أم كلثوم الفارسي
يقول الكواكبي : «ما من مُستبدٍ سياسي إلا ويتَّخذ له صفة قدسية يُشارك بها الله أو تعطيه مقامًا ذا علاقة مع الله»
يطرح الكاتب – محمد شتيوي- في مقاله المعنون بـ "سلطة الدين: الولاء والبراء والمرجعية والكهنوت" إشكالية العلاقة بين سُلطة الدين وإنسانية الرأي حيث يناقش جملة من الأفكار التي توضح العلاقة الإشكالية بين الدين والرأي والتي في بعدها الأولي تقوم على التقابل بين سلطة الدين وحرية الرأي؛ فإذا كان الرأي نزاعًا بذاته إلى التحرُّر من كل سلطة معرفية خارجة عن الذات فإنّ الدين بطبيعته القدسية المتعالية يطلب التسليم والخضوع الكاملين للتعاليم الإلهية دون أن يكون للمُتدين الخيرة من أمره بعد التزامه بالدين، بل عليه أن يتهم رأيه إذا بداله منه شيء يثير شبهة أو يُحرك إشكالاً فالدين ثابت والرأي نسبي ينتقل كما قال ابن سيرين لرجل سأله عن رأيه في موضوع (لو أعلم أنّ رأيي يثبت لقُلت فيه ولكني أخاف أن أرى اليوم رأياً وأرى غدًا غيره فأحتاج أن أتبع النّاس في دورهم)، فالدين بما يمثله من نصوص مُقدسة مصدرها مطلق في الديانات الكتابية لا يفهمه المتدينون إلا في حدود نسبيتهم وفي سياق ظروفهم التاريخية بل وفي ضوء مصالحهم السلطوية ومن هنا تنشأ إشكالية الخطاب الديني الذي يؤسسه الأتباع لأنّه يتحول بذاته إلى سلطة تستعير مواصفات السلطة الدينية ذاتها وتلبس لبوسها وتتضخم المشكلة حين يدخل الأتباع في دوامة الصراع على احتكار سلطة الخطاب الديني وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة وهنا كثيرًا ما تُستنفر السلطات الأخرى غير الدينية قصد توظيفها في فرض هيمنة على الخطاب الواحد كأن يقع اللجوء إلى سلطة الدولة أو المال أو الطبقة المُهيمنة أو التقاليد الاجتماعية السائدة وغير ذلك من الوسائل التي يراد بها جميعًا أو ببعضها ترجيح سلطة خطاب على آخر، فالعارف بواقع دولنا الإسلامية يُدرك تمامًا أنّها ليست دول مواطنة وليست دولة دينية بالمفهوم الدقيق للكلمة ولكنها تزاوج بين السلطة والدين بشرط أن يكون هذا التزاوج لصالح السلطة دائمًا فحاجتها للدين داخلية بالدرجة الأولى لتبرير وجودها وعدم الخروج عليها وإضفاء الصبغة الدينية على أفعالها؛ فعلماء الدين لديها للاستهلاك المحلي. لقد صارت سُلطة الدين ليست وسيلة للترهيب فقط، بل للترغيب أيضاً، فهم يستعملون الأحكام وفقاً لاستنباطاتها الفقهية، فيضيفون عليها حديثاً هنا ومروية هناك ليتم الإدلاء بها تحت قناع حكم النَّاس باسم الحلية والحرمة والاستحباب. وهكذا يتم تصنيع المبالغات وتشكيل ما يتم الاتفاق عليه من الأحاديث والروايات لجعل المتلقي يعيش تحت شروط الإذعان لما يتم الإدلاء به والترويج إليه.
فيقع العوام من النَّاس في فخ ما يسمى أوهام الاختلافات والنزاعات المذهبية والدينية حيث يجد التابعون أنفسهم تحت أحكام من تمّ تسليطه عليهم ليس غصبًا بل تضليلاً.
فالدين الإسلامي يتداخل فيه كل من السياسي والديني بشكل مُثير للانتباه؛ فبعد أن وطَّد النبي صلى الله عليه وسلم دعائمه السياسية في المدينة على أُسس دينية قام بخلافته من بعده أبوبكر ثم عمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) متبعين نهجه الذي أرساه من قبل واستعر الصراع السياسي في خلافة عثمان بن عفان وانتهى بمقتله وأفلت الزمام من يد علي بين أبي طالب بعد حروب دامت لسنوات خمس مع معاوية وكان ما كان من مقتله هو الآخر. وكانت الأطراف المُتصارعة تستند جميعاً إلى النص الديني مع أنّ الخلاف كان في الأصل سياسيًا وبنشأة الفرق والمذاهب أخذ الاستدلال بالنص الديني والاحتماء به ينحو نحو التكلُّف ووضع الأحاديث المكذوبة كما فعلت بعض الفرق لكن القاسم المشترك الذي جمع السلطة القائمة ومعارضيها في الآن نفسه هو محاولة استمالة ممثلي السلطة الدينية نحو هذه الفرقة أو تلك؛ فأسّس أهل السُّنة مفهوم عصمة الأمة وما يترتب عليه من حجية إجماعهم الذي تحرم فيه مخالفته، وبنوا على ذلك ظواهر ظنية من نصوص القرآن وعلى أحاديث مثل (إن أمتي لا تجتمع على ضلالة) ورغم أنّه خبر آحاد فقد دعموه بأخبار أخرى في معناه قالوا إنها تبلغ في مجموعها مبلغ القطع كما استدلوا على سوابق تاريخية أهمها قولهم بإجماع الصحابة على بيعة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه-. وبهذا صار الإجماع مرجعاً بشرياً معصومًا من الخطأ يشكل شبه مؤسسة علمية لا تقبل الرد والنقاش. غير أنّ أهل السنة اجتهدوا في تخفيف ثقل المرجعية البشرية فيه حين اشترطوا أن يكون كاشفاً عن دليل شرعي وإن لم يتعين بنصه. وأما الشيعة فقد أنكروا مفهوم عصمة الأمة وأسسوا مفهومًا بديلاً جعلوه معتقدًا دينياً راسخًا هو عصمة الأئمة من أهل البيت وبنوه على قواعد عقلية مثل قاعدة اللطف واستندوا إلى مرويات مخصوصة مثل خبر (أنت الخليفة بعدي) على الرغم من مناداة بعض من علمائهم إلى التفريق بين أمرين أحدهما مقبول والآخر مرفوض، أما الأول فهو أهمية تدخل الفقيه في شؤون المجتمع، وأما الثاني فيتمثل في سلبية تحويل رأي الفقيه إلى سلطة.
ومن بين التشويه الكبير الذي يرتكبه الساسة في حق الدين أخذ الفرق الكلامية السياسية المفهوم الدنيوي للولاء، والبراء، وتأصيلهما باعتبارهما واجبين دينيين وهي لم تهمل مفهومهما العام المتعلق بولاية الأمة المؤمنة فقد ركزت بحكم اختلافاتها الكلامية والسياسية على مفهوم ضيق محدود بحدود مقالات الفرقة ومرجعياتها الخاصة؛ فصار الولاء والبراء يمثلان سلطتين دينيتين إحداهما لها سلطان على الأتباع تفرض عليها الولاء والأخرى لها سلطان على المخالفين توجب البراء منهم وتقصيهم وتحكم بتكفيرهم ومن هنا كان أصحاب الفرق يحرصون في الغالب على ضبط بيانات خصوصية لجملة المقالات المركزية التي يبنى عليها الولاء والبراء.
وأخيراً نقول إنّ هناك بوناً شاسعًا بين سلطة الدين ودين السلطة؛ فدين السلطة هو ما يعمل على استمرارها وبقائها وخداعها وتنكرها للتاريخ ولسنة التطور. أما سلطة الدين فهي مطلقة وترعى مصلحة الأمة، وما نراه اليوم أما يبرز لنا من الدين هو دين السلطة ورجاله رجال سلطة في المقام الأول.
