لقاءات على مفترق الطرق

غلاف كتاب لقاءات في مفترق الطرق.jpg

يفغيني بريماكوف

فيكتوريا زاريتوفسكايا (أكاديمية ومستعربة روسية)

 يُعد الأكاديمي يفغيني مكسيموفيتش بريماكوف (1929-2015) أحد أكثر الشخصيات السياسية سرية في روسيا نهاية القرن العشرين/ بداية القرن الواحد والعشرين. بدأ حياته العملية كصحفي في منطقة الشرق الأوسط، ثم ترأس معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية الذي كان في العهد السوفيتي يعُد تقارير سرية لقيادة البلاد، واليوم يحمل المعهد اسم بريماكوف. ولفترة طويلة تبوأ بريماكوف منصب مدير معهد الاستشراق في أكاديمية العلوم الروسية. قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي، إبان فترة حكم ميخائيل غورباتشوف، وبعد تحول النظام من الشمولي إلى الديموقراطي في عهد الرئيس بوريس يلتسين، أنيطت به رئاسة هيئة المخابرات الخارجية ومن ثم حقيبة وزارة الخارجية. وفي منصب رئاسة الوزراء ما انفك ينادي بإنقاذ البلاد من الركود الاقتصادي.

  امتلك يفغيني مكسيموفيتش شعبية واسعة لدى المواطنين الروس بصفته خبيرًا وسياسيًا متزناً ورجل دولة من الطراز الرفيع، كما حظي بالاحترام كمستعرب له علاقات شخصية بزعماء العالم العربي مثل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وملك الأردن حسين بن طلال، وإجرائه لقاءات ومحادثات مع الرئيس العراقي صدام حسين والليبي معمر القذافي والمصري أنور السادات. وقد أثار الإعجاب بمواقفه الحازمة التي أقدم عليها ومنها تحويل طائرته فوق سماء الأطلسي والعودة إلى بلاده، حيث كانت متجهة إلى واشنطن في زيارة رسمية وذلك احتجاجاً على القصف الأمريكي لبيلغراد عام 1999، من دون قرار أممي؛ هذا الإجراء الذي يعده علماء السياسة بداية لاستعادة روسيا دورها الذي فقدته بعد انفراط الاتحاد السوفيتي، ومحاولة منها لكسر سياسة القطب الواحد، كما يعتبرونه رسالة روسية إلى القوى العالمية بعدم التعامل مع روسيا بمنطق القوة.

   في كتابه الأخير "لقاءات على مفترق الطرق" والذي يمكن وصفه كخلاصة لتجربة كبيرة، يتحدث بريماكوف عن سلسلة من الأحداث السياسية والتاريخية التي كان شاهداً عليها أو شريكا مباشرا في صياغتها. لقاءات على مفترق طرق، هي لقاءات المؤلف بشخصيات محورية ومواجهته لمصائر كبرى تشكلت عبر رحلة الحياة الطويلة. وربما كان من الأصح والأقرب إلى متن الكتاب أن يكون العنوان: لقاءات في البؤر – بؤر السياسة العالمية حيث تنبثق القرارات التي تؤثر على حياة الملايين إن لم يكن المليارات من البشر. ومن بين المواضيع التي وقعت في مركز اهتمام المؤلف نذكر منها: العلاقات المعقدة بين روسيا والغرب في القرن العشرين ولا سيما علاقتها مع الولايات المتحدة، وتوسع الحلف الأطلسي نحو الشرق، والعقيدة الأمنية التي يتبناها الحلف، والأعمال الحربية في كوسوفو (النزاع الصربي الألباني)، والنزاع الأرمني الأذربيجاني في مرتفعات قرة باغ الذي اندلع من جديد في ربيع هذا العام، وتأثير عائلة الرئيس الروسي بوريس يلتسين والطبقة الأوليغاركية الجديدة على قرارات الرئيس نفسه، والانكفاء المفاجئ للرئيس يلتسين عن السلطة، وإعلان بوتين خليفة للحكم في روسيا، وتسوية الخلاف بين الحكومة والمعارضة في طاجيكستان ودور إيران فيها، والفرص الضائعة لتسوية الأزمة الفلسطينية الإسرائيلية، و"عقم وبطلان" تواجد الجيش السوفيتي في أفغانستان، ووقف "الجرح الدامي" في الشيشان، وتعثر وآفاق رابطة الدول المستقلة التي ظهرت كبديل للاتحاد السوفيتي.

   يتساوق حجم الكتاب الذي تربو صفحاته على ستمائة صفحة مع الطرح التفصيلي الذي انتهجه المؤلف، لا سيما في حواراته التي أوردها الكتاب مع شخصيات كانت مؤثرة على الصعيد السياسي والدبلوماسي والاقتصادي العالمي مثل وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت، والرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش، والسكرتير العام للحلف الأطلسي خافيير سولانا، والمدير العام لصندوق النقد الدولي ميشيل كامديسو وغيرهم.

   قد يجد القارئ العادي من طريقة بريماكوف التي تتوخى الدقة والإحاطة التفصيلية والمعمقة في وصف لقاءاته ومحادثاته الدبلوماسية، وزياراته الرسمية والسرية، وعملية الإعداد لها، قد يجدها أمرًا روتينيا وزائدا عن المادة الأصلية للكتاب، إلا أنّ الكتاب موجهٌ (كذلك، وربما بدرجة أكبر) إلى شريحة الخبراء ممن لهم اهتمام جدي بالسياسة وفضول للسير في أروقتها المتشابكة. إذ يفتح بريماكوف لشريحة المُهتمين بالسياسة بابًا واسعًا وطريقاً متشعبة في عالمها وذلك استنادا إلى تجربته الشخصية ورؤيته التي انبرت وتشكلت عبر رحلة طويلة في عالم السياسة. 

   يعتمد الكاتب بساطة الطرح طريقة وأسلوبا لتأليفه. فعندما نقرأ، على سبيل المثال، حواراته مع شخصية بمستوى وزير الخارجية الأمريكي نشعر بأنّه يدعونا للمشاركة في العملية السياسية العالمية، التي عادة ما تكون محجوبة عن الأعين. وهو بهذا يُبين عن شخصية متواضعة لا تترفع على القارئ ولا تستنكف النقد الذاتي إذا تطلب الأمر ذلك. يقول في هذا السياق: "أعدت قراءة المخطوط وفكرت في أن أضع حداً لنشر محادثاتي مع القادة الغربيين، ولكني تراجعت عن ذلك. فتلك نقاشات وحوارات تقوم مقام الوثيقة الحية، وشهادة تاريخية على زمنها، ومن خلالها يمكن استظهار نسيج العلاقة الروسية الغربية إبان المنعطفات الخطيرة، وأزمات ما بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من التناقضات الشتى التي قد تعترض مقارباتي لتلك الأزمات، إلا أنني ارتأيت إدراجها في الكتاب وعدم المساس بها" ((ص 519)).

   يعد رسم سياق الأحداث التاريخية وربطها بالأحداث الراهنة، واحد من أجود الطرق التي استأنس بها بريماكوف في تأليفه للكتاب. فرب ظاهرة أو قضية بدأت وتطورت في ثمانينات أو تسعينات القرن الماضي، ولكنها تتشكل أمام القارئ وتتضح معالمها من خلال مقاربات يجريها الكاتب مع مجريات الأحداث الراهنة. مثال على ذلك أزمة القرم التي برزت عام 2014، حيث يقود المؤلف قارئه إلى الجذور التاريخية لهذه القضية ويثبت له أنّها لم تظهر من فراغ.        ينطوي الكتاب على مسائل إنسانية عامة، وثمة إشارات جمة، سواء أكانت واضحة للعيان أو مختبئة خلف السطور، تؤكد على أنّ السياسة، قبل وبعد كل شيء، ما هي إلا فعل إنساني قد تشوبه الأخطاء ويعتريه النقصان. ومن بين المسائل التي وردت في الكتاب، خيانة الوطن، وهي مسألة تعامل معها بريماكوف وهو في منصب مدير المخابرات الخارجية. فإلى جانب شرحه لمفاهيم المخابرات، نماذجها وأصنافها، وأهمية العمل التحليلي المخابراتي، يولي المؤلف أهمية للجانب الأخلاقي في العمل الاستخباراتي ويقيم وزناً لنواحيه الإنسانية وللضعف الذي قد يعتري عملاء المخابرات باعتبارهم بشرا في المقام الأول.

   لا يهتم المؤلف باستبيان الوقائع السياسية في القرن العشرين وحسب، وإنما أيضًا يتفحصها بموجب نظرة إنسانية تنبني على مفاهيم العدالة والسلام وانتهاج الطرق المؤدية إلى الحلول الوسط. فالكتاب مليء بالأفكار السياسية الإنسانية - إن صح التعبير - التي تروج لمفاهيم السلم واستخدام اللغة السياسية لحل القضايا العالقة بين الدول وإيثار المحادثات المشتركة بدلًا من القوة العسكرية. يقول في هذا الصدد عن تطوير العلاقات الروسية الإيرانية: "إن زيارتي الأولى غير الرسمية إلى طهران عام 1993، وزيارتي الثانية بصفتي مديرا للمخابرات الخارجية في فبراير عام 1995 أكدتا قناعتي بضرورة تطوير العلاقات مع هذه الدولة، ليس على الصعيد الاقتصادي وحسب، وإنما كذلك على الصعيد السياسي. فلا يجب أن تكون في العالم أية دولة منبوذة. وأرى أن إهمال العلاقات السياسية مع طهران وعدم الاستفادة منها كفيل بإضعاف الجهود لإحلال السلام في طاجيكستان (في إشارة إلى الحرب الأهلية الطاجيكية 1992-1997)". ((ص 172))

   يعبر بريماكوف عن الأحداث من خلال مؤشر استيعابه الشخصي لها. يشاطرنا ذكرياته الخاصة؛ كيف امتنع عدة مرات عن منصب رئيس الوزراء، ثم كيف أعطى موافقته لذلك في ممر مبنى الحكومة وهو يغادره. كيف تحمل الحرب الإعلامية التي شنها عليه بعض الإعلام التابع للأوليغاركية (طبقة السلطة الثرية). تلك الحرب التي وإن كانت لم تفت من عضده، إلا أنها آلمته وحركت لواعجه؛ يدل على ذلك تذييله لكتابه بمجموعة شعرية حملت عنوان: "ما يعتمل في روحي".

  وبفضل الذكريات التي سكبها على الورق، يقدم لنا بريماكوف صورا إنسانية لمجموعة من القادة: فيديل كاسترو الذي اقترح للوزير السوفيتي قطع زيارته إلى كوبا (الهادفة لتسوية أزمة صواريخ كوبا) والعودة إلى موسكو لحضور جنازة زوجته. فلاديمير بوتين وهو جالس على مقعد رئيس الوزراء مهنئا بريماكوف بيوبيله، وذلك رغمًا عن الأجواء المتوترة بين بريماكوف من جهة ويلتسين وحاشيته من جهة أخرى. ملك الأردن زائرا بريماكوف الذي كان متواجدا في المملكة وقتذاك ما تسبب في إحداث بلبلة بين حراسه الشراكسة، وغيرها من الصور التي أبرزت الجانب الإنساني لعدد من الشخصيات العالمية.

   كما يعرض الكتاب، لأول مرة، عددًا من النقاط السياسية ذات الصبغة العالمية في القرن العشرين والتي بقيت طي الكتمان: صعوبة إجراء المحادثات في هذه القضية أو تلك، كيف يلجأ أحد الطرفين إلى مط المحادثات عمداً أو ينحرف عنها بلا سبب يذكر. الأسباب الحقيقية وراء بعض قرارات الرئيس الروسي... إلخ.

   من الملامح الجلية والجذابة في أسلوب المؤلف أنه، وحين يتحدث عن عالم الدبلوماسية والسياسة، غالبا ما يضع نفسه في قلب الحدث ويستخرج الحجج والبراهين من صلب تجربته الحية، رامياً من وراء ذلك، سواء بقصد أو بدون قصد، تقديم مثال ساطع للدبلوماسي الحذق والسياسي المخضرم الذي يصل إلى هدفه بروية وصبر، والذي يطمح إلى تحقيق مصالح بلاده وشعبه من غير أن ينسى أو يستهين بمصالح الآخرين.

   وبصفته مستعرباً كان لابد من بريماكوف أن يعرج على منطقة الشرق الأوسط ويخوض في مياهه المضطربة. فبعد عدد كبير من أعماله عن تاريخ المنطقة المعقد، يعود في كتابه الجديد للحديث عن أهم المنعرجات الحادة التي شهدتها المنطقة، لا سيما أزمة العراق والحرب التي شنتها الولايات المتحدة عليه والتي، حسب الكاتب، كان من المُمكن تجنبها. يناقش أسباب دخول الجيش الأمريكي إلى العراق وجهود وزارة الخارجية الروسية للحيلولة دون ذلك، محاولة إقناع الولايات المتحدة بأن الحرب ستؤدي إلى نتيجة واحدة وحسب وهي زعزعة الاستقرار في المنطقة.

   يضع المؤلف التحولات السياسية الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، سواء الخارجية منها أو الداخلية، في بؤرة اهتمامه. يعيد التفكير في الإصلاحات التي طرأت على جهاز الاستخبارات الخارجية، ويشير خاصة إلى قسم تحليل المعلومات الذي أنشئ إبان ترؤس بريماكوف نفسه للجهاز، وكانت من جملة مهامه، نشر تقارير دورية عن عمل الجهاز تتسم بالحياد والموضوعية الكاملة في تعاطيه مع بلدان العالم وقادته مهما كانت العلاقة التي تجمع روسيا بهذا البلد أو بذلك الزعيم.

   ينتقد بريماكوف انتقاداً تحليلياً أفعال الرئيس الأول لروسيا الجديدة بوريس يلتسين والموجهة ضد الحزب الشيوعي الروسي، حيث اعتمد فيها سياسة إضعاف الحزب واستبعاد الخبراء من مكتب الحكومة لمجرد أنهم ينتمون إلى الحزب الشيوعي. وفي المجمل يضمن الكاتب كتابه نظرته التحليلية العميقة لتلك الفترة الانتقالية والمضطربة من تاريخ روسيا، أي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وما شابها من تناقضات وضبابية وذلك قبل أن تتضح الرؤية وتعود عجلة الحياة إلى الدوران.

   لا ينفك الكاتب يفند المقولات والأفكار التي تثير المخاوف من روسيا وتحاول ربطها بتدهور الاستقرار العالمي. وبهذه المسألة بالذات يختم كتابه، موصياً كل من يتحاور مع روسيا أو عنها أن يضع النقاش في نصابه الحقيقي. يقول في آخر الكتاب: "لا يجب أن تقترن روسيا القوية اليوم بتهديدات الاستقرار العالمي، ومن يعتقد أن ثمة تهديدا يأتي منها فهو واهي التفكير وغير ملم بالواقع الروسي مُتعدد الأوجه وبقواه الداخلية المتحركة والمتطورة. إن النظرة الصائبة إلى روسيا تنبع من كونها سندا أساسياً لحل القضايا الإنسانية في عالمنا المضطرب".

  في الختام تجدر الإضافة أن كتاب بريماكوف "لقاءات على مفترق الطرق" نموذج نادر لكتب المذكرات والوثائق التحليلية التي صيغت بروح أدبية شائقة. أما الأسلوب، وعلى الرغم من صرامة المواضيع التي يدور الحديث عنها، فإننا نلاحظ أنّ الانطباعات الإيجابية، والإشراقات التي بثها المؤلف في كتابه، هي ما سيتمثل لذهن القارئ ويلامس نفسه.

   من أعمال يفغيني مكسيموفيتش بريماكوف المتعلقة بالاستشراق: "بلدان الجزيرة العربية والاستعمار" (1956). "الشرق الأوسط: "خمس طرق إلى السلام" (1974). "شرح الأزمة في الشرق الأوسط" (1978). "قصة مؤامرة: سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط في السبعينات وبداية الثمانينات" (1985). "سوريا: الشرق الأوسط على الخشبة وخلف الكواليس" (2006).   

---------------------------------------------------------------------

عنوان الكتاب: لقاءات على مفترق الطرق

سنة الإصدار: 2015

بلد الإصدار: روسيا

دار النشر: سنتربوليغراف

المجال: تاريخ

السلسلة: سلسلة قرننا العشرين

اللغة: الروسية

عدد الصفحات: 607         

أخبار ذات صلة