لماريو ليفراني
أمين منار *
يُعَدُّ المؤرِّخ وعالم الآثار الإيطالي ماريو ليفراني من كبار الدارسين في تاريخ المشرق، وهو متخصص تحديدا في تاريخ البلاد العربية المشرقية.. ويأتي المؤلَّف الحالي "تخيّل بابل: مدينة الشرق القديمة وحصيلة مائتي عام من الأبحاث"، والمترجَم إلى العربية من قِبل الأستاذ التونسي عزالدين عناية، ضمن مشروع شامل للمؤرخ، وهو من الصنف التأسيسي العلمي. ويتمحور موضوع الكتاب حول بابل، ويمتدّ على مجال تاريخي يتراوح بين 5000 و3500 ق.م، يسير فيه البحث وفق خطة منهجية متكاملة. فقد اِتخذَ المسار العام نسقا تصاعديا مشفوعا في مرحلة لاحقة بمسار تنازلي. في مرحلة أولى يستهلّ المؤرخ كتابه بالحديث عن المدينة المتخيَّلة، ريثما يكون الوصول إلى المدينة الواقعية التي تجري في حيزها أعمال التنقيب، لترسوَ العملية في نهاية المطاف عند المدينة الافتراضية. وبالنسبة للخاصيات الاجتماعية والسياسية، يأتي الانطلاق من نفي إمكان وجود مدينة "شرقية"، مرورا بصياغة أنساق خاصة بالشرق القديم، لِترسوَ العملية عند الإقرار بتواصل الشرق بالغرب. وعلى العموم، فإن الاستهلال يأتي مع الطرح الفلسفي والتخيل التطوري، ليصل إلى تمثل مدينة فعلية قائمة الذات، تُحشَد لها كافة القرائن: الأسوار المحيطة والبوابات، والقصور والمعابد، والدُور والطرقات، والسكان والأنشطة، ثم تُوضعُ كافة تلك العناصر محل تساؤل بقصد التشكيك في ذلك الإطار التاريخي.
الكتابُ في منتهى الإتقان والإحاطة بموضوع حضاري يسلط الضوء بمنهجية علمية على مبحث تاريخي مُوغِل في القدم. والواقع أن العديد من الدراسات المؤلَّفة بالعربية أو باللغات الأجنبية تطرقت للموضوع، لكن لم يسبق أن صاغ مؤرخ خلاصة ضافية تقيم نتائج الأبحاث التي خلص إليها المؤرخون والباحثون في مجال الآثار بشأن هذه المدينة. ولم نعثر على مؤلف تابعَ ما كُتب حول بابل وما قيل عنها بمنهجية تاريخية علمية تعيد لها وجهها الواقعي التاريخي.
في مؤلف سابق لليفراني بعنوان "ما وراء التوراة: تاريخ إسرائيل القديم" (روما 2003)، ينحو باللائمة على سابقيه ومجايليه من المؤرخين المهتمين بتاريخ بلاد المشرق.. قائلا: كيف أن المنطقة التي صنعت التوراة باتت ضحية رؤى التوراة التاريخية؟ فقد كانت لبرج بابل قوة تخيلية متميزة، مرتبطة سواء بمسألة "تبلبل الألسن" التي أثرت عميقا على التقسيمات اللغوية، أو بالثقل الأخلاقي واللاهوتي للأسطورة؛ كما أنَّ ثمة إدانة أخلاقية للمدن الآشورية البابلية تخترق تاريخ الثقافة الغربية، فنينوى وبابل مدينتا الشر، ملعونتان، على نقيض أورشليم المدينة المقدسة. يحاول ليفراني الغوص عميقا في بنية تلك الأساطير بقصد ترميم ما تخفى من حقائق التاريخ. ولن يتيسر ذلك التصحيح -وفق ليفراني- سوى باكتشاف التاريخ السابق للتوراة، وبابل على حد قوله أحد أعمدته العتيدة، ومن هذا الباب اقتضى تخصيص مؤلف لهذه المدينة التي تقبع خلفها حضارة محورية في بلاد المشرق.
وفي الباب الأول "الاكتشاف والحيرة"، يُوضِّح المؤلف أنَّ بناء بابل مجددا هو عبارة عن عملية تخيل لمدينة متوارية باتت مندثرة، وهو ما تجلى في عنوان الكتاب "تخيل بابل". والشائك في عمل ليفراني أن مادة بحثه التوثيقية تكاد تكون معدومة، مع أن المدينة تُعَد مهد حضارة إنسانية محورية. حيث لم تبق من ذلك الماضي البعيد -بعبارة جوهان غوتفريد هردر- سوى "مرويات لمرويات، شظايا روايات، حلم عن ما بعد العالم". لعل ذلك ما حدا بالمؤلف إلى تصدير عمله بقولة للودفيغ فتغنشتاين "تغدو حضارة الماضي هشيما، ورمادا بالنهاية، ولكن فوق الرماد ترفرف الأرواح" (أفكار شتى، 1977، ص:22).
ويقول ليفراني: "قضيتُ السنوات الطوال من عمري منكبا على المسألة، حبرتُ خلالها عشرات الدراسات، وصنفت مصنفات بأكملها حول نقاط بعينها، قررت في النهاية الاشتغال على هذه المسألة. كنت أعيد القراءة، ضمن تخصصي وبما يتخطى تخصصي، على مدى سنوات. لم أستخلص أفكارا ومعلومات، منها القطعي والظني، أو تصويبات وتعديلات فحسب، بل غنمت أيضا متعة فكرية غامرة. فأنا أحس أنني مثل غريق إدغار آلان بو "طيلة مشوار حياتي وأنا مكب على دراسة العالم القديم، إلى حد أشعر فيه أنني مسكون بظلال الأعمدة التي تهاوت من بعلبك وتدمر وتخت جمشيد، وإلى غاية أن روحي ذاتها غدت طللا من تلك العاديات".
في واقع الأمر، جاء نص ليفراني محاولة جادة لبناء المدينة الواقعية، وسعيا لإخراج بابل من رهن الأسطورة إلى الواقع. أو بحسب تعبير مؤلف الكتاب كانت صياغة هذه الخلاصة التاريخية محاولة لتوليد معلَم من رحم ما يشبه العدم: "أمامنا طلل وخلفنا مدينة". حيث يتابع ليفراني الأبحاث الأثرية المباشرة التي تناولت الفضاء الحضاري الذي تقع فيه بابل، أكان ذلك في الأركيولوجيا التاريخية أو ماقبل التاريخية، ليستخلص منها ما باحت به عن هذه المدينة وعما تبقى من تلك العاديات؛ ومن جانب آخر يتابع النظريات والرؤى التي قيلت سواء في فلسفة الحضارة، أو في تاريخ العمران والفنون والرسوم، إلى الأنثروبولوجيا الاجتماعية أو ما اتصل بفقه اللغات. فبناء صورة متكاملة عن بابل هو تشييد متشعب تتضافر فيه جهود العديد من الباحثين في حقول شتى.
وفي الباب الثاني "القبول والمواءمة"، يتناول الكتاب بالتحليل والنقد مُجملَ المدونات والنظريات والنتائج المتعلقة بمدينة بابل؛ حيث يوضح ليفراني أنَّ التطرق لحضارة بابل من جوانب عدة تم في كثير من اللغات، لكن مُجمل ما كُتب عن هذه المدينة خالطه الأسطوري إلى درجة أن المدينة باتت خيالية في أذهان الناس. مع ليفراني تغادر بابل ذلك الموضع لتغدو حقيقة، تتأسس على حوادث وبقايا ووقائع، لذلك تجد المؤلف في هذا الباب حريصا على نقد من سبقه في الكتابة عن هذه المدينة، ولم يثبت منه في مؤلفه إلا ما تمت البرهنة على صحته. وتتخلل هذا الباب انتقادات عميقة للمدرسة الغربية في قراءتها للتراث المشرقي وهو ما يتجلى في انتقاداته بالأساس إلى البناء المعرفي للعديد من الأبحاث. فالكتاب يُعالج مفاهيم تاريخية ولا يعتمد صاحبه التجني في القول، بل يدعم رأيه بمستندات ثابتة وقوية. كما أنه ينتقد الرؤى المركزية أو المجحفة التي تعرضت إلى بعض الجوانب من موضوع بحثه. صحيح أن الرجل حاول أن يلم بمجمل ما قيل في اللغات الغربية؛ لكن ما قيل عن هذه المدينة حديثا -وبقي في اللسان العربي ولم يترجم- فقد غاب عنه، فهناك كوكبة من الباحثين العراقيين والسوريين ممن أولوا هذه المدينة عناية قد غابوا عنه. عموما المدونة العربية والإسلامية غائبة لديه إ، ا ما تُرجم منها إلى الألسن الغربية أو ما كُتب مباشرة في تلك اللغات. ينطلق ليفِراني من معالجة مسألة تشييد المدينة، واكتشاف آجر البناء والتقنيات المرافقة، والتطورات الحضارية التي حصلت حتى دفعت باتجاه بناء بابل، وأي دور حضاري استوجبَ تشييد المدينة، كلُّ ذلك يدخل في عملية البحث عن المدينة المتوارية.
في الباب الثالث المعنون بـ"موسم الأنساق النظرية" والذي يتمحور بالأساس حول رؤى جوردون تشايلد ومسألة الثورة الحضرية وإرث التطورية، وثوركيلد جاكوبسن والديمقراطية البدائية، وإيغور دياكونوف والنمط الآسيوي وقرية الإقامة، وكارل فيتفوجل والمدينة النهرية، وكارل بولانيي ومدينة التوزيع، ومدرسة شيكاغو والمدينة المنيعة، فضلا عن طروحات أخرى يعيد فيها النظر. يستعيد ليفراني بشكل أو بآخر أسئلة جاكوب بوركهارت -1870- عن كيفية تحول جمع من البشر إلى شعب؟ وكيف تتحول التجمعات إلى دولة؟ وما هي أزمات المنشأ والمولد؟ وأين يمكث ذلك الحد من التطور السياسي، الذي بالانطلاق منه يمكن الحديث عن المدينة-الدولة؟ وحديث نشأة الدولة يقتضي بالضرورة حديثا عن أنظمة الحكم التي شهدتها المدينة. فليس "الطغيان الشرقي" وليد بابل فحسب، كما يروج عادة، بل صنوه "الديمقراطية البدائية" أيضا كما يورد ثوركيلد جاكوبسن (1943) المختص بالسومريات. حيث يُعيد ليفراني النظر في تلك الأطروحات السياسية متحدثا عن ديمقراطية نسبية، ليست ديمقراطية صلبة، قائمة على مؤسسات، "لأن وظائف الحكم لم تتفرع بعدُ، وبنية السلطة ليست جلية، وآلية التنسيق الاجتماعي لا تزال في طور التشكل". يقول جاكوبسن: "إن وثائقنا تثبت أن بلاد ما بين النهرين، فترة ما قبل التاريخ، كانت منتظمة سياسيا وفق "نظام" ديمقراطي وليس "أوتوقراطي"، كما سيسود لاحقا في بلاد ما بين النهرين التاريخية".
وفي الباب الرابع "الأنساق الجديدة رهن التطبيق"، يستعيد ليفراني مقولات روبرت برايدوود بشأن علم الإحاثة والأبحاث الأثرية، لينتقل إلى روبرت أدامز والرهان على تحليل التربة والديموغرافيا، ثم ينتقل إلى ليو أوبنهايم ومشروع سيبار بشأن "التنظيمات الكبرى" وتجمعات السكان، ثم يسلط اهتمامه على مفاهيم التحول الحضري وما أثاره من جدل في أوساط المؤرخين، ذلك أن مصطلح "الثورة الحضرية"، الذي أدرجه عالم الإحاثة البريطاني جوردون تشايلد، لتصوير سياق التطور، والذي يرِد استعماله في هذا الكتاب أيضا بشكل مطرد، يستدعي توضيحا: فقد جرى التخلي اليوم عن هذا الاصطلاح واستعيض عنه بمصطلح "التحول الحضري". حيث يُعبر مفهوم التحول عن حصول أمر خاطف وعنيف. بالتأكيد ما كانت "الثورة"، التي يسهل رصدها عبر تاريخ التقانة وعبر تطورات أشكال الإنتاج، شديدة السرعة، وهذا ينسحب على "الثورة الصناعية" الحديثة أيضا، وبالمثل على الأحداث الأبعد غورا في التاريخ: "ثورة العصر الحجري الحديث" و"الثورة الحضرية". فقد امتدت الثورة الحضرية على مدى قرون؛ وأنتجت في الآن قلباً أعاد بشكل مستجد رسم أوضاع الاقتصاد والمجتمع والدولة. ذلك أن سياقا امتد على بضعة قرون، احتضنته ألفيات طويلة سابقة ولاحقة، يمكن أن يُعد سريعا.
أثناء تلك العملية يتم على صعيد أول تخيل المراكز الحضرية الصانعة لعملية التحضر الكوني، ثم يجري تحديدها، وتلي ذلك غلبة هواجس، تُوزع بمقتضاها عمليات التحول الحضري "الأول" و"الثاني" تقريبا بالتساوي على مجمل القارات. حتى في الأرجاء التي نعثر فيها على أوجه عدة من التقليد والتكيف والانتشار. لِتنحصرَ رحلة البحث التاريخي والأثري تقريبا في مدى قرن، بين فلسفة القرن التاسع عشر الميلادي وتقنيات الألفية الجديدة. ولو فكرنا مثلا في إفراغ المفاهيم من دلالاتها بعد أن كانت حمالة لمعان عميقة، سلبا وإيجابا، كشأن مفهوم المدينة-الدولة الذي غدا مُعبِّرا عن كيان بحجم ما، أو مفهوم "الحضارة" وقد اُختُزل في تكتل جغرافي وثقافي، أو كذلك مفهوم الدولة أو الإمبراطورية، وهو مقام لا يُدخَر عن أي كان، هل يكون ذلك معناه نهاية الأيديولوجيات، أم هو نهاية الأفكار والأنساق المشيدة أيضا؟
وفي الباب الخامس "الحداثة: مقاربات وسيناريوهات جديدة"، يُركِّز المؤرخ في مسائل تقنية للبحث الأثري؛ مثل: "الطبقة صفر" للتل والنسق الإثني-الأثري، ثم ينتقل إلى الأنساق الجغرافية الحديثة والتراتب الاستيطاني، ليلي ذلك تركيز على "أحواض التجميع" والتواصل الريفي الحضري، مُعرِّجا عبر ذلك على إيحاءات المدرسة المعمارية الفرنسية والمدرسة المعمارية الألمانية، ثم يتناول عامليْ المناخ والبيئة في العصور القديمة والعوامل الديموغرافية المؤثرة في صنع الحضارات.
ليصل في الباب السادس والأخير "ما بعد الحداثة: الحوسبة والتفكيك" إلى تناول الإسهامات الجديدة في علم الآثار مثل "التنقيب الافتراضي" و"المحاكاة ورسومات الحاسوب". وأحسب أنَّ من يتطلَّع إلى تأليف مُصنَّف في هذا المجال، بما يقتضيه من إحاطة وإلمام، ألا يقتصر على علم الآثار، العائد إلى الحقبة التاريخية أو إلى فجر التاريخ، أو على فقه اللغات الشرقية (الآشورية والسومرية والحثية والمصرية والسامية والفارسية...وغيرها)؛ بلْ يُملي عليه البحث أن يستعين أيضا بعلم تخطيط المدن وتاريخ العمران، وتاريخ الفن، والأنثروبولوجيا الاجتماعية، فضلا عن الإلمام بأشكال الطغيان والأنظمة الثيوقراطية، والمقاربات الجغرافية الجديدة وبنظرية الأنساق، والتصميم الحاسوبي وأشكال الاستشعار عن بُعْد، وبغيرها من المجالات، وهو ما نلمسه حاضرا بالفعل في هذا الباب الأخير الذي ينفتح على المداخل الجديدة في علم الآثار.
والبارز في كتاب ليفراني -لا سيما في مجال لا تزال فيه السيطرة للرؤى الغربية- انتقاده للرؤى المركزية المجحفة. والحال أنَّ ثمة نقدا خفيا وجليا في سائر مؤلفات ليفراني للمدرسة الغربية في قراءتها للتراث الشرقي؛ بدا هذا النقد لاذعا خصوصا في مؤلفه "ما وراء التوراة"، وأما في كتابه الحالي "تخيل بابل" فإن نقده يتوجه، بالأساس، إلى البناء المعرفي للعديد من الطروحات والأبحاث. ومع أن العمل يتناول موضوعا تاريخيا أثريا، فإن لغة الكتاب أنيقة ومبسطة ولا تستهدف مخاطبة المختص فحسب. فالكتاب وفق تقديري يقرؤه المختص وغير المختص، كما أن ثمة مسحة أدبية في لغة المؤلف، علاوة على ما تمتاز به من صرامة علمية ودقة. وقد تضمن المؤلف جُملة من الفهارس على غرار فهرسي الأماكن والأقوام وقائمة ثرية بالمراجع، فضلا عن مراجع متعلقة بالمصادر الأيقونوغرافية وقائمة بالمختصرات والرسوم والصور والخرائط؛ فالكتاب يُراعِي تقاليد التأليف العلمي للمؤلفات التاريخية على العموم. الكتاب إضافة قيِّمة للمكتبة العربية، لاسيما في مجال التاريخ القديم الذي يشكو نقصا.
نبذة عن المؤلف:
ماريو ليفِراني مؤرخ إيطالي من مواليد 1939، فاز بجائزة الشيخ زايد في دورة 2014. أستاذ تاريخ الشرق في جامعة روما. أشرف على العديد من الأبحاث الأثرية في سوريا وتركيا وليبيا. صدرت له جُملة من الأعمال؛ منها: "أكد: أولى الإمبراطوريات العالمية" (1993م)؛ و"الحرب والدبلوماسية في الشرق القديم 1600-1100 ق.م" (1993م)؛ و"جغرافية آشور الحديثة" (1995م)؛ و"أوروك: أولى المدن على وجه البسيطة" (2012م).
---------------------
- الكتاب: "تخيل بابل.. مدينة الشرق القديمة وحصيلة مائتي عام من الأبحاث".
- المؤلف: ماريو ليفِراني.
- المترجم: عزالدين عناية.
- الناشر: كلمة، أبوظبي 2016.
عدد الصفحات: 619 صفحة.
