حقول الدم : الدين وتاريخ العنف

1500995884-245x300.png

لكارين آرمسترونغ

ماجد بن حمد العلوي

توطئة:

    كان رئيس الكهنة كل عام في إسرائيل القديمة يحضر زوجا من التيوس إلى هيكل القدس في يوم الكفارة، فيضحي بالأول ليكفر عن خطايا المجتمع، ثم يضع يديه على التيس الآخر؛ ليحوّل كل آثام الناس إلى رأسه، ثم يرسل التيس المحمل بالخطايا إلى خارج المدينة ليشعر الناس بالتخلص من تلك الذنوب.. هذا التكتيك المقدس كان محاولة من الكهنة لتحميل التيس خطايا السياسات البشرية، وما نراه في عصرنا هذا هو الصنيع نفسه حين يُحمّل الدين جميع تدافعات البشر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لقد بدأ مألوفا أن نرى الدين في قفص الاتهام، وأن يكون كبش الفداء الذي يُحمَّل خطايا القوى السياسية المهيمنة، وأن تكون الاتهامات للدين محل السبق الإعلامي لأي مشهد عنفي؛ لذا يقدم هذا الكتاب فهما عميقا للصراعات البشرية، ويحاول أن يتتبع الدوافع التي تقف خلف ظاهرة العنف المتفاقمة، ويبدد النتيجة المسلمة أن ما من حرب تقع إلا ودين يدفع.

يرى الكتاب أنّ السردية العلمانية تقوم على ضرورة فصل الدين عن الدولة؛ لأن الدين هو فتيل التعصب الذي يجرنا إلى العنف، بيد أن هذا الافتراض لم يصدق في الكثير من الحروب، وقد أخبرنا التاريخ أنّ الحروب الصليبية التي يظن الجيل المعاصر بأنّها قامت بشعارات دينية محضة، ما هي في الحقيقة إلا غطاء سميك من أطماع تحركت لأجل الثروة والأراضي، وأن الحروب العالمية الأولى والثانية، بل ما هو متهيئ لحدوثه في هذه العصور كلها صراعات دول متنافسة، ولا يمكن للدول أن تقوم، ثم تحافظ على وجودها من دون استعمال العنف والقوة والإكراه، هذه الحقيقة المؤسفة لطبيعة الاجتماع البشري، وعليه فإن الكاتبة تقدم كتابها الرائع حقول الدم لتحلل ظاهرة العنف، ومدى مصداقية إلصاق العنف بالأديان.

2- المؤلف:

: Karen Armstrong كاتبة بريطانية لعدة كتب تصل إلى 25 كتابا في مختلف المجالات، وأهمها مقارنة الأديان، وعن الإسلام.

كانت راهبة كاثوليكية لكنها تركت الكاثوليكية. وهي عضوة في الحلقة الدراسية عن عيسى، من أقوالها: "كل التقاليد العظيمة تقول تقريبا الشيء نفسه بالرغم من الاختلافات السطحية".

3- البدايات:

    تظهر أهم محطات الكتاب في البدايات، حيث تحدد الكاتبة بذور العنف لدى البشرية، وتحلل أثر النظام المعيشي في توليد الحرص على الممالك، وهذا الحرص يتطلب دائما طبقيات وجيوش، وعليه تعود بنا الكاتبة إلى العصور القديمة حيث مملكة سومر، وتحديدا في بدايات الألفية الثالثة قبل الميلاد، كانت أوروك الواقعة حاليا جنوب العراق أكبر المدن في اتحاد سومر، وهي الحضارة الأولى في العالم، كانت تتمتع بنظام زراعي يستقطب رغبة الناس في النزوح إليها، ويشجع على النمو السكاني المتزايد، وهذا التزايد يحتاج إلى قيادة قوية تحافظ على معيشة الطبقة الأرستقراطية، وتجند الفلاحين لحماية مزارعهم من أي عدوان قد يسبب الفوضى، إذ استقر في ضميرهم الجمعي أن تلف المحاصيل لسنة واحدة هو إيذان بموت الألوف، لذا جيشت سومر الجيوش العنيفة، وأصبحت كما تذكر الكاتبة صاحبة ابتكار العنف البينوي في التاريخ الذي استمر في الدول الزراعية إلى فترة العصر الحديث.

وأما في الصين فقد استعرضت الكاتبة التاريخ الصيني استعراضا رائعا من خلال استنطاق الأساطير القديمة، فسردت لنا العلاقة بين المحاربين والسادة، إذ اعتقد الصيني القديم أن الإنسان تطور بفضل خمسة ملوك عظام، حاولوا أن يفصلوا الإنسان الصيني المتمدن عن بقية المخلوقات ومن بينها الصيني البدائي.

    تحكي الأسطورة أن الملك الحكيم الأول شن نونغ ( Shen Nung) كان استثناءً، كان مسالما رفض معاقبة الخارجين عن القانون، ولكن الأمر شكل خطرا يهدد المملكة فجاء الملك الثاني هوانغ دي ( Huang Di) الملقب بالإمبراطور الأصفر وشكل جيشا من الحيوانات المدربة للتصدي لأي خطر يحاك ضد المملكة من (تشي يو) قائد المتمردين، ولم يعم السلام حتى وقعت المعركة التي انتصر فيها الإمبراطور الأصفر فشيد دعامة مملكته بدعامتي الزراعة والعنف المنظم.

استبعدت الكاتبة الحراك الديني في الصراعات الصينية إلا ما كان ملتصقا بالحياة الفردية للشعوب، وأما معظم العنف فهو نتاج التدافعات التنظيمية للمملكة.

ولم يكن العبرانيون في تاريخهم يختلفون كثيرا عن الشعوب الأخرى، فقد تولد العنف معهم في حروبهم، ومحاولاتهم للرجوع إلى بلدانهم الزراعية؛ لأن معضلتهم ترتبط في الأساس في الأرض التي تمكنهم من العيش فيها، فأحيانا تصاب بالمجاعة، وأحيانا أخرى يتيهون في العودة إليها، وكثير من الأحيان يرتبطون فيها ارتباط الحريص على البقاء وتحمل العبودية من الفراعنة، هذه التقلبات التي أسهمت في إيضاحها الكاتبة كان لها الأثر الحقيقي في توليد العنف، ولم تبرئ الدين من مساهماته في توليد الكراهية، فانتشار الدين ونزول الأنبياء أسس نظاما يلازم بين الدين والسياسة، وقد تعاقب على سياسة بني إسرائيل ملوك أقوياء كنبوخذ نصر ودرايوش وغيرهم فحاولوا الحفاظ على ممتلكاتهم بالقوة.

    والنتيجة الحاصلة من هذا السرد أن الصراعات السياسية والاجتماعية هي التي تحرك الناس نحو سيكولوجية العنف الجماعي، وقد يحتمي السياسي بأيديولوجيات دينية تبدو جزءا من النظام العام، ولكن لا يكون الدين وحده الرافد العنفي الوحيد.

4- جوهر الكتاب

    اعتمدت الكاتبة لغة واصفة تستمد تقنياتها من الدرس التاريخي الاستقصائي، وكانت تحلل إشكاليتها وفق نظرة فلسفية تعود إلى البدايات لتصل إلى النتائج، ومن أهم النتائج التي لفتت حولها النظر أنّ الإمبراطوريات لا تنعم بالسلام حتى تمارس العنف. هذا هو شأن الإمبراطورية الرومانية، ولذلك فهم بوليبوس أنّ الهدف من الوحشية هو إثارة الرعب في الأمم الخاضعة للإمبراطورية، وهذا المبدأ نفسه تكرر عند بني إسرائيل عندما تحقق لهم الحكم الإمبراطوري إبان القرن الثاني قبل الميلاد، وحكايات اضطهادهم للسلوقيين شاهدة على ذلك.

ولم تكن بيزنطة أفضل حالا فقد شهد تاريخها حملات من العنف فترة حكم قسطنطين الذي كان يحلم بتأسيس مملكة المسيح، لذلك ندم قسطنطين في نهاية حياته كما يذكر المؤرخ يوسابيوس أنه توقف عن نيته للهجوم على الفرس وقال للأسقف: "الآن سأضع لنفسي قواعد جديدة للحياة لتليق بالله" فهذا اعتراف ضمني بأن حياته القاسية خلال السنوات الماضية لم تكن مسالمة.

لقد تسرب العنف إلى النساك ودور العبادة، وأصبحت الديانات تستلهم العنف من السياسيين، ولقد ذكرت المصادر التاريخية أن أوريليوس أغسطينوس منح أتباعه المشروعية المباركة للعنف المسيحي وهذه الأخيرة تعد أنموذجا للمعضلة البيزنطية السياسية والدينية.

أما المعضلة الإسلامية كما ترى الكاتبة فإنها تتجسد في الحياة الصحراوية القاسية التي نفرت الناس من التعلق بها وبظواهرها الخارقة إلى اعتماد قانون أخلاقي يعطي حياتهم معنى خاصا يتجسد في الفضائل، والتي يمكن اختزالها في مفهوم المروءة، لقد كانت المروءة جوهر العنف البينوي عند العرب، فقد كان على الرجال أن يثأروا لأي أذى يصيب أحد أفراد القبيلة، كان عليهم حماية الضعفاء، كان على كل فرد الاستعداد ليَّهُبَ في حماية أقربائه وشرف قبيلته.

ولكن حال العرب تغير بعد ظهور رسالة الإسلام، بدأت العرب تتوجس من رسالة التوحيد، هذه الرسالة التي ستسلب العرب وخصوصا قريش السيادة، ستحل القيم الإسلامية محل القيم القبلية فظهرت آنذاك موجة عنيفة تحاول صد الرسالة الإسلامية، وبعدما استقر للمسلمين الأمر ترى الكاتبة أن مفهوما ظهر عند المسلمين يسعى إلى توسيع مساحات انتشار الإسلام وهو مفهوم الجهاد، وتعتقد الكاتبة جملة من الأفكار التي تصب في صالح المسلمين مثل:

- إن المسلمين نجحوا في تأسيس إمبراطورية مركزية، والحفاظ عليها بشكل مدهش أكثر من نجاحهم في تأسيس القدرة العسكرية.

- إن نجاح المسلمين نجاح استثنائي يصدق رسالة القرآن التي تعلم المؤمنين بأن المجتمع الذي يقوم على مبادئ القرآن العادلة سيُكتب له الازدهار دوما.

- إن جنود المسلمين قدموا خدمات إنسانية كنشر العدالة، وحماية الضعيف، تحرير العبيد، وكلما اتجه الجيش الإسلامي نحو الخدمات الإنسانية كلما كان عملهم يسير بشكل أفضل.

لا نذكر هذه النقاط لإشباع مفخرة معينة، ولكن هذه النقاط كانت بمثابة المؤسسات لنفي العنف عن طبيعة الرسالة الإسلامية عند الرعيل الأول، وأن العنف الدموي هو ابن للعلمانية والحداثة والدولة بشكليها الإمبراطوري والحديث لا الإسلام.

وعلاوة على ما سبق فإنّ حركة العنف المنظم ظهرت كما ترى الكاتبة بعد وفاة النبي، وقد أخذت ترصد تلك الحركات بشكل تاريخي بدأت بالخليفة الأول أبو بكر الصديق أثناء حروب الردة، ثم في عصر الخليفة الثاني تمثل في الفتوحات، وبعدها تفاقم العنف في مرحلة ما بعد عثمان بن عفان.

من خلال هذا الرصد التاريخي ترى الكاتبة أن المعضلة الإسلامية تظهر في رغبة بعض الحكام بتأسيس ملكية مطلقة، وبين القيم الإسلامية التي تجعل من أمر الحكم أمرا عاما للأمة جميعا.

5- خلاصة.

    يمكن حزم أفكار الكتاب في حزم محددة، ومن أهمها:

أولا: المسح التاريخي يُثبت أن حياة الناس لا معنى لها دون دين، وهذا الاعتقاد يتضح في ممارسة الناس لشؤون حياتهم، فمن الطبيعي أن يتداخل الدين مع السياسة، إذ لا قطيعة بينهما، وقد يوظف السياسي الدين لشرعنة العنف، ولكن قليل ما تجد أنّ الدين هو المحرك الأوحد لذلك.

ثانيا: يعي السياسيون أهميّة الدين في تمرير الكثير من مآربهم، ويقع الدين ضحية الاستبداد السياسي، والاستبداد دائمًا ما يكون المحرك الفعلي للعنف، وعليه فإنّ العنف يكون بقرار سياسي أولا، وقد يحظى بمباركة دينية.

ثالثا: لا يمكن تحميل الدين تطورات الإرهاب، فالتعاليم الدينية تدعو دائما إلى التسامح، وقد يتعرض أصل الدين لشيء من التحريف، وتغيير الأفكار فيمتزج مع السياسة، أو الضغوطات الاجتماعية فيتحول إلى محرك للكراهية، التي يتولى بعدها السياسي لتنفيذ العنف البينوي.

وفي النهايات تختتم الكاتبة بإشارات إلى الإعلام، ذلك الإعلام الذي يزيف الحقائق، ويبث الكراهية، ويحرض الناس. يبدو أنّها مقتنعة تمامًا أنّ للإعلام أثرًا يتعدى الكثير من العوامل، وهو سلاح السياسيين لتمرير فظائعهم.

---------------------------------------------------------------

الكتاب: حقول الدم (الدين وتاريخ العنف)

 المؤلف: كارين آرمسترونغ

  ترجمة: أسامة غاوجي

 الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2015.

عدد الصفحات: 654 صفحة

                       

 

 

أخبار ذات صلة