مُحمد السالمي
التنويرُ أو التحديث كلاهما يُستعمل غالبا كمترادفيْن. بَيْد أن الميل نحو الحد الأول قد يكون مدفوعا بتوخي قسط من الموضوعية، ويجد صاحبه نفسه واقعا في سرد لا ينتهي من المتشابه والمختلف من الأخبار والنصوص. أما الحد الثاني الذي يمكن أن يجد دارسُ الأنوارِ نفسَه مشدودًا إليه؛ فهو: الانغماس في التوجه المذهبي، فيعتنق مسلمات قد تكون من الأحكام المسبقة الرائجة خلال عصر التنوير أَو هي الآن بصدد الترويج عنه.
ويأتي الكاتب محسن الخوني في مقالته بعنوان "التنوير والعقل والدين" بمحاولة الوعي بهذا الإشكال؛ وذلك بطرح عدة أسئلة ومواضيع انطلاقا من الفلسفة الكانطية حول العقل والنقد دون التقوقع داخلها.. أبرزها: هل نحن مجبرون على أن نكون مع التنوير أَو ضده؟ ويتعلق السؤال الثاني -الذي يفترضه البحث في مفهوم التنوير- بإمكان فصل الغايات العملية عن الضرورات النظرية "المتعلقة بالبحث عن الحقيقة"، وهل العقل كما تصوره التنويريون واحدٌ أم متعدد؟ وهل النقد علامة على قوة العقل أم على ضعفه؟. ومن ثم يتطرق لموضوع التدين كونه يعد موضوعا جوهريا لفلسفة التنوير.
نشر كانط في مجلة (Berlinische Monatsschrift) سنة 1784 حول التنوير. ونستخلص من المقال ما يلي:
- يعرف التنوير بأنه حركة، يتم فيها التنقل من مرحلة إلى أخرى، أي من القصور إلى الرشد. أما على صعيد فلسفة الأخلاق فيعني نشأة الذات المكتفية بذاتها والمشرعة لمبادئها الأخلاقية.
- إن التنوير هو الاستعمال الشخصي للعقل دون تبعية للغير أو وصاية منه.
- يتم تعريف التنوير من منظور فلسفي لا يلغي المسافة التي تفصله عن هذا الحدث ولا يتماشى معه.
يأتي الكاتب تحت عنوان "العقل والنقد" ليعبر عن رأي كانط حول الوظيفة التي أسندها إلَى العقل أو التوجه العقلاني لعصر التنوير، والذي أكد الثقة في قدرة العقل على تطوير المجتمع والتقدم به نحو الأفضل.
فالتنوير فعل يقوم به العقل الذي تحرر من قيود الخوف والوصاية ويتسلح بشجاعة البحث الذاتي عن الحقيقة. وهكذا يعد اعتماد منهج النقد علامة على نضوج العقل وانخراط معتنقه في العصر المستنير؛ لذلك لا يكون امتلاك المعارك دليلا على الخروج من القصور لأن ذلك قد لا يعبر إلا على رزوح تحت عبء التبعية، فكثرة المعارك قد تؤدي إلى كسل صاحبها وخوفه من استعمال عقله بنفسه. وهذا ما قصده كانط عندما نفى إمكان تعلم الفلسفة في الوقت الذي أقر فيه إمكان تعلم التفلسف. فعقل التنوير طاقة وحركة وفعل ووظيفة، ويعبر كانط عن ذلك بصورة جلية في تصوره للفلسفة. والتفلسف هو جوهر الفلسفة فهو فعل عقلي يظهر في النقد الذي لا يحيل إلَى كائن بقدر ما يحيل إلَى وظيفة. أما مهمة النقد، فهي امتحان قدرة العقل وحدوده.
وتحت عنوان "للعقل استعمالان"، يأتي محسن الخوني ليعبر عن مفهومين أساسيين لدى كانط حول استعمالين مختلفين للعقل؛ هما: الاستعمال الخصوصي والاستعمال العمومي للعقل، والاستعمالان يجيبان عن السؤال الخاص بعلاقة النظرية بالممارسة في فضاء الدولة والمجتمع.
يتعلق الاستعمال الخصوصي للعقل ببعض الوظائف التي يتوقف عليها تحقيق مصلحة المجموعة؛ إذ هي تتطلب بعض الآلية، وتقتضي أن يكون سلوك الأفراد المعنيين بهذا الاستعمال خلال قيامهم بوظائفهم مجرد انفعال حتى تتمكن الحكومة بواسطة نوع من الإجماع الاصطناعي من توجيههم نحو الغايات العمومية أَو من منعهم -على الأقل- من الإضرار بها. ويمنع كانط في مجال الاستعمال الخصوصي للعقل عن الفرد التفكير الحر؛ لأن الطاعة هي رد الفعل الوحيد إزاء الأوامر حتى لو كانت لا تتماشى مع الفكر الحر؛ ذلك هو شأن رجل الدين الذي ينشر تعاليم كنيسته، أَو أيضا شأن المواطن الذي تأمره حكومته بدفع الضرائب. كل هؤلاء يعدهم كانط قطعا تتكون منها الآلة الكبرى، أي آلة المجتمع المدني. لأن سير شؤون الدولة يشترط أن يتصرف كل موظف في حدود ما يؤمر به. وهذا هو واجب العقل في الدولة. إنه حبل يوثق الأفراد حتى يتيسر سير شؤونها.
ولكن ذلك لا يمنع المرء بوصفه كائنا عاقلا يتمتع بحق التفكير الحر أو التفسلف أن يتصرف كعالم من خلال رسالته باستعمال عقله العمومي. يتبين لنا إذن محافظة كانط، من خلال استعمال العقل، على مسافة واضحة بين التفكير الحر وطاعة السلطة؛ إذ على الفيلسوف؛ بوصفه مواطنا أعلى سلطة عقله على كل السلطات، أن يوجد المعادلة الصعبة بين الخضوع "للقانون" وحرية النقد. وهذا ما يجعل العقل العمومي مهددا دوما بالتهميش من قبل من بيدهم النفوذ السياسي، وحبيس الفضاء الضيق الذي يتحرى داخله، ونقصد به فضاء الجمهور القارئ والنير.
وتحت عنوان "نقد الدين"، يُحذِّر محسن الخوني القارئ من الوقوع في التعميم المتسرع؛ فالموقف التنويري من الدين غير متجانس بين التقاليد التاريخية الأوروبية. لكن الأكيد أن الدين أصبح أحد أهم المواضيع التي يُطْرَحُ التنويرُ من خلالها. وعندما نربط التنوير بنقد الدين والذي اتخذ في أوروبا شكل العلمنة واللامسيحية، فإن معارضة التنوير قد اتخذت على شكل دحض النقد الموجه إلَى الدين وتمجيد المسيحية. وقد شهد عصر التنوير انتشار حركات أصولية معادية للتنوير. فقد انتشر الجانسيون مثلا في فرنسا، وكما نما في بداية النصف الثاني من القرن الثامن عشر عَدَاءُ الفلاسفة التنويريين لرجال الدين المسيحين ثم تأصل ليتوجه بالذات ضد الدين المسيحي. كما شهدت إنجلترا حركات دينية وحروبا دينية نتجت عنها الثورة الإنجليزية والتي أفرزت نظاما ملكيا دستوريا يقوم على مبدأ التسامح الديني للمواطنين، نجد صداها في رسالة جون لوك في التسامح.
لقد رفض كانط أن تكون المواضيع الدينية الجوهرية -مثل: الله، وخلود النفس، وحرية الإنسان- قابلة للمعرفة النظرية؛ لأنها ببساطة أشياء في ذاتها غير خاضعةِ لأُطُرِ المعرفة الحسية من زمان ومكان، وجعلها في مستوى مسلمات العقل العملي الذي يبني عليهَا الواجب الخلقي. موقف كانط هذا كَوَّن له أتباعا، كما أثار ضده خصوما لعل أهمهم هيجل، الذي اعتبر أن "كانط" قد أحَط من قيمة العقل لما أنكر قدرته على تكوين معرفة عن الله الذي هو الرمز الديني للمطلق. والمطلق هو -في نظر هيجل- موضوع العقل وقمة الفلسفة بامتياز. لقد جعل كانط -في نظرهيجل- العقل متسولا أمام المطلق. وهكذا كسر هيجل الحدود التي بناها كانط بين العقيدة والعقل، وظن أنه قد أوجد بذلك السلم النهائي بين ملكات الوعي.
وفي عنوان "مسألة الفلسفة والدين راهنا" يأتي الكاتب لذكر نموذجين من الفكر الراهن حول التنوير؛ أولهما: يواصل النقد الجذري للتنوير "ليو شتراوس"، والثاني والذي يمثل امتدادا للفكر التنويري "هابرماس وراتزنجر".
1- لقد انطلق ليو شتراوس في مشروعه الفلسفي من التسأول عن الحداثة والأنوار: هل هي واحدة أم متعددة؟ وقد استند إلى التقليد الفلسفي اليهودي والفلسفة الإغريقية واستهدف سيبنوزا بنقده. ويعتبر شترواس أن الحداثة قد قامت على أحكام مسبقة عديدة؛ أهمها: تحويل الله إلى تمثل أو مجرد فكرة واعتقاد استحالة العودة إلى الفلسفة (الما قبل حديثة). وعلى عكس المحدثين يؤكد شتراوس أن المخرج الوحيد من الأزمة التي آلت إليها الحداثة، يتمثل في العودة إلى فلسفة ما قبل الحداثة.
2- الصنف الثاني يمثل التيار الحداثوي، والذي يمثله الفيلسوف يورجن هابرماس، ورجل الدين راتزنجر. حيث إنَّ الأول يدافع عن فكرة أن الحداثة مشروع لم يكتمل بعد ولم يتبين فشله بعد على خلاف شترواس. ويرى هابرماس أنه لا يحق للمواطنين المعلمنين عندما يحسنون القيام بوظيفتهم السياسية إنكار الحقيقة الكامنة في الصور الدينية للعالم. ومن جهة أخرى، يتفق راتزنجر على أنَّ الكنيسة الكاثلوكية أصبحت تتعلم من النقد مشددا على دور العقل في تصحيح للباتولوجيا الدينية.
