ما بعد إسرائيل نحو تحول ثقافي

Picture1.png

سعيد بوكرامي

يعتبر كتاب ما بعد إسرائيل – نحو تحول ثقافي لمارسيليو سڤيرسكي، الذي ترجمه إلى العربية المترجم سمير عزت نصار وقام بمراجعته حسام موصللي كتابا فريدا؛ لأنهُ يناقش منذ البداية وعلى نحوٍ مثير للجدل فكرة أن المشروع السياسي الصهيوني غير قابل للإصلاح، وأنّه الوحيد الذي يؤثّر سلباً على حياة المستفيدين منه وعلى ضحاياه أيضاً، لكن بالمقابل يهدف الكتاب إلى خلخلة الأفكار الصهيونية المهيمنة، باجتراح موقف معاكس وصادم، يسمح لليهود الإسرائيليين بأن يكتشفوا- إن هم أرادوا- الآليات الفكرية التي تمكنهم من تجريد أنفسهم من الهويات الصهيونية؛ وذلك عبر الانخراط الفعلي بالأفكار والممارسات والمؤسسات المنشقّة عن تلك الهويات. وإذا استمر الوضع الحالي، كما هو الآن، فلن يكون هناك حل سياسي مطروح في الوقت الراهن، ولا في المستقبل، يمكنه أن يوفّر الماهيّة الثقافية اللازمة لإحداث تحوُّلٍ على أساليب بقاء دولة إسرائيل وسبُل الحياة فيها. يرى الكاتب أنّ إنتاج المعدّات والتكنولوجيا العسكرية التي تُساعد إسرائيل على السيطرة على حياة الفلسطينيين، بسياسات الفصل العنصري وقوانينه والمساحات المخصصة لليهود وللفلسطينيين، ترتبطُ جميعاً بإنتاج ذوات الصهيونيّة وأنماط وجودها. إنّ التغلُّب على أنماط الوجود هذه هو "ما بعد إسرائيل". وقبل أن يصحبنا الكاتب للتعرف على حالة هذا "المابعد"، يعود بنا إلى الحالة الإسرائيلية الشاذة عالميا محددًا سمات هويّتها المبنية على جنون الاضطهاد والعظمة والارتياب. ومن أجل فقط خدمة الفكرة/ الأيديولوجية الخطأ.

ويظهر ذلك بصورة أوضح في نزعة إسرائيل إلى الاضطهاد، ماضياً وحاضراً، ويتمثل أيضا في الطريقة التي جُرّد بها الشعب الفلسطيني من حقّه في أن تكون له حقوق، خصوصاً بعد عنف سنة 1948 الذي أدّى إلى قيام الكيان الإسرائيلي. ورغم توفر الدلائل الأرشيفية المجرِّمة، والدلائل الإحصائية والفهم الجديد لعلاقات القوة، لا يستطيع الإنسان سوى أن يستغرب كيف تتمكّن عقول مرتكبي هذه الجرائم من أن تستوعب الفداحة والإفراط في استعمال قوة الاضطهاد منذ ابتداع الاسطورة" أرض الميعاد" والطرد والشتات" وختاما "الهولوكوست" التي حاولت أن تجد ضحاياها من الفلسطينيين، لتكريس منطق القوة والبطولة ويتم هذا بخطط مدروسة تعتمد الإقصاء الجدي والبنيوي. يسوق الكاتب معتمدًا على ملاحظات الباحثة الجمالية أريئيلا أزولاي، التي لاحظت أنّ الإسرائيليين اليهود تدربوا من قبل النظام على ألا يحددوا هوية الكارثة، وألا "يدركوا هم أنفسهم بأنهم أولئك الذين أوقعوا كارثة كهذه أو أنهم مسؤولون عن نتائجها"، ولا أقلّ من هذا بأن يتعرّفوا على الكارثة بأنها خاصة بهم، مع أنّها أي الكارثة تفسّر بكونها امتيازهم وسر أسطورة تفوقهم. لا يتفاجأ الكاتب من حقيقة عدم سؤال المستعمر الكولونيالي عن مصدر سلطته وامتيازه؛ مع أنّ التآمر هي الطريقة التي بُني حسبها عجزهم في المكان الأول. أو بصيغة أخرى، ماذا بشأن عقل المضطهد الجماعي الذي يحوّل العجز إلى ردود فعل متعصبة لا تفكر البتة في عواقب ذلك الاضطهاد والتكاليف التي تجبر الضحايا من الفلسطينيين على دفع ثمن خرافي، ثم الإصرار على المقاومة والانتصار؟

يثير الكاتب في السياق نفسه أن في كتابات كثيرة حاولت أن تستحضر أدلة وشهادات وتقارير عن الجمهور الإسرائيلي وكيفية تورطه عاطفياً، وقد أثارت فعلا بعضَ الاهتمام من طرف الرأي العام. ولا يزال بعض الإسرائيليين اليهود مهتمّين حقاً. لكن يبدو أنّ المجتمع الإسرائيلي اليهودي قد لقَّح نفسه بنجاح ضد التفكير الأخلاقي والسياسي. وهكذا، ولأنّ وجود هذا الاضطهاد مدين إلى أفعال إسرائيل من الاضطهاد على الأرض، فإنّ صناعة المعرفة عن الاضطهاد الإسرائيلي تدور في متاهة دون أن تثير اهتماماً أخلاقيّاً. أصبح هذا النتاج المنطقي جنساً، يُؤخَذ كحقيقة مسلَّم بها، وأنّ هناك قليلين لا يزالون يقلقون أنفسهم؛ كي يلاحظوه. بات قدر ما يهمّ هذا المجتمع الإسرائيلي اليهودي بطموحاته الراديكالية أن يجِهضَ أي عملية ثقافية لإحياء الضمير ومباشرة النقد الذاتي. بكلمات أخرى، ربما بناء مجتمع مسالم. إنّ النقد الذاتي خطوة مهمّة لفهم علاقات السلطة في المنطقة والتحوّلات المحتملة، الموصومة أساسًا برواية اضطهاد الإسرائيليين، التي لا يرفض الإسرائيليون الإصغاء إليها. ولهذا يقول الكاتب: "وحتى نساعد الناس على الإصغاء، ونلهمهم على التفكير بالتحوّل والشعور به، فإنّ مجرد كشف أوصاف الاضطهاد الذي أشار إليهم بأنّهم هم الأنذال، ليس بكاف قط. ويَنصبُ الناس جدرانَ عقلية وعاطفية ومنطقية لحماية أنفسهم من أن يُحاسَبوا عن أفعالهم. فالإسرائيلي اليهودي، بتحمّله تلك المسؤولية يعني ضغط تقصيراتهم في صورتهم الذاتية، إضافة إلى المخاطرة بخسارة الامتياز، لذلك فبعض الإسرائيليين اليهود يقلّلون - إلى أدنى حد - أهميّة العذاب الذي يُتَّهمون بأنهم يسبّبونه، بينما ينشغل آخرون في تبرير أفعالهم.."

ولتكريس حوار الصم يدعي الاستراتيجيون الصهاينة أن شريكاً فلسطينياً مناسباً، لم يظهر بعد. وهناك مشكلة ثانية: تقدّم روايات اضطهاد المضطَهَدين مع الأمور المرعبة الواقعة، كأنهم ليسوا مرتكبيها، بل رعايا، سبق، وتجهّزوا، وتلاءموا لإجراء تغيير على ما أوقعوه. لكنهم ليسوا كذلك. في تكوينهم الحالي، هم مجهّزون وملائمون لرفض الآمال الإصلاحية لحكاية الاضطهاد. بكلمات أخرى، يرى الكاتب أن حكايات الاضطهاد تُفرّق - بالأساس - بين الأمور المرعبة الواقعة عليهم والخواص التاريخية والثقافية لمستمعي هذه الأمور. إنّ تحرير رواتهم من الوَهْم هو علامة لعماهم الخاص. تبدو أنّ الكتابات التقليدية عن الاضطهاد تفترض وجود ارتباط طفيف بين العمليات التي تصبح بها الممارسات الحقيقية مضطَهِدة والعمليات التي يقوم بها فاعلو هذه الممارسات خارج إطار التجريم والتحريم والمحاسبة. ويلاحظ الكاتب أنّه لم يعد أمراً حاسماً الاستمرار في تسجيل الحاضر، وتكوين مفهوم عن ممارسات الاضطهاد الذي يناقش الآن. لكنْ الهدف فعلاً هو التأثير على الإسرائيليين اليهود في تحوّلهم الخاص، وهذا يحتاج إلى حلفاء، ووسطاء جدد.

تتمثل مساهمة هذا الكتاب في وضع تصور نقدي مخلخل. يراهن فيه الكاتب على منهجية تسير في اتجاه نقد الذات الإسرائيلية ومحيط وجودها المضطرب: "أنا أسمِّي القراءة التي أقترحها: "البَوْطَلَة النقدية" (نسبة إلى البطل (. هذه هي العملية التي يتعرف بها الرعايا على الأوضاع والممارسات والأفكار والعواطف والخطابات والمهمات كأجزاء من وجودها، كأعضائها الوجودية. إنهم يفعلون هذا، من خلال الصور النقدية التي خلقها النص - إنْ كان مكتوباً، أو مُعاشاً. وعلى نحو حاسم، إنهم يميّزون اللحظات الدقيقة التي تكوَّنوا فيها كرعايا بالصورة التي هم عليها الآن. وإذا نظرنا إلى الصور البشعة والتي تسرد تاريخ العار الصهيوني والتي يقدّمها الكتاب بإسهاب، فهم يحدّدون الممارسات المشينة التي يشاركون فيها، ويلتقطون لها صورًا تذكارية وكأنهم يتوقّعون تشييد أسطورة التفوق بينما هم مهزوزون بشعور خزي غير متوقّع، في وجه صور العار، التي لا تصبح مزعجةً الآن فقط، إلا عند بعض المثقفين المنشقين، أو أنّهم يكرّرون - على نحو ملزم - دعمهم السياسي الحماسي الخارج من قوى عاداتهم القصوى. مع ذلك فالكاتب يحذر من الشعور بأنّ لفكرة التعرّف التي يستعملها هنا شحنةً مضادة قوية حين تعود إلى الاحتفال بالهويّة. يقول الكاتب " ليست البطولة النقدية هي التعرّف على ذات موحَّدة لتمجيدها - بالعكس تماماً. إنّ نوع التعرّف الذي أقترحه يجب أن يحضّ على تفكير نقدي، إعادة تقييم، وأخيراً: التحوّل، ليس احتفالاً ذاتياً نرجسيا وبأكثر دقة، باستهداف قدراتنا الفعّالة، وليس مجرد تفكيرنا العقلاني، والنص هنا يحرّكنا نحو "نزع تحديد الهوية، وعدم المفهومية" عبر عملية تؤدّي إلى: "رفضٍ لهوية الشخص المُفترَض أن يكونه".

كطريقة للفهم والإجابة على سؤال كيف أصبح الإسرائيليون اليهود أبطالاً في قصص الاضطهاد؟ يتولّى هذا المشروع دراسة بعض الأشكال الاجتماعية الأساسية للمجتمع في إنتاج طرق المستوطنين الاستعمارية الكولونيالية للحياة التي تحيي الحاضر. لكل مجتمع، إن كان كولونيالياً، أو خلاف هذا، شخصيات اجتماعية معيارية، تصنع نسيجَه الثقافي، وهي أساسية في إعادة إنتاج المضطرد لعلاقاته بالسلطة. إن إسرائيل ليست استثناء. من ها هنا يركّز الكاتب على سلسلة من شخصيات صهيونية مثل- المُتنَزِّه، المدرّس، الوالد والناخب، وهم متماثلون قي الحقول الاجتماعية لوقت الفراغ/ الراحة، والتعليم والعائلة والسياسات. وكل واحد منهم يلعب دوراً أساسياً في تشغيل العضويّة الصهيونية، إنّهم من بين أعضائها الحيويين. في فصول الكتاب تفكيك مهم لهذه الشخصيات الاجتماعية الصهيونية. نوردها بإيجاز نظرا لاستغراقها صفحات طويلة من الكتاب:

المُتَنَزِّه الصهيوني وهي نزهات على الأقدام في الريف لها فائدة عظيمة في تعليم المشاركين منذ الأيام المبكّرة لهجرة الصهاينة الأوروبيين إلى فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر ممارسة استراتيجية، سياسية تحوِّل كل مواجهة مع الطبيعة إلى مناسبة إلى غرس أيديولوجيا سياسية معيّنة. إن التَّنَزّه الإسرائيلي ممارسةٌ عسكرية تحوّل الأرض إلى منطقة. امش متقدِّماً، واحتَل.

المدرّس: في كل المجتمعات، التعليم هو عمل، على مراحل بامتياز، لتكوين الوعي، وتمهيد مسار العقل. مع هذا، ما يميّز دور المدرّس في روضات إسرائيل اليهودية ومدارسها، هو أنه يخدم مجتمع مستوطنين مسلَّحين.

الوالد: الذي يعتمد عليه الكيان الصهيوني لتشجيع الأبناء للانخراط في الجيش والدفاع عن الأسطورة.

الناخب: أو صناعة الـصورة الديمقراطية للمجتمع الذي يمثله البرلمان الإسرائيلي، في حين ما هو إلا وسيلة للتمويه على الاضطهاد السياسي للمنشقّين، والتعمية على الجرائم التي ترتكب في حق فلسطينيي الضفة وغزة وفلسطينيي الداخل. وهذا يؤكد على نحو شمولي شخصية إسرائيل غير الديمقراطية، بالرغم من إجراءاتها الديمقراطية.

إن البحث عن تكوين الذاتيات النقدية - هو جوهر هذا الكتاب - الذي يعتبر الكيان الصهيوني مخيبا للآمال حتى بالنسبة للمثقفين العضويين الإسرائيليين، الذين انتقدوا البرمجة البنيوية للكائن الصهيوني المتأثر بممارسات ومعتقدات وقيم جماعية ونزعات سياسية.

منذ أيام هجرة الصهاينة الأوروبيين المبكّرة إلى فلسطين عند بداية القرن العشرين حتى الوقت الحالي، تطوّرت الصهيونية باستمرار بهندسة ونشر كل أنواع أجهزة العزْل؛ وعلى نحو أبرز، رسمتْ هذه الأجهزة خطوطَ تقسيم عِرْقي قومي بين اليهود والفلسطينيين وخطوطاً عنصرية طبقية بين الأشكنازيم والمزراحيم نتيجة لهذا، أُزيل طموح حياة، يشترك فيها اليهود والفلسطينيون، إمكانية مجتمع مجرَّد من العسكرية، رؤية العنصر والجنس ضمن المجتمع الإسرائيلي اليهودي، سعة التفكير النقدي والفعل المركَّب، العاطفة نحو الديمقراطية وتركّز الهويات الاجتماعية الصهيونية نفسها على إقصاء هذه الاحتمالات وإعادة تدوير السياسات العنصرية والعَزليّة والعسكرية. وهذا ما سيؤدي بإسرائيل إلى حتفها. وما يذهب إليه الكاتب يؤكده المؤرخ والانتربولوجي الإسرائيلي صاند شلومو الذي يقول بشأن مستقبل إسرائيل" لا أعتقد أن اليهود لديهم مستقبل مشترك، من المنظور الثقافي والأنثروبولوجي. ولا رؤية للمستقبل. كما أن معظم الصهاينة لا يريدون أن يعيشوا مع باقي اليهود الآخرين ويقتسموا السيادة والثقافة الوطنية نفسها.

 يمكن القول إنّ هذا العمل البحثي أصيل للغاية وهو أحدث الكتب التي تتحدث عن مآلات الوضع بين فلسطين وإسرائيل وعن احتمال التوصل إلى حلول بين الدولتين أو الدولة الواحدة لهذا الصراع الطويل. كما يركز على طرح منهجية تحررية ضرورية لحتمية التحول الثقافي في إسرائيل لصالح جميع ضحايا الصهيونية: يهوداً وفلسطينيين.
ومن أجل تحقيق ذلك يفكك الكاتب تعقيدات الذوات اليهودية الإسرائيلية على مستوى ممارسات الحياة اليومية. ما بعد إسرائيل هو إسهام مهم وجريء يعيد طرح الأسئلة المحرجة عن التفكير الصهيوني المقوّض للوحدة الإسرائيلية نفسها واستحالة إحلال سلام في فلسطين في ظل النظام الإسرائيلي الحالي.

في الختم لا بد من التذكير بأنّ المؤلف مارسيلو سڤيرسكي؛ وهو محاضر في الدراسات الدولية في مدرسة الإنسانيات والبحث الاجتماعي في جامعة وُلونغونغ منذ عام 2012، حيث انتقل إليها قادماً من جامعة كارديف في ويلز، والتي عمل بها في مركز الدراسات النقدية والثقافية منذ 2008. يُدرّس مارسيليو مواضيع في الدراسات الدولية وأبحاثاً عن سياسات الشرق الأوسط والفلسفة القارّية الأوروبية؛ ويركّز في المقام الأول على النظريات وممارسة النشاط السياسي والعمل الثوري والتحوّل الاجتماعي.

يحاول في مواضيعه تلك الربط بين الفلسفة القارية الأوروبية - بشكل خاص أعمال جيل دولوز وفيلكس غاتاري؛ النظرية السياسية النقدية ونظريات ما بعد الاستعمار. يطبق مارسيليو أعماله على الشرق الأوسط وخاصة فلسطين – إسرائيل، كما يهتم بسياسات أمريكا اللاتينية. وتتسم أبحاثه بنوعيتها وميلها إلى المنهجيات الإثنوغرافية (الناسيّة).
صدر له العديد من البحوث والكتب في هذا الإطار ومن كتبه "دولوز والنشاط السياسي – 2010" و"أغامبين والاستعمار (بالشراكة مع سيمون بينيال) – 2012" و"النشاط العربي اليهودي في إسرائيل-فلسطين – 2012". وبهذه الترجمة الرصينة يتعرف القارئ العربي على مارسيلو سڤيرسكي لأول مرة.

-------------------------------------------------------------

الكتاب: ما بعد إسرائيل – نحو تحول ثقافي

المؤلف: مارسيلو سڤيرسكي

المترجم: سمير عزت نصار

الناشر: منشورات المتوسط إيطاليا إصدار 2016

الصفحات: 285 صفحة.

 

أخبار ذات صلة