مُحمَّد السالمي
في ظلِّ المتغيرات في واقع السياسة، نشأت اضطرابات عديدة في مسالك الفتوى؛ حيث إنَّ الاضطراب وَقَع من مدخلين: أنَّ الإسلام نظام شامل، وأنَّ الفقه نفسه احتوى مسائل السياسة، خاصة ما سُمِّي بالسياسة الشرعية.. ويأتي الكاتب معتز الخطيب في مقاله "الفقه والفقيه ومتغيرات السلطة"، ليسلِّط الضوء على تميُّز شمولية الإسلام، ووظيفة الفقه والفقهاء، والتمايز بين الفقه والسياسة، وأن الاضطراب الحاصل في الأدوار الآن نتيجة المتغيرات ووظيفة الفتوى ومجالها وحدودها.
أولاً: مركزية الفقه:
وفي هذا الباب، يشرح الكاتب معتز الخطيب تاريخ الفقه، وكيف استطاع أن يكون علماً مستقلاً بذاته؛ فقد شكَّل علم الفقه في تاريخ الحضارة الإسلامية أحد أبرز العلوم الإسلامية التي نشأ في ظلها عدد من العلوم؛ حيث إن الانقسام القديم الذي نشأ في نهاية القرن الهجري الأول بين من سمُّوا بـ"أهل الحديث" و"أهل الرأي"، كان في حقيقته انقسامًا داخل دائرة واحدة هي دائرة طريقة الاستنباط وبناء الأحكام الفقهية. والفقه لغةً يعني الفهم، وبمعناه الاصطلاحي هو العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، يتداخل مع الشريعة؛ فالشريعة الإسلامية هي جُملة الأوامر الإلهية التي تنظم حياة كل مسلم داخل منظومة المجتمع.
وكما يَرَى شاخت جوزيف في كتابه "تراث الإسلام"، فإن "التشريع الإسلامي يعد مثالاً لظاهرة فريدة يقوم فيها العلم القانوني، لا الدولة، بدور المشرِّع، وتكون فيها لمؤلفات العلماء قوة القانون؛ بحيث فرضت نفسها على الحاكم والمحكوم من حيث مبدأ الإجماع الذي له السلطة العليا بين أصول الفقه الإسلامي، وأيضا القول بأنَّ أساس الشريعة الإسلامية هو حُكم الله".
- ثانيًا: جدلية العلاقة بين الفقه والسياسة:
يأتي الكاتب في هذا الباب ليبيِّن الصراع الأيديولوجي، وكيفية تطوره، يُحدِّد فيه مهام الإمامة، وكيف تغيَّرت هذه النظرة مع إنشاء الدولة المدنية، كما يبيِّن تطوُّر العلاقة بين الفقيه والسياسي.
وفي ظل الصراع الأيديولوجي بين القائلين بوجوب الحل الإسلامي -أي المرجعية الإسلامية للأمة- والقائلين بالحلّ الغربي العلماني على اختلاف توجهاته الليبرالية والاشتراكية...وغيرها، يُؤكِّد الكاتب أنه لا بد من توضيح جُملة من المسائل هنا لا يتم التنبه إليها أو التفريق بينها؛ أولاها: أن الإسلام نظام حياة يشمل النشاط اليومي للمسلم، لكن التطور الذي حدث في العصر الحديث هو ذلك الانفصال بين الشريعة والسياسة في بناء وتصور ومرجعية الدولة الحديثة، وفي هذا السياق حدثتْ تحوُّلات كبيرة في وعي تلك الفكرة المركزية في الإسلام؛ فجرى الدمج بين الإسلام بوصفه نظامًا شاملاً، وبين ما سُمِّي لاحقًا بالإسلام السياسي على معنى المشاركة في السلطة.
الإسلام منذ نشأته الأولى ما قام إلا في ظل وجود دولة وسلطة حاكمة يقف على رأسها الإمام أو الخليفة، وتستند إليه في الحكم والمرجعية، وفي ظل هذه الأجواء بُني الفقه كله وخضعت أحكامه التفصيلية لذلك الأفق، غير أنَّ هذه المسألة حين تتم قراءتها وفق مرجعية علمانية تصبح معكوسة؛ حيثُ إنَّهم يحاكمونه إلى مفهوم الفصل بين الدين والسياسة، أو توسيع الدين وهي مفاهيم علمانية مستحدثة نشأت بعد ذلك بقرون!
فقد بَقِي الإمام يختص بشؤون السياسة، والفقيه يختص بشؤون الدين، حتى عهد الإصلاحية الإسلامية في تونس ومصر، وفي ظل الهجمة الاستعمارية، هنا لجأ الفقيه والإصلاحي إلى المصالح والمقاصد لبناء تلك الدولة التي تحمي الوجود والهوية كليهما. وقد تحالف رجال الحكم ورجال الإصلاح من أجل ذلك، وتم تشريع المؤسسات الحديثة من باب المصالح، وتحقيق الإصلاح الديني والسياسي معًا؛ فحدث الوصل بين الفقه والدولة، لكن ذلك لم يستمر طويلاً؛ فسرعان ما انفصلَ الفقه عن الدولة فوجدتْ النخبة الإصلاحية نفسها معزولة عن الشأن العام الذي استبدَّ به السياسي، لكن هذه المرة بمعزل عن الشريعة فاختل الفقه من أساسه. ومن هنا، نشأ التضاد بين الفئتين. ويُمكن القول بأنَّ الفقه يتناول مسائل السياسة، إلا أن تعاطيه معها هي من تدبير الشأن العام؛ لذا أوجد الفقهاء اسمًا خاصًّا لهذا أسموه "السياسة الشرعية"، وعرفها ابن نجيم الحنفي بأنها: "فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي".
- ثالثًا: ظاهرة الفتاوى السياسية وإشكالاتها:
إنَّ العلاقة بين الفقه والسياسة في الوعي الفقهي الكلاسيكي بقيت محصورة بما سُمِّي بـ"السياسة الشرعية"، قبل انفصال السلطة عن الشريعة. أما بعد ذلك، فإنَّ عمل الفقيه توسَّع مع التحول الذي طرأ على فكرة "النظام الشامل"، فنشأت "الفتاوى السياسية" التي يُخاطب بها الجمهور. وهنا، حدث اختلالٌ كبير؛ ففي التاريخ لم يكن الفقيه بحاجة إلى إصدار الفتاوى في مجال الشأن العام وفي مسائل تخص الإمام، ولكن مع غياب الإمام، وفي ظل الصراع معه توسَّعتْ دائرة عمل الفقيه لتشمل المجال العام الذي يتصارع عليه مع الحاكم المنفصل عن الشريعة.
هذا التحوُّل الجديد أفرز عددًا من المستجدات؛ فقد حلَّت الفتوى محلَّ شرعية السلطة السياسية، وحلَّ الفقيه محل الإمام الغائب منذ نشأة الدولة الحديثة في التعاطي مع المجال العام ومخاطبة الجماهير، ويُؤكِّد الكاتب أنَّ هذه المتغيرات كلها فرضت إعادة تعريف السياسة بالقول: السياسة اليوم قد أخذت معنى أوسع؛ لأنها لم تعد متعلقة بالحكام فقط، وإنما هي متعلقة بالمجتمع كله بأفراده ومؤسساته، وهذا التوسُّع في المفهوم اكتسبَ بُعدًا جديدًا مع نشأة ما سُمِّي "الإسلام السياسي".
فالإشكال الأساسي هنا في صناعة "الفتوى السياسية" هو أنها تتبنى لغة المسلك القياسي أولاً؛ من حيث بناء الأحكام الصارمة، وترتيب الإثم والثواب، وإضافة فروض جديدة على المسلم في مجال الشأن العام؛ حيث تُصبح المشاركة في الانتخابات البرلمانية فريضة شرعية مثلاً، أو فتاوى وجوب المقاطعة الاقتصادية...وغيرها، وهذه كلها فروض وواجبات شرعية بحسب تلك الفتاوى تنهض بموازاة الدولة الوطنية. ولكنها تطرح تساؤلاً عن الحدود التي تجاوزها المفتي في تحديد الفروض السياسة على الرعية، وعن موقف الشريعة الإسلامية نفسها من زيادة الفروض الشرعية، وما حُكم مُخالف تلك الفريضة الجديدة شرعًا؟ وهل يملك المفتي -بناءً على تقديره "الشخصي" للمصالح التي بَنَى عليها الفتوى الشرعية- ترتيب الإثم الشرعي على مُخالف تلك الفريضة دون وجود نصوص وحي تتناول ذلك أو تنصُّ عليه؟
والدخول في مناقشة منطق الفتاوى السياسية يكشف إشكالات عدة، خاصة إذا ما استحضرنا مُتغيِّرات الواقع الحديث الذي نشأت فيه علوم جديدة، وأدوار فكرية واجتماعية عديدة بات الفقيه واحدًا منها، فمع نشأة الفكر الحديث برزتْ مُصطلحات ومفاهيم جديدة على المنظومة الإسلامية، كالمثقف، والمفكر، والسياسي...وغير ذلك. إلا أنَّ مُشكلته مع المفكر باتت أكثر بروزًا وحضورًا؛ كونه يُنازعه في مركزيته بوصفه نواة للعلوم الدينية، ومصدر الأحكام الشرعية. كما أنَّ الانفصال بين الدين والدولة، نشأ عنه الانقسام بين الفقيه والسياسي في ظل الدولة الحديثة، ولكَوْن السياسي في الغالب دَرَس السياسة بمفهومها الغربي، والفقيه لم يدرس إلا ما يُسمَّى بـ"السياسة الشرعية"، اختلفتْ طبيعة تعاطي كلٍّ منهما مع الأحداث، وتقديره لها، بل إنَّ الأمر مع الفقيه يزيد على ذلك لأمرين؛ الأول: أنَّ السياسة بهذا المعنى هي أقرب إلى عمل السياسي الحالي، وليس إلى عمل الفقيه الذي يدور في تلك الأحكام الخمسة التكليفية، والثاني: أن فكرة المصلحة ومُتعلقاتها هي جوهر فكرة المقاصد الشرعية، والتي إنَّما توسعت ونضجت في رحم السياسة الشرعية. وهذه إشارة إلى التباين بين النزعتين: الفقهية والفكرية، وتفسيرٌ لماذا يُصرُّ الفقهاء على الدوام على أن مقاصد الشريعة إنما يقتصر دورها على مجرد الكشف عن حِكمة الأحكام الفقهية المقررة سلفًا، ولا تصلح دليلاً شرعيًّا. ويرى الكاتب أنَّ هذا التداخل بين الفقه والسياسة في عمل الفقيه -في سياق تفكك المنظومة القديمة التقليدية، التي كانت تنظِّم تلك العلاقات والاختصاصات- أسهم في إذكائه ما سُمِّي بـ"فقه الواقع" الذي لا نجد له ضبطًا منهجيًّا محكمًا. ومن المفارقة أنه تأسَّس هذا الفقه اعتمادًا على مقولات فقهية مُتأخرة، ليبقى لكل شخص تقدير ما يراه واقعًا.
