«أشكال لا نهائية غاية في الجمال»

أشكال لا نهائية.jpg

لشون كارول
نوف السعيديَّة

"ليس معروفا على وجه التحديد متى أو أين ظهرت الشوكة لتحل محل السكين الثانية على مائدة الطعام".

حين كُنت أقرأ وأسمع أنَّ دنا DNA الشمبانزي والإنسان متطابقان بما يقارب الـ99%، لم أكن أعرف المعنى الحقيقي لذلك.. هذا الكتاب يُساعد على فهم مثل هذه الأمور وأمور أخرى. فبالإضافة لما تكشفه مظاهر الحيوانات من أجزاء متناددة (فساعد الإنسان يقابله الجناح في الطيور والزعانف في الأسماك) ومعمار مدولي (لبنات أو بنى مكررة، فكر في شكل الدودة المكونة من بنى قليلة ومكررة، وتأمل في الأنماط المكررة التي تكون جسمنا كالفقرات، الأضلاع، الأطراف)، إضافة لما يكشفه المظهر، فإنَّ الجينات تكشف وجها آخر للتشابه يتمثل في وجود النظائر في جينات الكائنات المختلفة، والترتيب النسبي في الكروموسومات، والكيفية التي تستخدم بها متواليات الجينات في بناء الأجنة.

ويستند كتاب "أشكال لا نهائية غاية في الجمال" لشون كارول على علم الإيفوديفو (علم أحياء النمو التطوري) لمناقشة قضايا التطور. والإيفوديفو يجمع أكثر من حقل من العلوم؛ مثل: علم الجينات، وأحياء النمو، والأحياء التطورية، والأحياء الجزيئية. وهو بإمكانه تقديم إجابات تفشل الأحافير في منحها؛ حيث تكمُن أهمية الإيفوديفو في تقديم أدلة غير مبنية على المظهر وحده، بل تذهب عميقا عبر مقارنة الجينات، وكيفية تشكل الأجنة. على سبيل المثال: اكتشاف أن ذات الجينات تنشط في كلا الفص التنفسي للأسماك وأجنحة الحشرات، يدلل على أن الأجنحة متطورة عن الخياشيم وليس عن الأطراف.

إذا كنت ممن يمرون بمطاعم "صبواي"، فستجد لائحة عريضة كُتِب عليها بأنهم يمتلكون مليوني خيار، وهذا صحيح تماما. فلديك مجموعة الخبز، مجموعة من اللحوم، ومجموعة من الأجبان، ومجموعة من الخضار، ومجموعة من الصلصات. لنفترض أن كل خيار يمكن تحديده عبر مفتاح (نعم/لا) يقرر ضم المكون للساندوتش من عدمه. هل تتخيل عدد احتمالات الغداء التي يمكن تكوينها عبر صف صغير من المكونات؟ إن الجينات تعمل بنفس الطريقة تقريبا. فالجينات (يقصد بها قطع الدنا التي تفك شفرتها إلى بروتينات) يتم التحكم بها عبر مفاتيح تنظم تفعيل الجينات. إن جزء الدنا المسؤول عن إنتاج البروتينات يُقدر بـ1.5% فقط. أما الجزء المتبقي، فإما أنه يقوم بوظائف تنظيمية حيث يحوي تعليمات التحكم بالجزء المنتج، وإما أن يكون مجرد تكدسات غير صالحة تم اكتسابها عبر مسيرة التطور الطويلة.

هناك حالة يطرحها الكاتب لتسهيل موضوع تفعيل وكبح الجينات: تتغذى بكتيريا الايكولاي على سكر الجلكوز، ولكنها في غيابه وحضور اللاكتوز تحرض على إنتاج الإنزيم المطلوب لاستهلاك اللاكتوز، فتواجده في بيئة هذا النوع من البكتيريا يؤدي لفصل الكابح عن قطعة الدنا، ليبدأ إنتاج الإنزيم (والإنزيمات -باختصار- هي بروتينات تنتج عبر الدنا)، وكما يقول الكتاب فما ينطبق على الإيكولاي ينطبق على الفيلة أيضا. هذ العملية آلية تماما، والتأمل فيها يجعلنا نتساءل عن معنى "الإرادة الحرة" بعد ذلك. فحتى الأفعال التي يبدو أننا "نفكر" فيها، ونتخذ القرارات بشأنها عن وعي لا يبدو أنها تحدث بالطريقة التي نتخيلها. فما الفكرة في النهاية سوى عملية كيميائية.

ويقول ديموقريطس: "كل ما هو قائم في الكون ثمرة الفرصة والضرورة". عند الحديث عن عدد الاحتمالات الممكنة (الذي تحدده الصدفة) فهذا يعني أنه مثلما يمكن إنتاج الكائنات المحسنة، يمكن إنتاج كائنات طافرة. لكن كيف تستثني الطبيعة وحوشها أو بمعنى آخر تنتخب الطبيعة الأصلح؟ يجيب كارول: "استصعب البعض تخيل كيف يمكن للابتكار والتعقيد أن ينشأ من عملية عشوائية. الفارق الرئيسي هو أنه بينما يكون توليد التفاوت الجيني بواسطة الطفرة عملية عشوائية تماما، إلا أنَّ فرز هذه التفاوتات، أي تحديد تلك التي ستستمر وتلك التي ستنبذ، يحدد عبر عملية انتخابية جبارة لا عشوائية" (ص:398)؛ فقانون الانتخاب الطبيعي لا يمنح الطافرات أي فرصة لتمرير سماتها عبر الأجيال. لكنَّ دراسة مثل هذه العيوب الجينية يساعد الباحثين -على سبيل المثال- من التعرف على الجينات المسؤولة عن أمر معين عبر البحث عن الجين المعطل الذي أدى لتعطيل وظيفة ما أو ظهور عيب في الشكل. تماما كما يمكن اكتشاف المراكز المسؤولة عن مهام معينة في الدماغ عبر دراسة الحالات التي تتعطل فيها هذه الأجزاء.

 

كيف يُبنى الحيوان وكيف يتطوَّر؟

قلنا سابقا إنَّ العلماء عرفوا أنه حيثما ينشط الجين يؤدي وظيفته، وعرفوا أن الجينات الناحتة هي المسؤولة عن ترسيم خريطة الجنين، وأنَّ ذلك يتم عبر المفاتيح الموزعة في الجينوم والتي تعطي وتمنح الخلايا والأنسجة خواصها (الأمر كما يقول نيل شوبين في كتاب "السمكة داخلك" أشبه ببناء بيت من خلال المعلومات الموجودة في الطوب). لكنَّ الباحثين رغبوا أيضا في معرفة كيف تتم عملية النحت، ومتى وكيف تتمايز أدوار البنى؟ وقد تكون التقنية الأكثر فعالية لمراقبة نشاط الجينات خلال مراحل تعضي الجنين هي صبغ الخلية الأولى بأصباغ تمكن من متابعة التغيرات، قاد ذلك العلماء لرسم خرائط تشكل الأنسجة والبنى سميت بخرائط المصير، وبالرغم من أن جميع الخلايا تحوي ذات الجينات إلا أن عدة الأدوات تنشط في أجزاء محددة من الجنين وفي أوقات معينة خلال النمو. تقاد العملية عبر الدنا التنظيمي الذي يحتوي على تعليمات لبناء البنية التشريحية، أي أن هناك "نظام في إنشاء الحيوانات بدءا ببناء مخطط الحيوان الأساسي إلى التفاصيل الدقيقة في أجزاء الجسم" (ص:160). يمكن اختصار عملية التشكل في الآتي: تكون الأجنة يبدأ من خلية وحيدة، ثم تؤدي الانقسامات لتكون مجموعة من الخلايا وفيما يكون الأمر بالنسبة للمراقب مجرد كتلة من الخلايا المتطابقة؛ فالواقع أنَّ هذه الخلايا قد حُدِّد موقعها المستقبلي في الجسم المكتمل. الجينات الناحتة توجه الخلية لصناعة متتالية كيميائية، تنظم بدورها الجينات الأخرى المسؤولة عن وضع الخلايا في الجنين.

ويقول كارول: "بصرف النظر عن الاختلافات الكبيرة في المظهر ووظائف الأعضاء، فإن كل الحيوانات المعقدة... تشترك في عدة أدوات شائعة من الجينات الحاكمة التي تدير عمليات تكوين وتنميط جميع هذه الأجسام وأجزائها المختلفة" (ص:28)، وعدة الأدوات الجينية هي مجموعة من الجينات المسؤولة عن التشكيل الأساسي لأجساد جميع الحيوانات. هذا فيما يخص التشابه بين الكائنات. أما التنوع الهائل للكائنات الحية -في المقابل- فهو ناتج عن كيفية التحكم بالجينات، والاحتمالات الممكنة للجين الواحد الذي يدار بواسطة عدد هائل من المفاتيح المستقلة (المفاتيح تحدد هل ينشط الجين في منطقة معينة وزمن معين أو لا). إن التنوع لا يتعلق بعدد جينات عدة الأدوات بل بطريقة استخدامها، فعلى سبيل المثال: الاختلاف في عدد الفقرات عند الفقاريات -على سبيل المثال- ناتج عن إزاحة مناطق النشاط. إنَّ تعليمات بناء البنية التشريحية الموجودة في الدنا التنظيمي هي المسؤولة عن التنوع الهائل للكائنات.

... إنَّ أجسام الحيوانات مكونة من مجموعة أجزاء مكررة. يُوصَف الكائن بأنه بسيط أو معقد بناء على التعضي المكرر لأجزاء الجسم القليلة نسبيا؛ فكلما قلَّ التكرار زاد التعقيد "تكمن أهمية تصميم الجسم المتكرر تسلسليا في قدرته على إزاحة عبء بعض المهام من زوجين من البنى أو أكثر وإحالتها إلى عدد أقل من الأزواج، ثم تخصيص البنى المتحررة لتخدم أهدافا جديدة" (ص:240)، لكن كيف "تعرف" البنى كيف تتحول لعضو جديد؟ الإجابة هي "التعدد الوظيفي". يتيح التعدد الوظيفي والحشو "الفرصة لتطور التخصصية من خلال اقتسام المهام" (ص:241)؛ حيث تترافق التخصصية مع تقليص عدد البنى المتكررة تسلسليا. الأمر -كما يشرح الكاتب- شبيه باستبدال السكين الثانية على مائدة الطعام بشوكة، هذا الحدث التطوري -التعديل الذي طرأ على شكل السكين لتصبح شوكة- الذي لا يعرف على وجه التحديد متى وأين حدث. يبدو أنني لا أجد اليوم مقاربات أفضل من تلك المتعلقة بالأكل! بدأ الأمر باستخدام سكينتين واحدة للتقطيع والأخرى لنقل الطعام (بنى متكررة متعددة الوظائف) بعدها طورت السكين الأخرى عبر إضافة حد آخر لها (التخصصية وتقليص البنى المتكررة).

قد يكون المفتاح الأهم في التطور هو التكيف، أو كما يحلو للكاتب أن يقول "تطور الأنماط يتم عندما تتعلم الجينات الغابرة حيلا جديدة". وبالمناسبة؛ فإنَّ تعرض الكائنات لنفس الظروف، يجعلها تتطوَّر بالطريقة نفسها تقريبا (تضغط عليها لتلجأ للحيل نفسها)، أحد الأدلة على ذلك أسماك أبي شوكة. حيث يوجد نوعان من هذه السمكة النوع الموجود في المياه المفتوحة، والذي له شوكة طويلة، والنوع الآخر الذي تكيف مع حياة القاع عبر تقليص الشوكة. المدهش أنَّ مجموعات السمكة في مناطق جغرافية مفصولة تطوَّرت بشكل مستقل لتصل لهذا الحل عبر التحكم في الجين نفسه. تنطبق الفكرة نفسها على الأجنحة مثلا، فليست كل الكائنات ذات الأجنحة متطورة عن سلف مشترك، ولكن كلًّا منها -وبشكل مستقل- توصل لهذه الحيلة.

فيما يُمثل التكيف السر الأهم للتطور؛ فالكاتب يحاول أيضا تحديد أسرار الابتكار التطوري:

1- العمل بما هو موجود: البُنى الجديدة ما هي إلا بنى معدلة وجدت مسبقا، أو كما يحب الكاتب أن يعبر عن الأمر بالقول: "تعمل الطبيعة كسمكري يستخدم المواد المتاحة، لا كمهندس يصمم"؛ فالطبيعة لا تخترع الأشياء، وإنما تعيد قولبة البنى الناجزة مستخدمة ما يتوفر لديها من عدة الأدوات.

2- التعدُّد الوظيفي والحشو: فالأعضاء التي لها أكثر من وظيفة تعمل مع الوقت على تقسيم الوظائف على البنى.

3- المدولية: تعني بناء الجسم من بنى متكررة تمثل الوحدات الأساسية لبناء الحيوان، وهي "مفتاح بناء التعقيد وتطور التنوع".

... نجح الكاتب إلى حدٍّ بعيد في سد بعض الفجوات حول فكرتنا عن كيفية تطور الكائنات، إلا أنني وجدت بعض الصعوبة في مواصلة القراءة للنهاية؛ كون الكاتب يشرح المواضيع بكل تفاصيلها (وكوني غير مُختصَّة). والترجمة عذبة، الشكر لعبدالله المعمري وزميله حمد الغيثي على هذا المجهود الذي من الواضح أنه لم يكن سهلا أبدا.

 

* ملاحظات أخلاقية لابد منها

يقول شون كارول: "بالرغم من أهمية مفاتيح جينات الإنسان، فإن دراستها أصعب بكثير مقارنة بالأنواع الأخرى؛ لأننا لا نستطيع دراسة وظيفتها في أجنة الإنسان الحية" (ص:375)، الكاتب الذي يُقر بأننا نتشابه مع الحيوانات الأخرى، وأن كلَّ ما ينطبق عليها ينطبق علينا يستثني شيئا واحدا: أخلاقية العبث بالجينات. فهو إذا أنتج عينا على جناح ذبابة الفاكهة سمى ذلك كشفا علميا، أما تطبيق مثل هذه التجارب على الإنسان فهي جريمة أخلاقية. لا أصدق أن رجلا يدعي الرهافة ويزعم أن الفهم العلمي يذكي الإحساس بالدهشة والجمال، لا أصدق أن رجلا كهذا قادر على أن يعبث ويؤذي.

حتى ولو قيل إنَّ تبني مثل هذه الآراء هو ما يحول المجتمع إلى مجتمع "أمومي"، فسأقول فلنتحول إلى أي جحيم ما دام ذلك يجعلنا أكثر عناية وحساسية في التعامل مع الطبيعة.

-----------------------------

- الكتاب: "أشكال لا نهائية غاية في الجمال: علم الإيفوديفو الجديد وصناعة مملكة الحيوان".

- المؤلف: شون كارول.

- ترجمة: عبدالله المعمري، وحمد الغيثي.

- الناشر: دار كلمة، أبوظبي، 2016.

أخبار ذات صلة