أزمنة القرآن

أمجد سعيد

إنَّ المسألة التاريخية من أكثر الموضوعات التي حَفِل بها القرآن الكريم؛ فالقرآن الكريم دائما ما يوجِّه أنظار قارئيه إلى استنطاق التاريخ واستقراء الحوادث، ومحاولة فهم هذه الحوادث فهما يُمكِّن من معرفة حركة الوجود وطبيعة الحياة. يناقش محمد الناصري في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم"، الذي يأتي تحت عنوان"القرآن الكريم والتاريخ الإنساني" حقيقة أساسية، تبرُز بوضوح في القرآن الكريم، هي أن مساحة كبيرة من سوره وآياته قد خُصصت للمسألة التاريخية التي تأخذ أبعاداً واتجاهات مختلفة، وتتنوع بين العرض المباشر والسرد القصصي لتجارب عدد من الجماعات البشرية، وبين استخلاص يتميز بالتركيز والكثافة للسنن التاريخية التي تحكم حركة الجماعات المختلفة عبر الزمان والمكان. تبلغ هذه المسألة مبلغاً عظيماً في القرآن؛ حيث إنه لا تكاد تخلو سورة من إحدى الإشارات لواقعة تاريخية أو إشارة سريعة لحدث ما أو قانون يُسهم في تشكيل إحدى الحركات التاريخية.

 

ويملك القرآن تصورا للتاريخ يعتمد على ثلاثة عناصر؛ هي: الزمان والمكان والفكرة. أما الزمان فينقسم إلى ثلاثة أقسام: الزمان ماقبل التاريخ أو ما فوق التاريخ، والزمان الطبيعي، والزمان التاريخي. ويقصد هنا بالزمان ما فوق التاريخ هو ما يذكره القرآن من خطابات وإشارات وقصص عن عوالم الملائكة والجن، عن آدم في الجنة وعن الجنة والنار، وعن القيامة والمصائر الكونية والإنسانية. ويسمى ما فوق التاريخ لأنه لا يرتبط بحقبة زمنية معينة، كما أنه ليس له أية علاقة بمكان محدد؛ فالزمن الإنساني هو شكل من أشكال الحالة/الوضع أو العدد أو الخطاب الذي يؤطره المكان، وليس الأمر كذلك في الخطابات القرآنية بشأن العوالم أو الذوات أو الأشياء الأخرى؛ غير أن هذه الزمانيات التي تحدث ما قبل الزمن الإنساني أو بعده لا يحكم عليها بالصحة من عدمها من طريق ارتباطها بالمكان؛ لأنها في الأصل غير مكانية، وإنما تتجلى أهميتها في التصورات الكلية التي تريد تثبيتها فيما يتعلق بالكون وقدرة الله عز وجل، كما تتجلى الأهمية في الفكرة التي تريد تثبيتها عن خلق الإنسان ومصائره ووظيفته في العالم. وهكذا؛ فالزمان ما فوق التاريخي يقوم على الغائية ويملك وظائف تصورية وأخرى تفسيرية، ولكلا الأمرين أبعاد رمزية كبرى. أما الزمان الثاني في القرآن، فهو الزمان الطبيعي، وهو يظهر في النصوص التي تتحدث عن خلق العالم والإنسان، وهذه النصوص متصلة بفيزياء العالم وبأيديولوجيا الكائنات وهي طبيعية وليست تاريخية رغم حدوثها في هذا العالم؛ لاستنادها إلى قوانين ثابتة تضمنها قدرة الله وإرادته، ولا مدخل للإنسان في تكوينها الأول، وإن أثر المكان والإنسان في مراحل تطورها. هذا النوع من الزمان تاريخي بالمعنى العام لأن محتوياته تحتوي على بداية محددة، كما أنه قابل للدراسة والتفحص بالمعنى العلمي، ورغم ظهوره وإدراكه وتثبيته تحت المجهر؛ فإن القصد القرآني ليس لتتبع فسيولوجياته أو كيميائياته بل، للاستدلال على وجود الله وقدرته وإحكام صناعة الخلق. ونأتي هنا للنوع الثالث من الزمان والذي تمت تسميته بالزمان التاريخي، فهو يحدث في المكان ويتضمن وقائع معينة. والقرآن في هذا الصدد واضح لسببين؛ الأول: هو القصص والعبر المتعلقة بالنبوءات والأمم، والسبب الثاني: ضرورة إفادة النبي والمسلمين منها بالإقبال على اعتناق دعوة النبي لكي لا يصيب المسلمين مثل ما أصاب الأقوام المخالفة للرسائل السابقة لأنبيائهم. والقرآن بوصفه كتابا دينيا يرى العالم في هذا الإطار؛ أي أنه صراع بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، ولسوف ينتصر الخير بالتأكيد إذا أفاد معاصرو دعوة النبي من الماضي وتاريخ الدعوات، وإذا ما التزموا بالمبادئ الكبرى للدعوة.

لعلَّ الذي يُضفِي طابعاً من التفرد والموضوعية الحضارية على فكرة التاريخ في القرآن هو أنه ينبثق عن رؤية الله، وهي تختلف عن الرؤية الوضعية؛ وذلك لأنها تحيط علما بوقائع التاريخ، بأبعادها الزمنية الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل، وببعدها الرابع الذي يغيب كثيرًا عن ذهن الإنسان مهما كان على درجة من البصيرة والذكاء؛ إنه البعد الذي يغور في أعماق النفس البشرية؛ فيلامس فطرة الإنسان وتركيبه الذاتي والحركة الدائمة في كيانه الباطني ويتسرب بعيدا صوب اهتزازاته العقلية والوجدانية، وإرادته المستقلة، وما ستؤول إليه هذه المعطيات كلها لتمنح التاريخ أبعاده الحقيقية، ويمتد لكي يشتبك في العلاقات الشاملة للمصير؛ ذلك أنها رؤية الذات الإلهية التي وسعت كل شيء علماً، ولهذا صنعت الواقعة التاريخية ووضعتها في مكانها الطبيعي من خارطة التاريخ البشري والكوني على حدٍّ سواء، ولكن الرؤية الوضعية تمتد إلى الماضي لتقتبس منه، وتختار ما يعزز وجهات نظرها المسبقة، والرؤية القرآنية تحيط بالماضي لكي تكثفه في قواعد وسنن تطرح أمام كل باحث في التاريخ يسعى إلى فهمه، وإلى أن يرسم على ضوء هذا الفهم طرائق حياته الحاضرة والمستقبلة، على أساس أن الأزمان الثلاثة هي وحدة حيوية تحكمها قوانين واحدة كتلك التي في الحياة.

... إنَّ القرآن حين يعرض مسألة تاريخية مرتبط كل الارتباط بالخارطة الكونية وصيرورة الكائنات، فهو لا يتحدَّث هنا عن مجموعة من الأحداث التاريخية المجزأة، بل على العكس تماما، فهو يعرضها كلها كوحدة كلية مرتبطة بعضها البعض، وهذا العرض المتناسق هو ما يُؤهِّل ويسمح بتوليد الأفكار واستخراج المعاني والمعايير والقوانين التي تساعد الإنسان على تفكيك واستنباط الروابط التاريخية من منظور القرآن ذاته؛ فلهذه الفترات التاريخية المتعاقبة كإطار واحد مكتمل تفاعل وتكامل، ومن هذا المنطلق يمكن الرجوع والتقدم والسفر إلى أزمان لا يمكن تأطيرها لمعالجة بعض مشكلات الحضارة والإنسان.

أخبار ذات صلة