منى أحمد أبو زيد
يتناول هذا الكتاب «الاستغراب» باعتباره علاقة متبادلة بين الشرق والغرب. فهناك آلاف الكتب والدراسات والبرامج والأفلام تقول- جميعًا وعلانية- إنّ الغرب يكره العرب، وإنّ المقولة التي أطلقها الروائي والشاعر البريطاني «رديارد كيبلنغ»: «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا» هي أكثر من حقيقة متمثلة فيما يفعله الغرب منذ الحروب الصليبية وصولاً إلى ما فعله من تمكين الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وتدمير العراق وليبيا واليمن وصناعة «القاعدة» و«داعش» إلى آخر تلك القنابل الذاتية.
ولم يعُد الغرب يخفي برامجه ومخططاته، وصار العبث في الشأن العربي يُبث على الهواء مُباشرة.. صارخًا أن الغرب يكره العرب. ويتجلى هذا في تبخيس أسعار الخامات العربية، وسرقة العقول والمواهب، والإرهاب المُباشر وغير المباشر، والتلويح الدائم بسيف العقوبات، وفرض التبعية إلى آخر تلك الشواهد التي تؤكد أن الغرب يكره العرب.
ومؤلفا هذا الكتاب هما: إين بوروما، وأفيشاي مارغاليت. الأول كاتب وأكاديمي وُلد في عام 1951 وهو مُقيم حاليًا في الولايات المتحدة ويُعد من المثقفين الغربيين البارزين. أما الآخر فقد وُلد في عام 1939 بفلسطين وحصل على بكالوريوس الفلسفة والماجستير والدكتوراه من الجامعة العبرية بالقدس، ووصل في المناصب الأكاديمية إلى أستاذ كرسي للفلسفة. وكان مارغاليت أحد زعماء حركة «السلام الآن» الإسرائيلية. حيث شارك في تأسيس المجلس الإسرائيلي للسلام الفلسطيني/ الإسرائيلي في عام 1975.
يتكوَّن الكتاب من ستة فصول. يعرض الفصل الأول «الحرب على الغرب». ويتناول المؤلفان الأسباب الداعية إلى كراهية الغرب. وأن من يكره الغرب الآن هم جماعات متعددة نظروا إلى الحضارة الغربية باعتبارها حضارة مدمرة تعمل على تقويض قوى الإبداع وآلياته. حضارة مبنية على قوة التمويل الرأسمالي اليهودي. فالغرب- وبخاصةً الولايات المتحدة الأمريكية- في نظر الأعداء يُعد كيانًا آليًا باردًا لا حياة فيه.
والنفور من العالم الغربي قد جذب المسلمين من ذوي النزعة الراديكالية صوب إيديولوجية إسلامية تجسد الولايات المتحدة على أنّها رديف للشيطان. وهذه الرؤية يتقاسمها أيضًا غُلاة القوميين الصينيين فضلاً عن بلدان أخرى من العالم غير الغربي.
وبالطبع تختلف الأسباب الداعية إلى كراهية «الغرب» باختلاف الفصائل. فالاتجاه اليساري المعادي للإمبريالية الأمريكية مع الإسلامويين الراديكاليين يمقتون الانتشار العالمي للثقافة الأمريكية وتوغل نفوذ الشركات الأمريكية.
ويصف المؤلفان هذه الصورة للغرب بأنها صورة لا إنسانية بشعة رسمها أعداء الغرب له، وهو ما أطلقا عليه مصطلح «الاستغراب»، وهدفهما من هذا الكتاب دراسة حزمة الآراء المجحفة المتحاملة، وتتبع جذورها التاريخية، وهذا لا يعني اختزال كل الكراهية في مقولة ساذجة تختزل ظاهرة «الاستغراب» في القول بوجود «مرض» في قلوب الشرق أوسطيين.
ويؤمن المؤلفان بأن «الاستغراب» مثله في ذلك مثل «الرأسمالية» أو «الماركسية» أو العديد من مذاهب حديثة أخرى- قد نشأ في أوروبا ثمّ تمّ تصديره إلى أنحاء متفرقة من العالم. وكما كان «الغرب» مهدًا لحركة «التنوير»، وما تفرع عنها من مذاهب ليبرالية ومشارب علمانية، فقد كان أيضًا منبعًا لأعراضها الجانبية السامة.
إن الإشكالات المعاصرة للاستغراب عادةً ما ينصب تركيزها على أمريكا ومعاداة كل ما هو أمريكي وهو- في بعض الأحيان- نتيجة لسياسات أمريكية بعينها، كدعم أمريكا الديكتاتوريات لمجرد كون تلك الديكتاتوريات مناهضة للشيوعية، أو دعمها لإسرائيل أو لصندوق النقد الدولي أو لشركات متعددة الجنسيات، أو أي كيان يمكن إدراجه تحت اسم «العولمة». تلك «العولمة» التي عادةً ما يُنظر إليها كاختزال للإمبريالية الأمريكية أو تجسيدًا لها. وقد يكون البعض- فيما يرى المؤلفان- معاديًا للولايات المتحدة نظرًا لمجرد كونها بالغة النفوذ مرهوبة الجانب. والبعض الآخر يستاء من حكومة الولايات المتحدة لأنها تمد يد العون للمعارضين، أو تقوم بمهمة حماية البعض. وهناك من يكره أمريكا لخذلانهم حين يُرجى منها العون.
إنّ أحد وجوه فهم «الاستغراب» هو تتبع تاريخ جميع ارتباطاته ومشتركاته من حركة «الإصلاح المضاد» و«التنوير المضاد» في أوروبا إلى مختلف أشكال الفاشستية والاشتراكية القومية في كل من الشرق والغرب، إلى حركات مناهضة الرأسمالية ومناهضة العولمة، وأخيرًا إلى موجات التطرف الديني التي تمور في غير موضع من عالم اليوم.
والغرض من وراء كتابة هذا الكتاب يكمن في محاولة فهم دوافع «الاستغراب» وإبراز أن الانتحاريين والجهاديين لا يعانون مرضًا بعينه، بل ينطلقون وفق أفكار لها تاريخ، وهذا التاريخ ليس له حدود جغرافية معينة، فالاستغراب قد يزدهر في أي موضع من العالم.
ويشير المؤلفان إلى أن اليابان كانت ذات يوم موضعًا لاستغراب قاتل مُدمر، وأصبحت اليوم تندرج في معسكر من يستهدفهم الاستغراب. فالفهم لا يعني التماس العذر بمثل ما أنّ التسامح لا يعني النسيان. ولذا يهدف المؤلفان إلى فهم هؤلاء الذين يكرهون الغرب من العالم غير الغربي.
ويتناول الفصل الثاني «المدنية الغربية»؛ هذه المدنية التي تعبّر عنها حضارة الولايات المتحدة، والتي كان تدمير برجي التجارة العالمية هو انعكاس لصورة الكراهية لهذه الحضارة.
ويطرح المؤلفان سؤالاً: متى تم تصوير «المدنية» كتجسيد بغيض للجشع والإلحاد؟ إن المدن الكبرى لم تكن حكرًا على أوروبا أو الولايات المتحدة. فالمسلمون- عادةً- لم يضمروا كراهية أو بغضًا للمدن الكبرى. بل تم الترويج، في بدايات عصر الدولة الإسلامية، للتحضر والتمدن، ولقرون طويلة، كانت بغداد والقسطنطينية مراكز للتعلم والعلم والمتعة.
ثم جاء عصر الإمبراطوريات الذي جعل من أوروبا مركز المتروبوليتاني المسيطر على المحيط الذي جرى اختزال معظم بلدان العالم فيه. وعلى امتداد التاريخ، عمدت المجتمعات المسيحية والإسلامية إلى الربط بين اليهود وبين آليات التجارة والتمويل بتلك المجتمعات حيث كانوا ماثلين على الدوام في الرؤى المعادية للرأسمالية.
إن اليهود والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا.. كانوا- جميعًا- موضعًا للكراهية، لا فرق بين هذه وتلك. فقد كانت ألمانيا النازية- فيما يدعي المؤلفان- مثلها في ذلك مثل الإسلامويين المعاصرين نموذج صريح سافر للاستغراب المُدمر في قلب القارة الأوروبية.
ويأتي الفصل الثالث بعنوان «أبطال وتجار». ويعرض هذا الفصل مسلك من يضحي من أجل إحياء الأوطان. وهو مسلك الأبطال. ومسلك من يتخذ من الوطن مجالاً لتكنيز الأموال والتجارة. ويذكر المؤلفان أن التضحية بالنفس ليست حكرًا على الإسلامويين. وأن عقيدة الموت ليست حكرًا على الشرقيين. ففي تشرين الثاني/ نوفمبر 1914، شن الجيش الألماني سلسلة من الهجمات اليائسة على البريطانيين في «فلاندرز» حيث قتل أكثر من 145000 جندي، كثير منهم كانوا متطوعين من صغار السن ينتمون إلى منظمات وطنية للشبيبة.
ويفسر المؤلفان نشأة «حركة الحشاشين» التي تزعمها «حسن الصباح» بأنها جاءت نتيجة ثورة فارسية ضد الهيمنة العربية، فيما تذهب آراء أخرى إلى إرجاع سبب النشأة إلى حرب بين مالكي الأراضي ضد الحكام في المدن. ومثلت هذه الحركة حالة عنف واتخذت أشكالاً شاذة، وكان مآلها الفشل والإخفاق.
ومنذ القرن التاسع عشر وصاعدًا، شرع الحكام في مصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي في تبني المفاهيم الأوروبية الخاصة بالقوانين الوضعية والحكم الدستوري.. وتم الربط ما بين الغرب وعبادة المال. ودعا المسلمون الراديكاليون في الهند ومصر وغيرهما إلى الجهاد ضد تيار التغريب وعملائه من اليهود، وإلى مقاومة حكام البلدان الإسلامية الذين أفسدتهم الممارسات الأوروبية، فظهر الإخوان المسلمون في مصر في 1928، وحزب الله اللبناني الذي قضى على 220 فردًا من المارينز في تشرين الأول/ أكتوبر 1983. وتبنى الفلسطينيون تلك الوسائل الانتحارية أيضًا، فالذين يتمنطقون بأحزمة ناسفة ومتفجرات عادةً ما يكون الثأر هو دافعهم لما يقدمون عليه.
ويقدم الفصل الرابع صورة عن «عقلية الغرب». ويرى المؤلفان أن عقلية الغرب لديها القدرة على تحقيق إنجاز اقتصادي عظيم، والقدرة على تحديث التقنيات المتطورة، والترويج لها، إلا أنها تقصر عن إدراك الأمور العليا في الحياة، فهي تفتقر إلى الروحانيات وإلى فهم المعاناة البشرية.
والعقل الغربي من وجهة نظر أعدائه هو عقل أبتر.. حاذق في إيجاد أفضل الطرق لتحقيق هدف ما، ولكنه عاجز بالكلية عن إيجاد الطريق الصحيح. ومزاعم الغرب بشأن اتسامه بالعقلانية والرشادة هي حقيقة غير مكتملة. والإنسان الغربي وفقًا لهذا المنظور، هو جسد موفور النشاط لا يكل ولا يمل في سبيل إيجاد الوسائل السلمية للوصول إلى غايات ونهايات خاطئة.
وعلى النقيض من «العقل الغربي» نجد «الروحانيات الروسية».. ذلك الكيان الصوفي الذي أرساه المثقفون على مدار القرن التاسع عشر. إن عشق الروس لروحهم وروحانياتهم هو التجسيد الأمثل للصورة التي يحتفظ بها «المستغربون» وهي صورة تبنتها أجيال متعاقبة من المثقفين في بلدان كالهند والصين والبلدان الإسلامية.
ويعقِّب المؤلفان على هذا التصور بأن عقلانية المرء تفترض التدبر والحصافة ورجاحة العقل وامتلاك نزر يسير من بصيرة ونظر في العواقب. فالعقلانية تفترض الرغبة في الاستماع إلى صوت المنطق، وإتيان أفعال مبنية على دوافع وأسباب واضحة جلية، ووفقًا لهذا الطرح تكون «العقلانية» و«الرشادة» مترادفتين.
و«الاستغراب» قد ينظر إليه على كونه تعبيرًا عن الاستياء الشديد من الاستعراض الكريه الذي يمارسه «الغرب» لإثبات تفوقه وتفرده. ذلك التفوق المبني على التفوق المزعوم للعقل والمنطق. ويؤكد المؤلفان أن ما يُعد أكثر هدمًا وتقويضًا من الإمبريالية العسكرية.. إمبريالية العقل التي فرضت من خلال الترويج للمنهج العلمي البحت والإيمان بأن «العلم» هو السبيل الأوحد لإحراز المعرفة.
إن حقيقة كون المنهج العلمي البحت قد تمّ تبنيه بحماسة شديدة من قِبَل الإصلاحيين الراديكاليين في العالم غير الغربي قد أجج عداءات المحليين بشدة، إذ إن العدو المباشر للمستغربين، عند الإسلاميين الثوريين، لم يكن دائمًا هو «الغرب» بعينه بقدر ما كان أولئك «المقلدين للغرب» في مجتمعاتهم ذاتها.
وعنوان الفصل الخامس «ذلك الغضب الإلهي». ويعتقد المؤلفان بأن الحرب التي أُعلنت على «الغرب» باسم «الروح» الروسية، و«العرق» الألماني، و«الشيوعية» و«الإسلام» كانت دوافعها مختلفة، كان بعضهم يحارب من أجل أمة معينة أو عِرق بعينه، أو من أجل عقيدة دينية أو معتقد سياسي.
وأشهر دوافع الكراهية من قِبَل «المستغربين» كانت بسبب عوامل دينية، والإسلاموية باعتبارها أيديولوجية، لم تتأثر كلية بالأفكار الغربية. إذ كان التأثير جزئيًا، فتصوير الإسلاموية للحضارة الغربية على أنها «بربرية وثنية» هو إسهام جوهري أصيل لتاريخ حافل من «الاستغراب» وهو ما يذهب إلى أبعد من التجاهل القديم الذاهب إلى أن الغرب يعكف على المال وأسباب تحصيله ليل نهار. إن النزعة الوثنية وتقديس الأشياء هي أبشع الخطايا الدينية وأشنعها. لذا فمن الضروري محاربتها بكل ما أوتي المؤمنون الخُلص من قوة وعزيمة.
ويقدم المؤلفان نماذج لهذا الاتجاه الرافض للغرب على خلفية دينية، مثل الدكتور «علي شريعتي»، أحد أقطاب الإسلام الثوري في إيران. حين سعى إلى استخدام بعض أطروحات الماركسية كمنهج إسلاموي نقدي للغرب. وقد عزا «شريعتي» الكثير من العلل إلى الغرب، وإلى ما كان يستورد من قِبَل البلدان الخاضعة لنفوذه.. ومن بين هذه العلل: الإمبريالية والصهيونية العالمية والكولونيالية، والشركات متعددة الجنسيات، إلا أن العلة الأدهى هو الاتباع الأعمى للحضارة الغربية دون أدنى تمييز أو بصيرة. وكذلك كان «سيد قطب» وهو أحد أقطاب حركة الإخوان المسلمين المصرية التي انضم إليها أعقاب عودته من بعثته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وعمل بدأب شديد لإرساء أيديولوجية إسلاموية قادرة على مجابهة الأيديولوجيات الرئيسة للغرب.
ويأتي الفصل السادس والأخير ليتحدث عن «بذور الثورة». وفي هذا الفصل يتحدث المؤلفان عن بذور الثورة على الغرب ويُرجعا بعضها إلى معاملة إسرائيل للفلسطينيين إذ إن ما يشهده المرء يوميًا، لرجال فلسطينيين وهم وقوف عند نقاط التفتيش الإسرائيلية والشمس تلهب بسياطها الرؤوس، وجند إسرائيل يمارسون إساءاتهم المتكررة لهم، كل هذا يفسر بعضًا من مرارات الانتفاضات. وأن إسرائيل نفسها قد أضحت هدفًا رئيسًا لثورة عربية عارمة على الغرب. ذلك الغرب رمز الوثنية والغطرسة، رمز التفسخ الأخلاقي وموبقات الكولونيالية. ذلك الغرب الذي يراه أعداؤه سرطانًا لابد من استئصال شأفته.
ويدعي المؤلفان أن الغرب ليس في حالة حرب ضد الإسلام، وأن أعتى المعارك وأشرسها سيقيض لها أن تجري داخل العالم الإسلامي وهو المكان الذي يشهد اندلاع الثورة، وهو المكان الذي يجب أن يتم إخماد الثورة فيه، ومن الأفضل أن يتم ذلك دون أي تدخل خارجي، بل من قِبَل المسلمين أنفسهم.
---------------------------------------------------------------------
الكتاب: فقه الاستغراب: الغرب في عيون أعدائه
تأليف: إين بوروما و أفيشاي مارغاليت
ترجمة: أحمد جمال أبو الليل
إصدار: سطور الجديدة- القاهرة، ط 2016م.
عدد الصفحات : 272 صفحة
أستاذ الفلسفة الإسلامية- كلية الآداب- جامعة حلوان- القاهرة.
