أسماء القطيبية
سَعَت الأديان -عبر التاريخ الطويل للبشرية- إلى تأصيل قيم المحبَّة والسلام بين مُنتسبيها، مُشددة على أهمية التحلي بالأخلاق الفاضلة التي تُقرُّها دساتيرها على المستوى الفردي والجماعي، ومع تقارب الثقافات وتداخلها، وتعدُّد المشكلات الاجتماعية والسياسية تُشكِّل ما يُعرف بالبرلمان العالمي للديانات، والذي أصدر في مئويته عام 1993 بيانا أو وثيقة أطلق عليها اسم "نحو أخلاق عالمية"، كتب عنها هانز كينج في مقاله "نحو أخلاق عالمية.. إعلان عالمي صادر عام 1993" -والمنشور بمجلة "التفاهم"- وتعد هذه الوثيقة حصيلة تشاور دامت سنتين بين علماء ورجال دين من عدة تجمعات دينية؛ بهدف وضع أسس وقواعد عالمية للأخلاق والعيش المشترك، ويعدُّ هذا البيان دقا لناقوس الخطر الذي بات يهدد كوكب الأرض ومخلوقاته من جراء الأفعال اللأخلاقية للبشر مثل الحروب، والتعدي على البيئة بتلويثها وإبادة كائناتها.
إنَّ فكرة إصدار بيان أخلاق عالمية تجعلنا نتساءل عن علاقة الأديان بالأخلاق؟ فهل الأديان بمثابة حارس للأخلاق المفطور عليها البشر، يضع لها القواعد والأسس التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان؟ أم -كما جاء في البيان- إن وظيفة الأديان ليست إحداث التغيير السياسي والاجتماعي، وإنما تغيير توجهات وفكر الفرد نفسه ليصبح ذا خلق فاضل؟ وهل الأخلاق هي الأصل الذي يأتي الدين معززا له؟ أم أن الدين هو الأصل الذي يغرس الأخلاق النبيلة في نفوس أتباعه بشعائره وتوجيهاته؟ وهذا الأمر يقُودنا بدوره إلى التفكر في ثنائية المصالح والأخلاق التي كثيرا ما تتنافر في القرارات السياسية والاقتصادية الكبرى؛ فهل تكفي الأخلاق كرادع فردي لتغيير قرارات منظومة كبرى تتداخل فيها المصالح وتتفاوت فيها تأثيرات القوى العالمية؟ إن أسئلة مثل هذه تحتاج إلى بحث عميق يقاس فيه مقدار التأثير والتأثر للأديان في المجتمعات، لنتمكن من معرفة مدى تأثير دعوة أو بيان مكتوب من رجال الدين في منتسبي الأديان.
تستهلُّ وثيقة "نحو أخلاق عالمية" -والتي صاغها مجموعة من رجالات الدين- ببيان لأسباب صياغة هذه الوثيقة؛ حيث ذُكِر أن العالم -آنذاك- في محنة وكرب عظيمين، بدءا من الحروب ومشاكل الفقر وليس انتهاء بالتعدي على البيئة والمشاكل الاجتماعية والسياسية الكبيرة، وأنه لا بد من الالتفات لهذه الكوارث ومعالجتها، بالتعالي على الاختلافات، لا سيما الدينية منها، وبالنظر لتاريخ صدور هذا القرار في العام 1993 نجد أن العالم عانى منذ ذلك الوقت إلى الآن من انحدار وتدهور كبيرين؛ حيث اتسعت رقعة الحروب وزادت المشكلات البيئية واتُخذت قرارات سياسية واقتصادية زادت من معدلات الفقر والعوز، إضافة لظهور مشاكل معاصرة مثل الجرائم الإلكترونية وغيرها. وهو ما يمكن -من وجهة نظري- أن يكون مؤشرا لأمرين؛ أولهما أنَّ الناس لم تعد تلتفت لدعوات رجال الدين كما كانت تفعل سابقا، خاصة تلك التي تحمل خطابا لطيفا لا يتوعد بغضب الرب وبطشه مثل هذا الخطاب. أو أنَّ هذا الخطاب وجه للعامة بينما كان من الأولى والأجدى توجيهه لصانعي القرار وأثرياء العالم والمتنفذين فيه؛ كونهم المؤثرين الحقيقيين؛ وبالتالي فهو لم يؤتِ ثماره؛ لأنه وجه للشريحة غير المناسبة من الناس.
احتوى البيان في مُجمله على مُقدمة تناولت مبادئ الخلق العالمي ذكر فيها أن النظام العالمي يجب أن يحتكم إلى الأخلاق، وأن من حق كل إنسان أن يعامل بالمبادئ الإنسانية وبما يحفظ كرامته، كما احتوى البيان على توجهات ثابتة يتوجب على البشريه اتباعها؛ وهي: الالتزام بثقافة اللاعنف، والالتزام بنشر ثقافة التعاضد والتسامح، والمساواة، والسعي لتحقيق نظام اقتصادي عادل. وبشكل عام، فإنَّ البيان يشبه الخطب الوعظية الدينية من ناحية العمومية واللغة التي صيغ بها وميله إلى استخدام الأسلوب العاطفي واستجداء المشاعر؛ وبالتالي فهو لم يأتِ بجديد، ولكي لا نجحف البيان حقه، فلعله كان وقت كتابته مناسبا لروح عصره، خاصة مع احتفاظ الأمم بطابع هوياتها الخاص، بعكس عصرنا الحالي الذي تداخلت فيه الهوايات وتمازجت فيه الثقافات وتعددت فيه طرق التعبير ووسائله بشكل كبير.
... إنَّ التحلي بالأخلاق الفاضلة والمعاملة الإنسانية أشمل من أن يكون شأنا دينيا؛ كونه يضم جميع الناس: سواء المتدينين منهم، وأتباع الأديان، واللادينيين، بل إنَّ جعله شأنا دينيا خالصا قد ينعكس أحيانا بالسلب على تلك الأديان حين يظهر بعض أتباعها سلوكا قبيحا يحسب على الدين، ومثاله ما فعلته الجماعات الإسلامية المتطرفة من استباحة قتل المدنيين، والدعوة لرفع السلاح على غير المسلمين. وليس معنى ذلك امتناع رجال الدين عن محاولات إخماد نيران الحروب والفساد والدمار، ولكن ليس بالخطب العتيقة والمواعظ المكررة التي باتت لا تؤثر في المتدين لفرط ما سمعها، بل بغرس القيم النبيلة في الناس مثل التعايش والتسامح وتقبل الاختلاف والاحتفاء به في الناس منذ صغرهم، وجعل كل ذلك سلوكا اجتماعيا، وإعادة النظر في النصوص الدينية التي تحض على كره الآخر وتكفيره ونبذه؛ كونه لا يعتنق نفس الدين. والأهم من ذلك أن يمتلك رجال الدين الشجاعة للإقرار بأن الفساد إنما يأتي من أصحاب القرار، ومواجهتهم بذلك؛ لأنَّ إلقاء اللوم على الضعفاء لم يعد يجدي في زمن أصبح الناس فيه يمتلكون وعيا سياسيا كافيا للتمييز بين الفاسد والمغلوب على أمره.
