أحمد المكتومي
بعد سقوط أكبر الدول الإسلامية قامت في أوروبا (الأندلس)، تستعيد المسيحية الكاثوليكية سلطتها وقوتها ولكن بسبب بعض الأيديولوجيات التي كانت تهز رأي العامة قام بعض المعترضين بإنشاء مذهب عقلاني يعطي الفرد الحرية في الجانبين الروحي والمادي على حد سواء وهو المذهب البروتستانتي. حسن حنفي صور لنا المشهد من جانب الأيديولوجيات الدنية والأفكار الاقتصادية في مجلة التسامح بمقالة "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" التي عرض فيها بعض الشوائب في أفكار العالم الألماني ماكس فيبر.
البروتستانتية هي أحد أكبر المذاهب المسيحية التي انتشرت من أوروبا إلى أميركا ثم الهند وهي من أكثر المذاهب التي تمتلك الثروات والنفوذ ورجال الأعمال. الأمر الذي جعل فيبر يحاول في دراسته ربط الدين بالاقتصاد ولكنه من وجهة نظر حنفي لم يوفق، لأنه ميّز المجتمعات الأوروبية إلى طبقات متبعا بذلك المدرسة الماركسية التي لا تستقبل أي فقير أو ضعيف في المجتمع المدني. فبينما يحلق فيبر في سماء الرأسمالية والدين يحارب المجتمع الأوروبي تارة باسم الدين وتارة أخرى باسم المال. ماكس فيبر هو أحد مؤسسي علم الاجتماع الوصفي وهذا الأثر كان متجليا في دراسته عن البروتستانتية أنّها أخلاق وعن الرأسمالية أنّها الروح. لقد عاش فيبر حقبة التطور الصناعي ومثل المشهد في داخله بمثالية مطلقة حيث كانت معظم دراسته في كيفية عبادة الله في الرأسمالية وعبادة الرأسمالية في الله، الأمر الذي انعكس على السلوك الديني وعلى النمط والوقائع التي يعيشها المجتمع. حسن حنفي عرض جزءًا بسيطا ومؤثرا للغاية حول التراث الإسلامي القديم طامحا بذلك إلى إخراج بعض أفكار فيبر في موضوع الأخلاق البروتستانتية التي تصعب على البروتستانت نفسهم وعلاقة البروتستانت برأس المال.
بعد هذا التطور السريع الذي شهدته القارة الأوروبية وانتشار الرأسمالية في أنحاء العالم وولع العامة بالتجارة والمال أدرك فيبر أنّ النظام الصحيح لمعرفة الله هو الرأسمالية وأكثر ما شد انتباهه أن معظم الثروات والنفوذ ورجال الأعمال هم من البروتستانت فما الذي أعطى البروتستانت هذا القدر من الثقل في العالم؟ والغريب أيضا أنّ الكاثوليكية هي أقدم بكثير من البروتستانتية فمالبروتستانت.. الدين والاقتصادا الذي جعل البروتستانت أكثر عظمة وسلطة.
البروتستانت أعطوا أنفسهم الحرية في العبادة والحرية في العيش الرغيد وهذا ما خالفه الكاثوليك الذين لا ينظرون إلى المادة بل إنّ الاعتكاف والنظر إلى السماء هي أسمى آيات النضج الروحي وأن المادة هي مصيرها الفناء كما أوضحه الفلاسفة الروحيون. إذا كان هذا التعليل صحيحا فكيف لا تزال الكاثوليكية صامدة ولا زال معتنقوها مخلصين لهذا المذهب. إنّ الزوايا التي رأى منها حسن حنفي إلى البروتستانتية وعلاقتها بالاقتصاد ولعله كان قد بدأ بالقارة الأوربية جعلته يفتش في ماهية البروتستانتية والرأسمالية من حيث المتجه الفكري، والمصدر الذي انبثقت منه وذلك من خلال التعليلات الآتية:
أولا: لقد ظهرت البروتستانتية لكسر الزيف الديني ونشر الفكر الحر في فهم وتفسير الكتاب المقدس ورفض أي سلطة بين الإنسان وربه. ولكن هل فعلا البروتستانتية عندما خرجت على الكاثوليكية كان هذا هدفها؟ أم أنّها كانت تهرب من الضريبة التي تدفعها للرومان؟ أي أنّ الألمان والرومان يجمعهم دين واحد نقي وهذا ما يجعلهم منفتحين على المسيح في روما. إذن الصلة موجودة بين الدين والاقتصاد ولكنها قريبة من الاستغلال منه إلى الانفتاح الاقتصادي.
ثانيا: هناك فروق شاسعة بين البروتستانتية الألمانية عند لوثر والبروتستانتية الفرنسية عند كالفن والبروتستانتية السويسرية عند زفنلجي وكل منهم يفسر الوجودية والعبودية بطريقته الخاصة. الغريب أنّهم متفقون في النظام الاقتصادي كالرأسمالية والتنظيم العقلي للعمل الحر وكأنّ العقيدة لا تؤثر على النظام الاقتصادي. ألا يدل ذلك على أنّ النظام الاقتصادي له مؤثرات أخرى غير العقيدة؟.
لو أمعنا النظر في الرأسمالية لوجدناها وليدة المناطق الأكثر تصنيعا كما دونه بعض الفلاسفة مثل بوكله وماثيو ارونولد، أي أن التصنيع هو الظرف المناسب لنشوء الرأسمالية، ولكن فيبر يعزو الأمر إلى التميز الحضاري والديني وما عداه ليس مؤثرا، وهذا نقيض ما قاله حسن حنفي إذ أنّ الهجرة والعوامل التاريخية والمستعمرات والمدن الساحلية التي أسفرت عنها تجارة البحر ساعدت على نهوض وانتشار الرأسمالية.
في أوج انفجار العالم الغربي بالرأسمالية وازدياد كمية العمالة التي أدت إلى انخفاض كمية الإنتاج لعب فيبر في مفهومي الرسالة والمهنة. فالعمل هو الرسالة والمهنة. كل هذا من أجل تخفيض مرتبات العمال لأنّه من وجهة نظرة لا يهم في الرسالة الأجور المرتفعة كما أنّ المرتب الذي تحصل عليه ليس لأنّك قمت بالعمل بل إن كل الأعمال التي تقوم بها هي نتاج عن تربية دينية مستقيمة. فالتربية الدينية هي وسيلة لتربية الاقتصادية، إذ يصبح العمل وازعًا خُلقيا شريفًا وليس العمل من أجل كسب المال. حيث استغل فيبر هذا المعنى المزدوج لمفهومي المهنة والعمل من أجل أن يعطي الرأسمالية دفعة روحية جديدة بالالتجاء إلى الدين، تمامًا مثل الفكرة التي انبثقت من فم هيجل في نظرية الهدم والبناء؛ وذلك لتكوين روح الجدل عند الإنسان ومصيره وطبيعته وإمكانياته. لقد اعتبر الكثيرون أنّ لوثر و فيبر هما شريكان في دعم الرأسمالية، ولكن الحقيقة أنّ لوثر هو من حارب الرأسمالية عن طريق محاربة الربا والمؤسسات الاستغلالية المركزية ولكنه اتفق مع فيبر في جعل العمل خلقا دينيا متمسكا بذلك بمقولة المسيح لربه (أعطنا قوتنا اليومي) ومن هذا المنطلق قدس البروتستانت المهنة أيما تقديس.
إنّ أغلب التفاسير التي يقدمها فيبر بين يدينا هي محاولات لربط الزهد الروحي بروح الرأسمالية حيث استند أولا على أنّ العامل المشترك بين كل الأديان هو حرية التصرف بالمال والثروات الفردية، وثانيا أنّ جميع الأديان توصي بالاهتمام بالوقت وأن ضياع الوقت من أكبر الخطايا والوقت هو المال كما فسّره بنيامين فرانكلين، وثالثا أنّ العمل كما تعتبره الرأسمالية هو عنوان وانعكاس على الزهد والتقوى وهذه إحدى أوامر الله. حيث ترى البروتستانتية أنّ الزاهد يعبد الله من خلال العمل وهذا دليل ساطع على الإيمان الصحيح.
لم يقتصر فيبر على ربط الزهد بالرأسمالية بل أقحم الأخلاق العلمانية حيث يشارك الزهاد في إعمار العالم الجميل في النظام الاقتصادي الحديث وبذلك تكون (أحد عناصر الرأسمالية الحديثة هو السلوك العقلي القائم على مفهوم المهنة الصادرة عن روح الزهد المسيحي). إن كل المحاولات التي غذاها فيبر من مخزون أفكاره ما هي إلا لإثبات أنّ البروتستانتية هي العقيدة الأم التي خرجت منها العلمانية والرأسمالية ولكنه فشل تماما لأن البروتستانتية ما هي إلا ردة فعل وليست فعلا مفتعلا. فالمسيحية التي ادعت أنّها تملك الدين وأن حياة الفرد هي لله أصبحت تلتهم وتبحث عن المادة وهذا أيضا نتاج ظهر كردة فعل وليس فعلا. إذن في نهاية المطاف الذين يدعون الزهد في المسيحية انقلبوا على أعقابهم باحثين عن المادة مخلفين وراءهم الروح والعبادة وما الزهد إلا ستار يحجب ما تخفيه صدورهم.
إنّ الأوضاع الروحية التي تمتعت بها الطبقة البرجوازية في نشر الدعوة للتقوى أعطت فيبر ثقة في بث روح الرأسمالية. مما عرفته هذه الطبقة من السلطة والثروات حيث إنّه كلما زاد الشعور بالغنى زاد الإحساس الديني . وكما أسلفنا فإنّ كل هذه المحاولات هي من أجل أن يكون الدين والمادة ينطلقان من نفس النقطة فإلى أي مدى يمكن ربط الروح بالمادة وهل انتهى الجدل بين الفلاسفة الروحيين والفلاسفة الماديين؟
إنّ أحد أسباب انبعاث الرأسمالية هي الطبقية التي لطالما أرهقت بدن الأديان ومزقت الأمم. وكان هذا جليا في تقسيم فيبر البروتستانتية إلى أربع فرق وهي: الكالفينية والقنوط والمنهجية وأخيرًا العمادية، محاكيا بذلك ما فعله أفلاطون في تقسيم العالم إلى قسمين: العالم الكامل والعالم الناقص، حيث رتب الموجودات المفارقة حسب درجة الكمال وأيضًا قسم الإنسان إلى أقسام وعلى هذا النحو تصبح الطبقية هي الأساس النفسي والميتافيزيقي للرأسمالية. ولن يتم التخلص من الرأسمالية إلا عند اقتلاع التصور الهرمي للعالم من جذوره وهذا لن يتم إلا بعد ثورة فكرية دينية تسحق بذلك الطبقية من الوجود.
