ساسكيا ساسين
مراجعة سعيد بوكرامي
في كتابها الجديد "الطرد والوحشية وتعقيدات الاقتصاد العالمي" الصادر في يناير 2016 تحاول عالمة الاجتماع والاقتصاد الهولندية ساسكيا ساسين، المتخصصة في مجال العولمة، والفائزة بجائزة الأمير إستورياس للعلوم الاجتماعية، ومؤلفة الكتاب الشهير"المدينة العالمية"، و"سوسيولوجيا العولمة" العثور فعلا على معالم الانتشار الواسع لعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية في المدن العالمية. لهذا تعقبت الباحثة الهولندية في كتابها الجديد خطوات نظرية التطور الاقتصادي المرتكزة أساسًا على آليات البحث عن الربح، والائتمان، والفائدة، ودورة الاقتصاد التي لا تكف عن جني الأرباح والفوائد كيفما كانت التداعيات الاجتماعية.
الكتاب ليس سهل المنال في مفاهيمه، كما أنّ خطوطه العريضة باعثة على القلق والخوف من المستقبل، غير أنّه في متناول القارئ المهتم بالدراسات الاقتصادية غير التقليدية. وتتمثل فكرته المركزية في أنّ التطور الذي عرفته مختلف الاقتصادات العالمية، كيفما كانت فلسفتها أو أصلها أو درجة تقدمها، قد شكل منذ أواخر القرن العشرين طفرة اقتصادية مشتركة موسومة بقطيعة مع التغييرات التي حدثت، حتى الآن، وفي أماكن من العالم متميزة نسبيا، كما هو الحال في إنجلترا القرن الثامن عشر، حينما ظهرت آلات النسيج الأولى مُعلنة بداية الثورة الصناعية التي سادت أوروبا في القرنين التاليين، وتلاحظ ساسكيا ساسين أن المشهد الاقتصادي العالمي اليوم يحمل الكثير من علامات تغيير العصر. وظهور طفرة جديدة تعد بعولمة اقتصادية ستُغير الكثير من معالم العالم اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا.
وقد حللت الباحثة، بناء على إحصائيات، ومعدلات شراء الأراضي الواسعة النطاق في العالم. وخير مثال على ذلك ما يحدث في البرازيل وآسيا وإفريقيا من اجتياح للأراضي من أجل استغلالها في زراعات صناعية، كما هو الحال مع نخيل الزيت ومشتقاته الصناعية الذي تطلب استثمارات متزايدة من قبل رؤوس الأموال الأجنبية على حساب السكان وموطنهم الأصلي. وهذا ما أدَّى إلى نتائج وخيمة مثل استغلال الموارد المائية بإسراف، وتهديد الأمن الغذائي للسكان. وعليه فبدل تعميم الثراء والرفاه يدفع الاقتصاد العالمي الجامح الطبقة الوسطى إلى نزول تدريجي نحو عتبة الفقر. والطبقات الفقيرة إلى وضعيات مزرية. تلاحظ الباحثة أن التداعيات تبرز أيضاً في ظاهرة النزوح الكثيف للمهاجرين غير الشرعيين التي تؤرق ضمير أوروبا. وتشير الباحثة إلى أنّ أوروبا الحالية لم تسلم هي الأخرى من سلبيات الاقتصاد العالمي الجديد، فها هي تقوم بإدارة ملتوية ومشبوهة لملف مديونية اليونان، والبرتغال وإسبانيا، معممة بشكل إلزامي سياسات "التقشف" التي لا تؤدي إلى انتعاش اقتصادي فعلي وحقيقي، لأن المصالحة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي والتَّقدم التجاري لهذه الدول ليس الشاغل الأساسي للمتحكمين في الاقتصاد العالمي، وإنما شاغلهم الإستراتيجي كيف يجعلون مديونيتهم تجني أرباحا مضاعفة دون المساس بأصول القروض. وبذلك يجعلون الدول المدينة تعيش تحت مخاطر الإفلاس، فتضطر إلى طلب مزيد من القروض وتقديم مزيد من التنازلات.
تنطلق الباحثة في بداية كتابها من كارثة اجتماعية تعرض لها تسعة ملايين من العائلات الأميركية حينما تفاجأت هذه الأسر بإشعارات الطرد ودفعت دفعاً إلى مُغادرة ديارها بسبب عجزها عن سداد ديونها مما دفع البنوك إلى الاستيلاء على الممتلكات بعد تحويل ديونها المالية على الملكية إلى ائتمانات ذات مخاطر كبيرة. وكانت النتيجة استبعاد الملايين من الأشخاص عن أملاكهم. والسبب الثاني لهذا الطرد يرجع إلى تسريح الملايين من العمال من مناصبهم في أعقاب خطط التقشف التي فرضتها المؤسسات الدولية. وكانت النتيجة أن الملايين من المزارعين والفلاحين طردوا من أراضيهم بسبب أن دولتهم باعتهم إلى بنوك أجنبية حتى تتمكن من تطوير المنتجات الغذائية اللازمة لتزويد الطبقة المتوسطة. وقد نتج عن ذلك أيضًا كميات هائلة من الغازات الدفينة المسببة للاحتباس الحراري، كما تم استنزاف المياه الجوفية لاستخراج الغاز الصخري.
تعترف الباحثة أن الكثير من المختصين الاقتصاديين أعمتهم تعقيدات الاقتصاد العالمي، فتجاهلوا هذا الموضوع الشائك أو وقفوا عاجزين عن التفكير فيه كما يفعلون عادة عندما ينتصرون للبساطة، فيفيئون العالم إلى (شمال ضد الجنوب وبين أغنياء ضد فقراء، وإلى سوء استخدام التكنولوجيا أو الأمراض الناجمة عن التمويلات الاقتصادية الجامحة وما إلى ذلك)، وتبرز ساسكيا ساسين أن وراء هذا التنوع الواضح يختفي تقارب رهيب: وهو ما يفسر هذا العنف المتنامي للرأسمالية والذي ينمق بمساحيق يطلقون عليها العولمة النموذجية، التي صنعت تدريجيا منطقا جديدا يمكن تسميته بعصر الطرد المنهجي.
من خلال أربعة فصول، تتعرض المؤلفة إلى التقهقر والضرر والاعتداءات التي يتعرض لها الإنسان وبيئته، واضعة قائمة شاملة عن مختلف الآثار السلبية التي تتسبب فيها العولمة الاقتصادية. وإذا كانت الفصول لا تترابط حقا، فإنها بالمقابل تستجيب في ثبات منهجي، ذهابا وإيابا، للقضية المطروحة والتي تبدو ظاهريا بسيطة ومتداولة في عدد من المراجع والمنابر، لكن الموضوع يعكس صعوبة منهجية للتصدي لظاهرة عالمية معقدة وحمالة أوجه متعددة. وفي الفصل الأخير، "الأرض الميتة الماء الميت" يقدم نفسه باعتباره دليلا موضوعاتيا عن المناطق الملوثة، المجدبة وغير الصالحة للسكن. ومن هنا ندرك أنّ الخيط الرابط بينه وبين الفصول السابقة يتمثل في صيرورة التطورات الاقتصادية، الممهدة للنهاية الحتمية وهي الوصول إلى الأرض الميتة.
لكن قبل الوصول إلى هذه النهاية المحزنة، سنحاول أن نتوقف عند الفصل الأول، الذي وضعت له المؤلفة عنوانا موحيا "اقتصاد متراجع، وترحيل متزايد" وقد حددت فيه عام 1980 كبداية طفرة عالمية في استغلال البشر والموارد، وتعميم أشكال جديدة من التقسيم الاجتماعي للعمل (تعميم المقاولات الفرعية، والاستثمارات الخارجية) وكذلك تعميم المعاملات المالية المعقدة والعالمية. تعتبر المؤلفة هذه الإجراءات الاقتصادية للشركات الأم نحو أسواق اقتصادية في العالم الثالث ثورة اقتصادية حقيقية لأنها سرعت استخدام الموارد (بما في ذلك الإنسان). والنتيجة ظهور ممارسات أكثر وحشية للطبقات الاجتماعية العليا. وحسب ساسين، فهي تصنع " النخب المفترسة" وهنا يلعب التمويل دورا محفزا لمزيد من تركز الرساميل، وبالتالي فإنّ مؤشر هذا التجديد يظهر بوضوح في التركيز المفرط للثروة في أيدي 1٪ من السكان، والناتج عن إعادة توجيه المدخرات والانتقال من الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية المندمجة (وخاصة في دول منظمة التعاون الاقتصادي)، إلى نظام إقصائي في الأغلب. هذا الانتقال من الاندماج إلى الإقصاء ناجم بالأساس عن نظام اقتصادي عالمي أكثر انشغالاً بتحقيق أقصى قدر من الأرباح المالية من الحاجة الملحة إلى تلبية احتياجات الشعوب والأفراد.
وشيئا فشيئا أخذ هذا النظام الاجتماعي والاقتصادي العالمي يطرد الناس من دائرة العمل، فتزايد العاطلون عن العمل، وانتشر العاملون المؤقتون، واشتد طرد الأسر من خلال عمليات الإخلاء والحجز على الممتلكات. وأصبح طرد الأفراد من المجتمع سبباً في ظواهر اجتماعية خطيرة مثل الهجرة الداخلية والخارجية، وانتشار الهشاشة الاجتماعية، واللجوء إلى العنف والإجرام. أو في أسوأ الحالات لجوء البعض إلى الانتحار واستمرت العمليات التي أدت إلى فرض أنواع من (الهجرة القسرية)، وهذا المبدأ الإقصائي يمارس أيضًا حتى لدى الشركات الوطنية والمحلية ذات الاستثمارات الخارجية أو الإقليمية (المدمرة، المتدهورة، المتلوثة، والمخصخصة) وحتى على الموارد التي تتعرض للاستغلال المفرط، والمستنزف). وتقدم المؤلفة إحصائيات مهمة من بينها أن الشركات الكبرى قامت بشراء مائتين مليون هكتار من الأراضي في العالم بين عامي 2006 و2011 لاستغلالها.
الطرد أو الإقصاء يعكس إذن وقوع كيانات في الأسر، والسعي إلى اقتلاعها وإزالتها تحت شعار براق أن ما يحدث هو من أجل الصالح العام للمحيط الحيوي. المصادرة في الولايات المتحدة مثلاً هي في مصلحة الدولة وتقدم المجتمع، ومن هنا يكشف النظام الاقتصادي أن مصلحته تكمن في اللامساواة الاجتماعية. وربما التقشف المفروض على الشعوب والأمم يوضح هذا المنطق النفعي. وخلال ذلك تتم الزيادة في الضرائب على الدخل وضرائب الاستهلاك، في حين يتم تخفيض مستوى المساعدات والحماية الاجتماعية، وبالمُقابل تحصل المؤسسات المالية والشركات متعددة الجنسيات على امتيازات بلا قيود، كما أنّها تدفع ضرائب أقل قانونية أو غير قانونية ومتحكمة في القروض والرهون العقارية على نطاق واسع. في النهاية تفرض إرادتها على الدول والشعوب.والمثير للدهشة، أن وهم التقدم مازال يعمل بنجاح لأننا مستمرون في قياس نجاح وتقدم الدول والمجتمعات بمقياس نمو الناتج المحلي الإجمالي.
وفي الفصل الثاني، "سوق الأراضي العالمي الجديد" تصف ساسين بتفصيل نظام معاملات بيع الأراضي التي اشترتها الدول الغنية والشركات المُتعددة الجنسيات من الدول الفقيرة. وحتى وإن كانت هذه التجارة ليست بجديدة، فإن الجديد هنا هو الزيادة غير العادية في عدد من المعاملات والمساحات المشتراة منذ بداية عام 2000. وأصل هذه الظاهرة يعود بحسب المؤلفة إلى خطط مستدامة لإضعاف الدول الأكثر هشاشة، والتي تعرضت منذ عدة عقود لقيود ومتطلبات منظمة التجارة العالمية باسم التجارة الحرة، فضلاً عن برامج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي المجحفة، لأنها تفرض تقشفا اقتصاديا باسم الادخار وإعادة هيكلة اقتصاديات هذه البلدان الضعيفة، التي تزداد ضعفا وفقرا مما يدفعها إلى مزيد من القروض والتقشف الاقتصادي، وتدريجيا تفقد قدراتها الذاتية ومقوماتها الهيكلية، لتصبح في النهاية مجرد رهن في قبضة الاقتصاد العالمي.
وتضيف المؤلفة أنّ من نتائج تحكم الاقتصاد العالمي في الدول الفقيرة أنّها تدفعها إلى حافة الهاوية بل وإلى نتائج وخيمة ومنها خفض الإنفاق الحكومي، وخصخصة الخدمات العامة وفتح الأسواق الوطنية والمحلية للمنافسة الدولية، وبناءً عليه فإنّ هذا النظام الاقتصادي أضعف هذه الدول وزاد من مستويات ديونها، لتجد نفسها ملزمة بالاقتراض من المنظمات الدولية (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي) والمصارف الخاصة، التي تجبر الدول المدينة على بيع الأراضي أو الحصول على حقوق استغلالها لصالح دول أخرى أو شركات أجنبية خاصة، حتى تتمكن من سداد ديونها. ومن هنا تصبح المديونية أداة لإعادة الهيكلة. كما تصبح البنوك والمنشآت المالية الخاصة سيادية ومتحكمة في البنية الاقتصادية والاجتماعية لهذه الدول الضعيفة فارضة عليها متطلباتها وقوانينها.
في الفصل الثالث، المعنون بـ " التمويل وقدراته: الأزمة كمنطق منهجي" يناقش التمويل المالي الخارجي للاقتصاد. تميز ساسين أولاً الاستثمار المالي في الأنشطة الاقتصادية المربحة والتي تساهم في مشاريع ذات مردودية للمجتمع (البيئية والتكنولوجيا الطبية)، ثم تلك، المؤذية، المساهمة في مشاريع يمكن أن تكون ضارة كـ (التسلح والكيمياء). ولكن يعتمد كلاهما على التمويل "المادي"، الذي يعارض اليوم التمويل "اللامادي"،المستند على تبادل منتوجات متفرعة تشكل ديونًا معقدة تستمد قيمتها من أنواع مختلفة من الديون، على المباني أو الأراضي الزراعية، حيث تستثمر في منتجات وآليات تمويلية من أجل مضاعفة المزيد من المكاسب، ويتم ذلك في سلسلة لا نهاية لها ومنفصلة عن العالم الحقيقي لعملية الإنتاج.
قبل أزمة عام 2008، بلغت القيمة الإجمالية للمنتجات الفرعية 600 ألف مليار دولار، أي عشرة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وبعد الأزمة، انخفض الناتج المحلي الإجمالي العالمي في حين واصلت قيمة المنتجات تزايدها. ومن هنا يظهر أن توجه وتنظيم النظام الاقتصادي هما معًا في خدمة التمويل العالمي. وتعتبر معاملات قروض الرهن العقاري في الولايات المتحدة خير مثال على ذلك. في الواقع، كان الغرض من القروض على عدم السماح للأسر بامتلاك العقارات ولكن دفعها لتوقيع عقود للسماح بإجراء ترتيبات مالية مُعقدة، تحول القروض إلى سندات قابلة للمبادلة. فلم تكن القيمة في أصول الملكية الموقعة في البداية ذات أهمية وإنما كان هدف البنوك هو التعاقد على أفضل القروض الممكن تحويلها إلى سندات مصرفية. وهذا هو السبب الرئيسي الذي دفع البنوك إلى تقديم الكثير من القروض للأسر المعسرة. وقد تبين فيما بعد أنّ الفائدة على هذه القروض أو قيمة العقار المرهون ليسا هما من يحدد القيمة، ولكن القرض نفسه كأداة للتفاوض.
هذا كله يعكس شكلاً من أشكال الهيمنة في القطاع المالي، حيث متوسط (الآليات المالية) يصبح في النهاية شكلا من أشكال (تعظيم الأرباح المالية). وبالتالي، يتوحش القطاع المالي ويفرض قوانينه (سياسة التقشف، وخلق الديون، والسندات) على قطاعات أخرى في المجتمع، ولا يمكن إبطاء وتيرتها المهيمنة حتى بالأزمات المتعاقبة.
وفي نهاية الكتاب تتساءل ساسين عن الآثار المترتبة عن نظام اقتصادي عالمي إقصائي بضراوة. أنتج اليوم غالبية عظمى من المقصيين، والفقراء الجدد وغالبيتهم من الطبقات الوسطى، التي كانت في وقت من الأوقات طبقة موسرة وتعيش حالة اقتصادية مستقرة. يعيش العالم الاقتصادي الجديد بمنطق اقتصادي واجتماعي مختلف، وقد نجحت الباحثة، كعادتها، في مواجهة حقيقته وكشف صورته التي أصبحت أكثر توحشاً وإقصاء واحتكارا لا تهمه غير العائدات المالية حتى وإن كانت على حساب ما هو إنساني وإيكولوجي.
--------------------------------------------------------------------------
الكتاب: الطرد والوحشية وتعقيدات الاقتصاد العالمي.
المؤلفة: ساسكيا ساسين
الناشر: دار غاليمار فرنسا الطبعة الأولى يناير 2016
الصفحات 384 صفحة.
اللغة: الفرنسية
