أمجد سعيد
في المقال البحثي لمحمد بركات مراد والمعنون بـ"ابن رشد بين النهج الإسلامي والتوجه الإنساني"، والذي ذَكَر في أول سطوره المؤرخ الفرنسي الشهير إرنست رينان -أو رينو، كما يحلو للبعض، والذي عُرف بتمرتب الأعراق- نجد أنَّ ما يُلحم ابن رشد ورينان هو كتاب رينان "ابن رشد والرشدية"، والذي لم يكن لابن رشد نصيب الأسد فيه، إنما رينان استخدم -أو لنقل بصورة أكثر تناسبا مع الأهداف، إنه وجد- نقطة البداية للتطرق إلى الشق الذي وُجد عند الغالبية العظمى ولم يُوجد إلا عند النزر القليل وهو علاقة الفلسفة بالدين، هذه الفجوة المتعرِّجة هي التي تشكل المعضلة الكبرى لدى ابن رشد، وتأتي انتفاضة رينان لتمنحه موقف المُمحِّص في تاريخ الرشديه وتأثيرها في الفكر المسيحي الغربي؛ في مقاربة ما بين ابن رشد كفيلسوف إسلامي وبين مرحلة انهيار الحضارة الإسلامية، فكان هجوم رينان قد وَجَد بيئته المناسبة لكي يتفاقم وينمو فيها متبوعًا بمؤرِّخين وباحثين كُثر، بعضهم انتعل خفي رينان والبعض الآخر سار بخفين جديدين وراء التغلغل والكشف في دهاليزالرشدية، ونذكر منهم: دي ولاف، وفان شتينبيرجن، وبيكافيه، وهنالك باحثون آخرون ممن يقفون أكاديميا على استكمال الرشدية اللاتينية لتوضيح وتفنيد تاريخ الفلسفة الغربية.
وعلى النقيض تماما، نرى أنَّ الفرنسي ليون جوتييه الذي انتعل خفين مُختلفين تماما لرينان وأنصاره، وسار في دربٍ مُعاكس لسيرهم، فقد كان لجوتييه مسبار مُختلف يسبر به تاريخ ابن رشد وأسلوبه الفلسفي في أنه "فيلسوف توفيقي في المقام الأول" على نقيض تأويل رينان لابن رشد بأنه "مجرد شارح لأرسطو بلا أصالة ولا ابتكار"، وقد يعتبر البعض أنَّ ابن رشد -أو إفيرويوث باللاتينية- هو التلميذ النجيب لأرسطو، ولكن يجب أن نأخذ بالحسبان الفرق الهائل بينهما فيما يقارب الـ16 قرنا.
ولم يقفُ جوتييه على قاعدة ثابتة إلا عندما وَجَد مناصرين لمنظوره نحو ابن رشد -منهم مستغربون ومستشرقون- أمثال: مونتجمري وات، وبرنشفيك، اللذان وافقا جوتييه في أن ابن رشد فقيه وأنه فيلسوف اجتماعي لزمن الموحدين في بلاد الأندلس كما أشار مونتجمري.
انسلختْ عن رؤى بعض المستشرقين رؤية رينان لابن رشد، عندما قُوبِلت بالبحث والتمحيص الموضوعي والدراسات العلمية الفلسفية؛ فكانت لابن رشد منهجية عقلانية توحيدية تؤمن بالتجربة والملاحظة الدقيقة، وهنا بدأت قواعد العلوم الطبيعية بالتثبت والرسوخ، في حين أنَّ ابن رشد له جانب آخر صارم التزعزع وهو الحتمية الشاملة، وقد توصل إلى هذه النظرة من خلال مفهوم السبيبة والعللية، ودعم مُحمَّد بركات مراد مقاله بالمقارنة ما بين ابن رشد وتوماس الأكويني "عالم الملائكة" الفيلسوف اللاهوتي الذي بدوره أيضا قدم شروحات لمؤلفات أرسطو، وقد تبيَّن للباحثين أن توماس الأكويني كابن رشد ليس مجرد شارح لأرسطو، بل هنالك بعض الأصالة في طرح مسائل فلسفية لاهوتية، وهناك تبنٍّ لمسائل طبيعية وما بعد طبيعية، ولكن نتاج المقارنة قدَّم لنا الاختلاف الكبير بين الرشدية والتوماوية، وهو أن ابن رشد يندرج ضمن الخطاب الإسلامي العربي، أمَّا الأكويني بصفته قسًّا للكنيسة الكاثوليكية؛ فهو يندرج ضمن الخطاب المسيحي اللاهوتي، وأيضًا ابن رشد كان يُعنى بالأشياء الطبيعية، وقد كرَّس منهجيته لفهم ضرورة الطبيعة، وهو ما مهد الأمر لجاليلو جاليللي لتفسير الظواهر الديناميكية وحصاد تفسيرات أنطلوجية. أمَّا الأكويني، فقد انحصر اهتمامه في العالم الأعلى أو العالم الآخر؛ فيهتم بالملائكة وحياتهم، وهو ما يشكل منهجاً معارضاً لفلسفة ابن رشد.
شرح ابن رشد لمؤلفات أرسطو جاء برؤية فلسفية عقلانية مُتفرِّدة عن عصره، وتضمنتْ أفكاراً مخالفة للأفكار العقائدية للدولة، وأيضا المنحى النقدي الذي تبنَّاه ابن رشد ضد الأفكار السائدة آنذاك وضد الفرق الكلامية العربية والإسلامية المسيطرة في ذلك الوقت، وهذه دلالة واضحة من ابن رشد على شجاعته الفكرية والمنهجية في خضم دَحض الفلسفة ومتعاطيها، وبلغ الحذر مبلغه عند ابن رشد عندما أنْكَر تعاطيه الفلسفة أمام الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف المنصور، إلى حين أن الخليفة طمأن ابن رشد بأنه لوحده يتعاطى الفلسفة، إلى أن نكبه مرة أخرى بداعي الضلال والهرطقة إلى بلدة يهودية في قرطبة؛ فهذا ما شحذ همة ابن رشد إلى التوسع في الفلسفة وتمكين العقل في إدراك المحسوسات والنظر في النصوص الشرعية والعقائدية نظرة عميقة بدلا من التأويل اللاعقلاني؛ لذلك نجد أنَّ العقل يحتل المكانة الأولى في فلسفة ابن رشد وتوجهه الإنساني. أما مشكلة النسبية في العلوم والمعرفة الإنسانية، فهي تتلخَّص في السببية، ولكن بطريقة تُمكِّن للعقل أن يكون البؤرة فيها "فمن يرفع الأسباب يرفع العقل؛ لذلك العقل هو بؤرة إدراك الموجودات والتي بدورها أسباب وعلل لكل الأشياء الطبيعية وهنا يبرز مبدأ الشك لدى ديكارت الذي من جانبه شكك في كل شي لإدراكه وهو النقيض للوليد ابن رشد ومشابه لابن سينا، ولكن ديكارت وجد ضالته وهي الشيء غير القابل للشك وهي الأنية أو الذات، وهنا قد توصل ديكارت إلى أنَّ الأنية منفصلة ومستقلة استقلالا تاما عن الجسد، وهو الاستنتاج المشابه لنظرية الرجل المعلق لابن سينا، والتي تقود إلى إدراك الأنية، ولكن وجه ابن رشد نقدا لاذعاً بسبب هذه النظرية، والتي هي مخالفة لفلسفته فيقول: لا يُمكن للأنية أن تُثبت إلا بالغيرية. فابن سينا يُرجِّح أنَّ إيجاد الأنية يبدأ من العقل وحده، أما ابن رشد فيؤكد أنَّ إثبات الأنية لا يمكن أن يكون بالتفكير العقلاني المحض والمعزول؛ إذ لابد من بناء جسر ما بين العقل والموجودات من حوله، ومن هنا يُمكن إثبات الأنية بالغيرية، ولدى ابن رشد شرطان أساسيان لإثبات وجود الأنية؛ الأول: وجود الموجودات خارج النفس، والثاني: نشاط العقل الإنساني والذي يعقل نفسه بعقله للموجودات من حوله.
ومن مُنطلق تأسيس ابن رشد للمعرفة الإنسانية، نراه قد تربَّص للميتافيزيقا الخاصة به لينشئها مخالفة تماما لميتاقيزيقيا ابن سينا والمشائية العربية، الثورة الفلسفية الأعظم التي قام بها أبو الوليد ابن رشد تنص على أن الأنا أو الذات لا يمكن إدراكها من خلال التفكير المحض المنغلق، بل من خلال جعل الموجودات مرآة للتفكير العقلاني وتنشيط العقل؛ لكي يُثبت أن الصور الهيولانية هي بالفعل موجودات حقيقية.
