لجورج فريدمان
فيكتوريا زاريتوفسكايا *
مُؤلِّف كتاب "بؤرة التوتر: الأزمة الظاهرة في أوروبا" جورج فريدمان هو خبير أمريكي في السياسة الدولية وعلم السياسة؛ له أعمال مرجعية في قضايا توازن القوى العالمية والشراكة الدولية؛ مُؤسِّس مركز البحوث الجيوسياسية بجامعة لويزيانا الحكومية الذي يُعنَى بوضع التنبؤات الإستراتيجية، كما شغل في الماضي منصب رئيس هيئة "ستراتفور" للمعلومات والتحليل.. من مؤلفاته التي حقَّقت شهرة واسعة وأحرزت مبيعات قياسية في الولايات المتحدة: "الحرب السرية لأمريكا" (2004)، "الأعوام المائة القادمة: التنبؤ بالقرن الواحد والعشرين" (2009)، "الأعوام العشرة القادمة" (2011). ترجمت أعماله إلى أكثر من 20 لغة.
ولا يحيد الكتاب الأخير للباحث الأمريكي -هنجاري الأصل- جورج فريدمان "بؤر التوتر: الأزمة الظاهرة في أوروبا" عن الطابع الذي سبغ أعماله السابقة؛ حيث التحليل ومعالجة القضايا العالمية الراهنة في السياسة الدولية بأسلوب ممتع، معتمدا الـ"فوتورولوجيا" (علم المستقبليات) منهجا لبحثه. ومع أنه يجعل من القارة الأوروبية مركزا وهدفا لبحثه، إلا أنه لا يغفل المعطيات الجغرافية والجيوسياسية المتعلقة بالقارة العجوز؛ حيث حدودها مع إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا. وإذا ما علمنا أن إجمالي الناتج القومي لأوروبا يفوق الناتج القومي الإمريكي؛ فسندرك أن أي حرب أو أزمة حقيقية تحيق بها، فإن آثارها ستعم العالم بأكمله.
يطرح الكاتب ثلاثة أسئلة جوهرية ويحاول الإجابة عنها، وهي أسئلة تقع في صميم الحياة الأوروبية وتتعلق بمسألة العيش السلمي المشترك فيها.
سؤاله الأول يطرحه كما يلي: لماذا أصبحتْ أوروبا، وأوروبا لا غيرها، هي المكان الذي وعت فيه الإنسانية ذاتها وأدركت طبيعة تحولاتها، وكيف تمكنت من فرض سيطرتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية على العالم؟. السؤال الثاني: لماذا، وبرغم عظمة الحضارة الأوروبية، إلا أنها عاشت أوضاعا مزرية بين أعوام 1914-1945 (بداية الحرب العالمية الأولى ونهاية الحرب العالمية الثانية) اتَّسمتْ بالقسوة الماحقة وترتب عنها خسائر بشرية مروعة، ما هي عيوب المجتمع الأوروبي التي تسببت بكل ذلك الدمار؟ والسؤال الثالث: هل ستمتد الفترة التي بدأت من عام 1945 لتكون مستقبلا للقارة خاليا من الحروب، هل تم طرد الحرب وأشباحها من القارة الأوروبية، إلى الأبد، أم أنه وهم جميل تعيشه واستراحة مؤقتة؟
ينأى المؤلف عن فكرة أن أوروبا قد فرغت من قضايا السلام والازدهار ووجدت حلولها الناجعة بشكل حاسم ونهائي، وذلك دون بقية البشر الذين مازالوا عالقين بآفات التخلف ومازالت حياتهم تكتوي بنار الحروب والتوترات. وإن أردنا المقارنة بين جورج فريدمان في كتابه هذا، وبين أصوات أمريكية أخرى تنتمي إلى الفضاء العلمي الرفيع، نجده -على سبيل المثال- بعيدا كل البعد عن آراء واستنتاجات المؤرخ الشهير كريستوفر م.كلارك الذي أطلق مقولة إنَّ الاتحاد الأوروبي هو أهم ما أحرزته البشرية. بالعكس منه، ينحو فريدمان وجهة مغايرة ويتبنى نظرة متشككة تجاه أوروبا، بل ومتشائمة في أحيان كثيرة، ويعتبر أن المداميك التي تبني عصر السلام والازدهار الأوربي قابلة للنقاش ومعرضة للجدل. كما يرى أن تاريخ الخلافات والنزاعات الأوروبية مازال قائما ويمكن الاستدلال إليه بوضوح. زد على ذلك أن فريدمان لا يعبأ بنظرة أوروبا تجاه نفسها وأنها أرض للسلام الأبدي ويقابلها بنظرة خاصة أكثر واقعية. يقول عن ذلك: "إن أوروبا مكان عادي على كوكبنا، نشبت فيه حروب كثيرة، لم يكن سببها عدم المقدرة على فهم التاريخ واستيعاب دروسه، وليس مردها تردي أخلاق البشر، بل نتجت عن تصادم المصالح بين بلدانها، تصادم بلغ من الحدة درجة جعلت من البعض يعتقدون أن دخول الحرب أهون من تجنبها".
ومن جهة أخرى، يرى فريدمان أنَّ أسس البناء الجيوسياسي الأوروبي ظل على حاله منذ بداية القرن الماضي؛ فأوروبا هي نفسها تلك القارة الصغيرة المتجزأة إلى عدة دول قومية، ومازالت بعض بلدانها تحمل ضغينة تاريخية نحو جاراتها، وما الوئام الظاهري سوى نوع من تجميد الخصومات السالفة وحسب.
وها هو يوم الامتحان قد حان وقته، خاصة فيما يتعلق باستقرار القارة، والمآل المنظور لا يشبه الآمال المرجوة بأي حال.
ثمة قلق مُتنامٍ من التوسع الاقتصادي الألماني، وهناك روسيا التي أبانت عن نفسها من جديد. إن أوروبا اليوم متخمة بالتناقضات، وهي تناقضات كامنة في صلب الأنظمة وليست عابرة، قد تؤدي إلى أعطال حقيقية وربما إلى فشل صريح. يقول فريدمان معللا ما سبق: "إن أهم معضلات أوروبا الحديثة تتلبس روح فاوست (بطل مسرحية الكاتب الألماني الكبير يوهان جوته، حيث باع نفسه للشيطان مقابل الحصول على المعرفة). تلك الروح العاشقة للسيطرة على كل شيء في العالم، حتى وإن كان ثمنه النفس البشرية ذاتها. واليوم تحول هذا العشق وانفتحت شهيته لامتلاك كل شيء، بالمجان. إنهم يريدون السلام الأبدي والرفاهية، يريدون الحفاظ على سيادتهم القومية ولكن لا يحبون أن تسير الدول الأخرى على خطاهم وتأمن مصالحها القومية مثلما يفعلون. يطلبون شعبا أوروبيا موحدا ولكنهم لا يبنون لمصير مشترك حقيقي. يسعون إلى الانتصار ويتجنبون المخاطرة بشيء. يريدون أمنا شاملا، ولكن لا يعملون بحق من أجله".
وقبل المضي في استقراء كتاب فريدمان الذي بين أيدينا، وجب التأكيد أن المؤلف، وإلى جانب شكوكيته البينة، فهو واقعي في استنتاجاته ويعتمد على جغرافية الدول الأوروبية ومواردها الطبيعية ومصالحها القومية كقاعدة بيانات ينطلق منها لصوغ آرائه وتوليد فرضياته، مبتعدا عن خرافات الإعلام وعن منازعه الشخصية، فضلا عن أنه يأخذ بفلسفة وتاريخ وثقافة أوروبا لتعزيز بحثه ومده بالعروق الحية واللازمة لتماسك بنيته الفكرية والمنهجية.
وفيما يتعلق بحالة السلم والاستقرار الأوروبي، يقرنها المؤلف ويربطها بمستوى الرفاهية الآخذ في التدني. وحيث يقلل من احتمالية اندلاع حروب يين الدول الأوروبية، إلا أنه لا ينكر إمكانية نشوب صدامات بين الجماعات القومية ومواجهات أخرى بين عامة الجماهير والنخب المحلية. وفي هذا السياق، ليس بمقدورنا أن نغض الطرف عن الصراعات العنيفة والحروب التي نشبت في أوروبا (كما نعّرفها جغرافيا) في فترة الحرب الباردة 1945-1992 التي انتهت بانهيار الاتحاد السوفيتي.
وفي معرض إجابته عن السؤال الذي يطرحه عن سبب ازدهار أوروبا، يستهدي فريدمان بمقولة شهيرة للكاتب الفرنسي الكلاسيكي أونوري دي بلزاك: "وراء كل مُلك كبير تقف جريمة كبرى". وكما في كل التراجيديات، تتبدى لنا الأسباب التي أدت إلى عظمة أوروبا وهي تتحول وتصبح نذيرا لسقوطها. فمبادئ الدولة وشروط السيادة ارتفعت فيها إلى مستوى كبير وبلغت حدود التعصب والكراهية تجاه الآخر المختلف. والإجراءات العلمية غير المسبوقة التي دفعت إلى تفاقم الشك بالروح والدين أدت إلى تضعضع الدين ومعه الأخلاق. التكنولوجيا المتقدمة التي سارعت في تغير العالم جلبت معها أسلحة فتاكة فاقت الخيال. ومثلما أفضت سيطرة أوروبا على العالم إلى صدام مستمر معه، وضعت الدول الأوروبية في مواجهة بعضها، تتنازع على أحقية تلك السيطرة لكل منها. والنتيجة فإن كل منحى من المناحي التي ترسم لنا عظمة أوروبا تحمل في طياتها بذرة الكارثة المستقبلية.
وفي الفصل الثالث من الكتاب، يضع الكاتب على خريطة أوروبا بعض النقاط ويرسم الخطوط التي تكمن فيها المخاطر، ومن فوقها ثمة دخان كثيف من النزاعات المزمنة: يوغسلافيا السابقة والبلقان كلها، قبرص بشقيه التركي واليوناني، الحدود الأرمنية الأذربيجانية، مولدافيا، بلجيكا بقسميها الولونية الناطقة بالفرنسية والفلامنكية التي تسود فيها اللغة الهولندية. يقلب بعدها المؤلف صفحات من التاريخ الأوروبي، يحلل طبيعة المصالح في هذا البلد ويبني فرضيات التطور والمآلات في بلد آخر. وما يلفت من طريقته في تعقب الأحداث وتواريخها، مقدرته المذهلة في إدراج تاريخ يمتد إلى خمسمئة عام مضت ضمن صفحات قليلة، مشيرا في الوقت نفسه إلى انعكاس التاريخ على جملة من الأحداث والأوضاع الراهنة وإمكانية التأثر به مستقبلا. وجنبا إلى جنب المعلومات التاريخية التي يستعرضها، يؤيد الكاتب بحثه بإحصاءات اقتصادية وتقارير تلفزيونية يرصدها من بؤر التوتر. كما يقترح علينا مساجلات فلسفية على حزمة من المسائل نذكر منها: أسلوب الحياة الأوروبية، تشقق الوعي الأوروبي، المجازر الجماعية بوصفها أمرا اعتياديا، المثقفون في خدمة العقل المطلق، حب البشرية والقسوة تجاه الفرد، العلاقة بين الإنسان والموت والدولة، إمكانية الجنون الجماعي وغيرها من المسائل.
تحتل ألمانيا محورا رئيسيا في الكتاب وتمثل بؤرته الأكثر إلحاحا. ما الذي تريده هذه البلاد؟ من ماذا تخاف؟ ماذا ستفعل وما الذي لن تفعله؟ إن ألمانيا، الدولة التي تسببت بالحربين العالميتين في الماضي، تقود اليوم قطار الاقتصاد الأوروبي، وهي البلاد الأكثر قوة في القارة. إنها تؤثر مباشرة في القرارات التي تتخذها الهيئات والمؤسسات الأوروبية، وتمارس سياسات مالية في الاتحاد وفقا لمصالحها الخاصة، مما يثير النقد والاحتجاجات المستمرة ضدها. بيد أنه -وبالمقابل- فإنَّ ألمانيا القوية اقتصاديا مهددة بوقف منتجاتها للبلدان الأوروبية بسبب محدودية القدرة الشرائية لدى الجيران. مع ذلك يمحض الكاتب هذه الدولة من القوة ما لا يعطيه لغيرها من بلدان القارة، وليس مصادفة أن يقتبس من الشاعر الألماني الشهير هاينريش هاينه (من شعراء القرن التاسع عشر) حين عبّر عن القوة التي تختزنها بلاده من أجل بناء مستقبلها وتحدث عن الرعد الألماني المسموع -منذ ذلك الوقت- رغم خفوت صوته.
لا يكتفي الباحث بتعيين أوروبا في إطارها التقليدي المعتاد ولا يحصرها بالاتحاد الأوروبي الذي يحلو له أن يسميه: "شبه الجزيرة الأوروبية"، وإنما يشملها بفضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي، وأيضا البلدان التي تؤثر على أوروبا وتتأثر بها، فنراه يكرس بعض فصول كتابه لروسيا والقوقاز وتركيا.
وقبل الختام.. من المفيد التذكير بأنَّ الباحث الأمريكي جورج فريدمان، حين يُعمل تفكيره في مصير أوروبا ويتصدى لقضاياها، إنما يفعل ذلك بصفة القريب إليها لا الغريب الذي يفصله عنها تاريخ وثقافة ومحيط. نراه يخصص فصلا من كتابه لعائلته التي هجرت وطنها الهنغاري -قلب القارة الأوروبية- وانتقلت للعيش في الولايات المتحدة؛ وذلك على وقع الأحداث المأساوية للحرب العالمية الثانية، مثبتا بذلك قوة العلاقة بين التاريخ والحياة الشخصية.
وأخيرا.. إنَّ قراءة كتاب الباحث الأمريكي جورج فيردمان لا تصلح للناقمين على التاريخ أو المتطيِّرين منه أو لمن يعتبرونه رفا يغطيه الغبار وتفوح منه رائحة العطن. فبفضل بحثه الرصين، متعدد المشارب ومتنوع المعارف، والممتع قبل كل شيء، يبرهن لنا مرة أخرى أن التاريخ يتطور بشكل حلزوني، وأن الإنسان غير محصن البتة من تكرار الأخطاء نفسها، وأن الخلافات والنزاعات المجمدة والمؤجلة، مثل مسألة أوكرانيا الحديثة، أو تلك التي بُت في أمرها بشكل غير عادل، إنما جميعها تنتظر ساعة الحقيقة. كما أن الموهبة التي يتوافر عليها الكاتب في استدراج الأسباب واستخلاص النتائج وجمعها في سلسلة واضحة المعالم، متعاقبة تاريخيا ومجدولة منطقيا، كل ذلك يجعل من قراءة الكتاب أمرا أخاذا ودربا ماهدا يقربنا من مستقبلنا.
---------------------------
- الكتاب: "بؤر التوتر..الأزمة الظاهرة في أوروبا".
- المؤلف: جورج فريدمان
- الناشر: دار دوبليداي، نيويورك، 2015.
- عدد الصفحات: 288 صفحة.
أكاديمية ومستعربة روسية *
