«تحديات الهجرة»

غلاف كتاب تحديات الهجرة.jpg

لفينشنسو شيزاريو

أمين منار

خلال العقدين الأخيرين، تحوَّل موضوع الهجرة والمهاجرين إلى مُعضِلة اجتماعية في جملة من البلدان، لا سيما منها الأوروبية. ورغم أنَّ شقًّا واسعًا من هؤلاء المصنفين ضمن قطاع الهجرة قد وُلد، أو قضى دهراً من حياته في المواطن الجديدة، فضلا عن أنَّ عددا منهم يحمل جنسيات بلدان الإقامة، ومع ذلك فإنَّ كثيرا منهم لا يزال يعاني رهقاً، قد لا يكون مقصودا، وإنما جراء تحولات اجتماعية موضوعية تسير بنسق بطيء لا ترفدها تشريعات جريئة أو سياسات صائبة.

ويستهل عالم الاجتماع الإيطالي فينشنسو شيزاريو -المتخصص في شؤون الهجرة- كتابه "تحديات الهجرة"، بالتطرق إلى موضوع الهجرات المبكرة التي شهدتها البشرية، لِيلي ذلك تتبع للموْجات الكثيفة في العصور الحديثة. وفي غوصه في غور الهجرات المبكرة، يركز شيزاريو في العوامل المناخية القاهرة. فقد كانت إكراهاتها حاضرة بقوة إبان العصور الجليدية في الدفع بالبشر إلى سلوك طريق الترحل؛ بوصفه السبيل الأوحد للمحافظة على النوع، في وقت كان فيه الإنسان في صراع دائم مع الطبيعة. مُبرِزا أنَّ المكوث الدائم بمكان بعينه كان وضعا "استثنائيا"، وأن التنقل سبيلٌ للبقاء، بل وسيلة ضرورية للحفاظ على النوع. ثم في مرحلة لاحقة، وبعيدة نوعا ما، باتت العواملُ الاقتصاديةُ الدافع الرئيس بدل العوامل المناخ.

وقد أسهم في الأثناء تطوُّر المعارف الجغرافية وتصنيع السفن ومد السكك وشق القنوات، في تكثيف موجات الهجرة بنوعيها الطوعي والقسري. فمثلا خلال العام 1869، مع افتتاح قناة السويس يسَّر ذلك الممر -وبشكل كبير- التواصل البحري بين أوروبا وآسيا بما ربط القارة العتيقة بعدة مناطق كانت في مضى شبه معزولة. وبالمثل كان مد السكك الحديدية في منتصف القرن التاسع عشر عاملا مساعدا على توغل الإنجليز في الأراضي الهندية. لتبقى أبرز موجات الهجرة في تلك الفترة متمثلة في هجرة الأوروبيين نحو الأمريكتين؛ حيث التحق ما بين 1800 و1940 ستون مليون مهاجر أوروبي بالعالم الجديد، لم يعد منهم نحو بلدانهم الأصلية سوى الثلث. وعلى سبيل الذكر عبر خلال العام 1830 المحيط الأطلسي باتجاه الأمريكتين مائة ألف أوروبي أغلبهم لم يسلكوا طريق العودة. ليتطرَّق الباحث في مستوى آخر إلى موجات الهجرة التي صحبت الاستعمار الحديث والتي يعدها شكلا منظما للهجرة، جاءت مدفوعة في مرحلة أولى بعوامل اقتصادية بحتة لتتنوع المبررات لذلك مع تشعب أغراض العملية الاستعمارية.

وفي تتبع شيزاريو موجات الهجرة في مجتمعات أوروبا قبل العصور الحديثة، يبرز عدم ارتباطها بالاستيطان؛ بل كانت هجرات دورية مدفوعة بالبحث عن العمل في الحقول وفي كل ما له صلة بالزراعة؛ حيث كانتْ التنقلات تشمل مئات الألوف من اليد العاملة، تقطع مسافات تتراوح بين 300 و700 كيلومتر لبلوغ مأربها. وقد تم تسجيل أكثر من عشرين نظاماً للهجرة في الإحصاء النابوليوني، بين نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، على صلة بالانتقال الموسمي من مناطق معوزة نحو مناطق موسرة؛ حيث أظهرتْ الدراسات أنَّ مُعظم حركات التنقل قد قدمت من مناطق جبلية، بوصف "الجبل مصنع رجالٍ قيْد استخدام الآخرين" كما يصف المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل. حيث كانت المدن في عصر ما قبل التصنيع تتميز بمعدلات وفيات عالية، تجعلها في حاجة دائمة إلى التجدد الديموغرافي، وهي نقيصة غالبا ما كانت تُعوض بالتدفق المستمر للمهاجرين.

وفي معالجة الباحث لمسائل الهجرة في التاريخ المعاصر، يُورِد أنَّ تطور أعداد المصنفين من قِبل الأمم المتحدة كمهاجرين عالميين خلال 1990 قد بلغ 154 مليونا، وبما يقارب المائتي مليون خلال العام الحالي. وتأتي على رأس قائمة البلدان التي تضم عددا لا يقل عن مليون مهاجر بلدان الخليج العربي. حيث تحوز الإمارات العربية المرتبة الأولى بنسبة 83.7 بالمائة، أي بخمسة ملايين وافد من الهند وباكستان وبنجلاديش أساسا أمام قطر بنسبة 73.8 بالمائة، تليهما الكويت بنسبة 60.2 بالمائة وسنغافورة بنسبة 42.9 بالمائة بأكثر من مليون من ماليزيا. وفي مقابل ذلك، تأتي الصين في المرتبة الأخيرة بـ849 ألف وافد على مجموع 1.4 مليار، وأما الهند فهي لا تستضيف سوى خمسة ملايين، أربعة ملايين منهم من البنجاليين والباكستانيين على عدد إجمالي يصل إلى 1.3 مليار نسمة. لكن على المستوى القاري تبقى أوروبا في صدارة القارات التي تضم العدد الأوفر من المهاجرين وفق إحصاء 2013، وذلك بنسبة 31.3 بالمائة من المجموع العالمي، تليها آسيا بفارق ضئيل 30.6 بالمائة، ثم أمريكا الشمالية بنسبة 22.9 بالمائة.

 

سوسيولوجيا الهجرة

وفي المحور الثاني من الكتاب، يسعى شيزاريو إلى توظيف الأدوات السوسيولوجية في قراءة ظاهرة الهجرة. مُتطرقا إلى أنواع مختلفة من الهجرة: هناك هجرة قسرية وهجرة طوعية، وهناك هجرة مؤقتة وأخرى دائمة، وهناك مهاجرون عابرون للحدود على غرار العملة الإيطاليين المتنقلين نحو سويسرا بشكل يومي ذهابا وإيابا، وهناك هجرة شرعية وأخرى غير شرعية، وفي الأثناء يمكن للمهاجر الشرعي أن يتحول إلى مهاجر غير شرعي بفقدان عقد العمل الذي يخول له التواجد القانوني؛ وبالمثل يمكن التحول من وضع غير قانوني إلى وضع قانوني ضمن حملات تسوية تصاريح الإقامة. وعلى العموم، فإن ثمَّة بلدان تشهد رحيل المهاجرين وأخرى تشهد قدوم الوافدين، وقد تعيش الظاهرتان في أزمنة متقاربة؛ فمثلا إيطاليا وإسبانيا واليونان -وإلى حدود ثمانينيات القرن الماضي- كانت بلدان رحيل تدفع بالمهاجرين، ولكن مع مطلع التسعينيات تحولت إلى بلدان تستقطب الوافدين. وفي خضم هذا المد والجزر، تكاد تنعدم البلدان الراكدة التي لا يمسها كلا النوعين.

وضمن تحليل شيزاريو لديناميكيات الهجرة المتلخصة في عنصريْ الدفع والجذب (push-pull)؛ أي تلك العوامل التي تغري بالانجذاب أو تلك التي تدفع بالبشر لترك أوطانهم نحو آفاق يُفترض أنها توفيرها فرصا أفضل. فمن بين عوامل الدفع (push) يلوح الاضطهاد السياسي وندرة فرص العمل والفاقة. وبالمقابل، من ضمن عوامل الجذب (pull) تبدو الحرية السياسية وتزايد الطلب على اليد العاملة وإغراءات الرفاه الاجتماعي. لكن شيزاريو يربط ذلك الحراك في تحليل الظاهرة بمستوى "ماكرو" يتعلق بسياسات سوق الشغل الدولية والعلاقات بين الدول والحاجة للخبرات، وبمستوى "ميكرو" على صلة بشبكة العلاقات الاجتماعية وأشكال التواصل التي يبنيها المهاجرون ضمن وسط عيشهم الجديد.

ويتناول المؤلف بالتحليل في هذا القسم الحالة الإيطالية، بموجب ما يثيره ملف الهجرة من جدل واسع. فقد شهدت إيطاليا على مدى قرن بين 1876 و1976 هجرة 24 مليونا من رعاياها، وذلك نحو الخارج وأما على مستوى الداخل فخلال الفورة الاقتصادية بين خمسينيات وستينيات القرن الماضي فقد شهد البلد هجرة داخلية نحو مثلث المعجزة الاقتصادية لومبارديا بيمونته ليغوريا. حيث تحول بين عقديْ 1950 و1970 ما يزيد عن تسعة ملايين إيطالي من الجنوب صوب الشمال ومن الشمال الشرقي باتجاه الشمال الغربي ومن القرى نحو المدن. وكانت أكثر المناطق عرضة لموجة الهجرة ميلانو التي مرت من 1.2 مليون ساكن إلى 1.7 مليون وتورينو التي مرت من 700 ألف إلى 1.1 مليون. لكن خلال العام 1973 حصل تحول في اتجاه الهجرة وما إنَّ حلت سنة 1981 حتى تخطى عدد الوافدين عدد المهاجرين، يأتي في مقدمة الوافدين المغاربة يليهم الألبان ثم في فترة أخيرة أي مع العام 2007 غلب الرومانيون مع انضمامهم للمجموعة الأوروبية؛ حيث بلغ عدد المهاجرين الأجانب سنة 2001 مليونين ثم سنة 2005 ثلاثة ملايين، سنة 2008 أربعة ملايين، وسنة 2009 خمسة ملايين.

 

الاندماج العصي

ومن جانب آخر، يُعالج شيزاريو مسألة اندماج المهاجر، وهو مسار عويص وإن بدا يسيرا؛ حيث أن العملية غالبا ما تخضع إلى روح ثقافة الأغلبية وإلى ديناميكية هوية المهاجر، إضافة إلى حالته الاجتماعية؛ حيث تبرز الأبحاث أن درجة الاندماج تزداد في الحال التي يتحسن فيها وضع المهاجر الاقتصادي وتتقلص بخلاف ذلك؛ مما يجعل الجماعات التي تعوزها تلك الإمكانيات تنحو للعزلة. وبشكل عام، تبقى المسألة متمحورة حول توجه ثقافة الأغلبية هل هو تذويبي أم تعددي؟ صاهر للتمايزات أم مُقر بالتنوع؟ لكن في خضم هذا الجدل تبقى عملية الاندماج كما يبين شيزاريو مزدوجة تقتضي مشاركة الوافد والحاضن. فضلا عن أنَّ الاندماج ليس عملية يفوز بها المرء مرة واحدة بل هي عملية دائمة.

ويلوح في هذا القسم هاجس المهاجر المسلم، والحال أنَّ الجالية المسلمة قد شارفت في بعض البلدان على الجيل الثالث؛ بما يجعل الباحث يطرح جملة من الأسئلة على غرار لماذا غدا حضور الإسلام في أوروبا إشكاليا في الفضاء العمومي؟ أو بعبارة أخرى، لِم تبدو الأطراف السياسية في المجتمعات الأوروبية وكأنها تذكي التوترات، حين تعالج موضوع تسوية العلاقة بين الدولة وتلك الجالية، والحال أنَّ دينها هو الدين الثاني في سائر البلدان تقريبا؟ في وقت لا يطفو فيه ذلك التوتر مع أديان أخرى؛ مثل: الهندوسية، أو البوذية، أو السيخية، أو الكنفوشيوسية. لذا فمن المشروع -كما يقول شيزاريو- التساؤل عمَّا إذا كان مسلمو أوروبا وحدهم من يضعون بنية النسق الاجتماعي محل مراجعة، في وقت تُنعت فيه الكنائس المسيحية بالكنائس الوطنية بوصفها وصية على الذاكرة الجماعية داخل دول علمانية يُفترض حيادها عند التطرق لمسألة الدين.

 

سياسات الهجرة

وفي هذا القسم الأخير من الكتاب، يستعرض الباحث إخفاقات النموذجيْن الفرنسي والألماني في الاندماج ونجاحاتهما؛ حيث يضم البلدان اليوم القسم الأكبر من الرعايا من أصول أجنبية: الأول بنسبة 6 بالمائة، والثاني بنسبة 9 بالمائة. فيما مضى كانت الجموع التي تصل فرنسا وألمانيا، كما هو الشأن بالنسبة لباقي الدول الأوروبية الأخرى، كبلجيكا وهولندا والمملكة المتحدة، متكونة من اليد العاملة أساسا. وما كانت هويتهم الثقافية أو الدينية تثير أدنى ريبة، رغم أنَّ السواد الأعظم من هؤلاء من أتباع الإسلام، وما كان ذلك الاعتبار ذا أهمية في المجتمع المضيف؛ لأنَّ الشغل الشاغل كان متمثلا في كسب سواعد شابة، يعول عليها في البناء الاقتصادي؛ حيث نظمت فرنسا وألمانيا تدفق المهاجرين بحسب نمطين مختلفين، ما زالا إلى اليوم يعكسان الوعي التاريخي والسياسي والثقافي والأخلاقي في كلتي الدولتين. إنها فكرة الأمة المختلفة، أساس الوثيقة الدستورية في البلدين، التي تفسر الضوابط الخاصة التي سنتها الحكومتان الفرنسية والألمانية لإرساء تنظيم قانوني لأوضاع المهاجرين؛ إذ ينحدر النموذجان من المبدأ العام، الذي يعرف الهويتين الفرنسية والألمانية وِفق من نحن، فرنسيين أو ألمان، على ضوء التاريخ المشترك؟ وما هو الأساس الذي ينبني عليه الكيان الجمعي؟ وبتعريف للمهاجر -بوصفه ذلك الذي لا يقاسم الجماعة الوطنية تراثها المشترك، وهو ما يميزها عن غيرها- يرسم الانتماء حدودا بين ما هو أصيل وما هو دخيل. والذي بموجبه ينبغي على المهاجر أن يراعي قواعد اللعبة التي حددتها القوانين الداخلية لكل دولة.

والاختلاف البارز بين مفهوم الدولة الفرنسي ونظيره الألماني، يكمُن في كون النموذج الفرنسي يستند إلى مفهوم عام لا يشمل أهلِيي فرنسا فقط، بل يتسع ليحوي من لم يكن مولدهم بفرنسا، ويقيمون ويلتزمون بالمبادئ الأساسية التي تنظم المجتمع، مبادئ ليست سوى حقوق الإنسان والمواطنة الأساسية، التي تضمنتها مبادئ الثورة الفرنسية سنة 1789م. ذلك ما يجري الحديث عنه وفق مفهوم -ius soli- (الحق الترابي). فغير الفرنسي يصير مواطنا بالمولد أو بروابط الدم، لتكون لذلك الحق الترابي قيمة تسمو فوق الزمان والمكان، لذلك يمكن توسيع ذلك الحق ليشمل من لم يشترك في تاريخ الشعب الفرنسي. في حين الأمر في الحالة الألمانية يتجلى في الهوية العرقية للشعب، في حلف تضامن ثقافي، قبل أن يكون سياسيا، يربط بين سائر من يحسون بانتمائهم لتاريخ عريق مشترك، صاغته اللغة والعادات والدين والثقافة. ومن هنا، تبرز فكرة مؤداها أن الذي لا يحوز تحدرات ما، أو صلات بالأسلاف، لا يمكن أن يعتبر البتة ألمانيًّا؛ سيظل دائما أجنبيا حتى وإن أقام أثناء العمل فترة طويلة في البلاد. ضمن هذا السياق، يكون اكتساب حقوق المواطنة ضيقا ومحدودا في الزمن، بما أن المصلحة الواقعية، من جانب المجتمع المضيف، تملي ألا يكون هناك اندماج بل تمييز، بين الألماني القح والأجنبي الوافد. لهذا يجري الحديث عن مفهوم المواطنة عبر (حق الدم) –ius sanguinis- حين تذكر سياسات تنظيم تدفق المهاجرين وحضورهم في ألمانيا. وهكذا يصبح الحصول على الجنسية مشروطاً بوجود صلة قرابة دموية. ومن هنا، كانت الإشارة إلى المهاجرين بالمقولة اللافتة: "العمال الضيوف" (gastarbeiter)؛ لأنهم فعلا يقيمون بموجب عقد عمل يحدد مدة الضيافة لدى الدولة الألمانية، لكن تلك التراتيب باتت عرضة للانتقادات مما أملى على ألمانيا تغيير سياستها تلك للتلاؤم مع باقي الدول الأوروبية.

*****

نبذة عن المؤلف:

فينشنسو شيزاريو أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الكاثوليكية بميلانو. وهو مدير مجلة "الدراسات السوسيولوجية"، كما يشغل منصب السكرتير العام لمؤسسة "إيزمو" لدراسة تعدد الأعراق. صدرت له جملة من الأبحاث منها: "الآخر..الهوية والصراع في المجتمعات التعددية" 2002، و"المجتمعات المتعددة الأعراق والثقافات" 2007.

------------------------------------

- الكتاب: "تحديات الهجرة".

- المؤلف: فينشنسو شيزاريو.

- الناشر: فيتا إي بنسييرو (ميلانو-إيطاليا)-باللغة الإيطالية.

- سنة النشر: 2015.

- عدد الصفحات: 104 صفحات.

أخبار ذات صلة