عنها. وأما بالنسبة عن حضور العدل في العقل، فلا يمكن تصوّر عاقل ظالم لنفسه أو لغيره ولا عاقل يفرط ويرتكب حماقات ولا عاقل لا يعمل في عقله في ما يُعرض له من مشكلات.

وفي جدل العقل مع الأخلاق، تُثار عادة قضايا حول هيمنة العقل على الأخلاق أم أن الأخلاق ترتبط بالدين دون حاجة للعقل في ذلك. صحيح أن ثمة من قال إن الدين هو أساس الأخلاق وليس العقل، ولكن هل من الممكن تصور تأسيس الأخلاق في رجل غير ذي عقل. ويشير إلى ذلك عابد الجابري بأن النص الديني في الحضارة العربية ، ولو أنه يغطي من الناحية المبدئية جميع مظاهر الحياة،  فإنه ترك مع ذلك للأخلاق مجالها الخاص الواسع العريض، وهذا الوضع ينتج عنه أن الدين في الإسلام ليس هو أساس الأخلاق، بل هناك إجماع على أن مصدر الحكم الأخلاقي هو العقل.

ويقوم الباحث بإثارة بعض الأسئلة على كلام الجابري أهمها: هل نستطيع أن نغفل أثر العناصر الأخرى كلية حين نشاهد اختلاف القيم بين مُجتمع وآخر؟  وفيما يتعلّق بالاتجاه المعاكس أي علاقة الأخلاق بالعقل إذ نتساءل: هل الأخلاق منفعلة أم أنها أيضاً فاعلة؟ ويجيب الباحث بأن الأخلاق ترتد بالخير على العقل نفسه وتقوّمه أيضًا.

ويختتم الحفيان مقاله عن علاقة العدل بالأخلاق، ذلك أن الأخلاق أعمّ والعدل أخصّ، ولكن هل يصح القول إن العدل هو الأخلاق الفاضلة؟ وخلاصة القول هو أن العدل أو العدالة هو الأخلاق الكريمة أو الحسنة، وهذا ما يتضح من سياق الفكر الفلسفي اليوناني الذي يقسّم الخلق إلى فضيلة هي مبدأ لما هو كمال، ورذيلة لما هو نقصان. 

 

أخبار ذات صلة