شيزارينا كازانوفا
عزالدين عناية*
استخفّت الثقافة الأوروبية، منذ وقت طويل، بالتجارب الكثيرة لحكم الملكات والحاكمات بالوصاية، بل وعدّتها هامشية. لكن مع تسعينيات القرن العشرين، سَلّطت أبحاث تاريخية جديدة الضوء على الموضوع. وهو ما أدّى إلى إعادة التفكير في انتقال السلالة الملكية في السلطة إلى النساء، وزرع الشك في المبدأ الذي كان يُشرّع ذلك الإقصاء، وهو مبدأ مبني على مبررات مرتبطة بالدونية بسبب تقسيم "طبيعي" للأدوار. إلا أن فكرة السلطة النسائية المنتشرة منذ فترة طويلة في أوساط المؤرخين، التي لم يتم استبعادها تمامًا حتى يومنا هذا، تؤيد أن حكومات النساء كانت سيئة الحظ أو موفّقة في حالات عابرة. ذلك ما يدور حوله مؤلف الباحثة الإيطالية شيزارينا كازانوفا، أستاذة التاريخ الحديث في جامعة بولونيا الإيطالية. والتي سبق لها أن نشرت جملة من الأبحاث منها "العائلة والقرابة في العصر الحديث" و"تاريخ الإجرام بين القضاء المدني والقضاء الكنسي".
تعود الباحثة في الفصل الأول من مؤلفها "حاكمات بالأحقية أو بالأمر الواقع" إلى تمعّن قضية المرأة والسلطة لدى فلاسفة اليونان وفي التراث الديني. ففي القرن الرابع قبل الميلاد، افترض سقراط إمكانية تولي المرأة منصب القيادة، على الرغم من اختلاف التركيب الفيزيولوجي بينها وبين الرجل، قائلا: فلنتأمل حال إناث كلاب الحراسة التي عليها أن تتولى السهر مع الذكور، وأن تطارد معهم اللصوص، إذ كل شيء بينهم مشترك؛ هل كان عليها أن تحرس المنزل فحسب لأنها لا تستطيع عمل شيء آخر بسبب الإنجاب وإرضاع الجِراء، بينما يقوم الذكور بحماية القطيع كله؟ وكانت إجابة التلميذ غلوكون عن هذا السؤال أن "لا بدّ من الاعتراف بوجوب مشاركة النساء الرجال في كل شيء، ولكن لنتعامل معهن على أساس أنهن الأضعف، وأن الذكور هم الأقوى". هكذا كانت إجابة التلميذ غلوكون التي نالت تقدير أستاذه عن هذا السؤال. وفي موضع آخر يؤكد سقراط في "كتاب السياسة" في الباب الخامس، أن شرط إلحاق "النساء بالوظائف التي يؤديها الرجال "منحهن التعليم نفسه، أي الموسيقى والألعاب الرياضية وفنون القتال، و"معاملتهن المعاملة ذاتها". إلا أن سقراط كان يرى صعوبة في إيجاد نوع من العلاقة بين الفتيات والفتيان من الذكور، من النخبة على الأقل، قادرة على أن تستبعد الاستحواذ على الشرعية المرتبطة بالجنس، وهو ما من شأنه أن يقمع التحكم الجنسي للرجال في النساء.
والواقع أن التقاليد المعادية للنساء في العالمين اليوناني الروماني، واليهودي المسيحي، تتأسس على نوع من الفصل بين الأدوار تحقِّق الاستقرار الاجتماعي، يمكنها أن تسمح للمرأة تولي أدوار السلطة في البلاط فقط، ولكنها تُصنَّف دائمًا بكونها غير رسمية، وبذلك يمكن إبطالها لكونها طارئة وغير لائقة. وفي الكتاب المقدس، تظهر شخصيات نسائية مؤثّرة مثل يهوديت وأستير، سخّرهما الربّ لإنقاذ شعبيهما من الإبادة. ولكننا نجد في سِفرَي "الحكمة" و"الجامعة" أن النصيحة الموجَّهة إلى رب الأسرة، هي أن يحدّ من تحركات المرأة وأن يحميها جيدًا داخل المنزل. وبالنسبة إلى سيدات الطبقة الاجتماعية الرفيعة أيضًا، فقد كانت تلك النظرة الذكورية هي السائدة في القرن الرابع الميلادي في أوروبا المسيحية، وهي مواقف دعمتها تفسيرات رسائل القديس بولس للإنجيل.
في الفصل الثاني "السلطة النسوية في العصر الحديث والتقلبات السياسية" تبرز الباحثة أن اللحظة التي عاد فيها القول في أوروبا بتساوي الفرص بين الجنسين؛ بما في ذلك الحقوق السياسية، قد حصلت مع القرن التاسع عشر، وذلك عندما قام كلّ من أكورسيو وبارتولو الساسوفيراتي وبالدو الأولبالدي بفصل "القانون المدني" عن سائر القوانين المؤسساتية والإقطاعية. إضافة إلى ما أسهم به علماء اللغويات، بالعودة إلى تناول أصول بعض المفاهيم مثل "الهشاشة"، و"البلاهة"، و"الدونية الجنسية"، المنسوبة إلى المرأة، حيث نوقشت الإمكانيات المختلفة. ورغم أن تلك الاختلافات لم تُرس تعريفا محددا، فإنها أدت إلى ترسيخ نوع من عدم المساواة في المعاملة، ووصمت المرأة بالدونية.
تلك الاتجاهات السائدة بين أهم رموز الثقافة وَجَدَت رواجا في كتابات قوانين الأسرة للمفكر أندريه تيراكو، وهو يُعلن فيها صراحة عدم ثقته الكاملة في عقل المرأة. والجلي ان التساؤلات التي طرحها تيراكو -في ما إذا كانت المرأة إنسانا أم حيوانا- هو ما استُنبط منه الحكم الخاص بتسليط عقوبات أقلّ عليها بما أنها ضعيفة روحا وعقلا، ليبرّر من خلاله فكرة الخضوع الكامل للمرأة.
ونجد ارتباطا، في السياق ذاته، للدونية "الطبيعية" للمرأة مع الجانب القضائي ومفاهيم أخرى في الثقافة السياسية. فاستبعاد المرأة كشاهدة في المحاكمات، على سبيل المثال، تبرره نزعتها الأنثوية للكذب وعدم مصداقيتها. ولذلك تمّ، من جهة، تأكيد وجود اختلافات تبرّر عقابها عقابا تأديبيا أقلّ، بما في ذلك تخفيف العقوبة مثل تلك العقوبات الخاصة بوحشية أحكام الإعدام ضدّ الساحرات. وجرى من جهة أخرى تأكيد على استبعاد المرأة من المهام الذكورية مثل الاشتراك في الحرب وتولّي المناصب الحكومية، ووراثة الحكم، ليس فقط لأن هذه المهام تستلزم حِدّة الطباع، ولكن أيضًا بسبب طموح المرأة الجامح للسلطة، إذ أنّ التعطّش للنفوذ هو ما تطمح إليه، وهو الأمر الذي يؤدّي بها إلى التضحية حتى بأعزّ أبنائها لغرض تحقيق مأربها.
إن الأبحاث التي نُشرت في القرن السادس عشر تجادل فكرة عدم أهلية المرأة في ممارسة السلطة بسبب الضعف الناتج عن تركيبتها البدنية والأخلاقية. وإذا كان المقصود هو أن "ضعف جنسها" يجعلها بطبيعتها غير قادرة على أن تقود الجيوش، فإن الكذب والشهوة، والطبائع المتقلّبة تجعلها أيضا غير مناسبة لإدارة الحكم بالعدل. وبرغم الصورة السلبية للملكة التي تعادي الطبيعة بأن تنكر كلّ حياء وتستولي على السلطة بسبل الخداع والمراوغة، فإن هناك نوعين يخصان المرأة في أنظمة الحكم: ذلك النوع الخاص بالمرأة "المتفوّقة على جنسها"، والمرأة "ذات الملامح الذكورية". إن النموذج المثالي الإنجيلي قد يُبرر الحالة الاستثنائية للحكم النسائي وهو ذلك الخاص بالملكة بتشبع، بينما المثال المضاد له هو ذلك الخاص بإيزابل الشريرة الواردة قصتها في الكتاب المقدس.
في الباب الثالث المعنون بـ"ملكات طالحات وأُخَر صالحات" تستعرض الباحثة جملة من الحالات النسوية في السلطة مثل كاترين دي ميديتشي أرملة هنري الثاني والملكة فيكتوريا والملكة إليزابيث في إنجلترا والإمبراطورة ماريا تيريزا النمساوية، تبرز من خلالهن أن حياة بعض الملكات، أو بعض النساء اللواتي يمكن اعتبارهن "شخصيات استثنائية"، لأن دورهنّ كان حاسمًا على الصعيد العام، تفند الإجابة السلبية عن السؤال: "هل كان ثمة عصر نهضة للنساء؟". ذلك أن عصر النهضة يُعدُّ المعبر الرئيسي في بناء ما نعتبره الآن أوروبا الحديثة: التوسع فيما وراء البحار، الدولة المركزية، حصر مشروعية العنف في المؤسسة القضائية، الثقافة السياسية والتجديد الديني، ولكن هذا التقييم الإيجابي "ذكوري" في الأساس، فبالنسبة إلى النساء، لم تكن آثار قرون العصر الحديث سوى مزيد من المنع، وترسيخ للحدود الثقافية، إذ فُرضت قواعد مستوحاة من التفسير الأكثر تشددًا لكتابات بولس الرسول: فرض العفة، والإجبار على "تغطية الرأس" في الكنائس بينما يقف الرجال برؤوس مكشوفة، فيمنحهم جنسهم هذه السلطة ليتخذوا موقعًا مباشرًا مع الذات الإلهية.
والجلي أنه حتى نهاية ثمانينيات القرن العشرين كان ثمة نوع من التحفظ في جنوب أوروبا للدخول في جوهر مشكلة السلطة بالنسبة إلى النساء، بينما كانت الأبحاث الخاصة بالدور السياسي النسائي قد بدأت في أماكن أخرى منذ عقد من الزمن. ولكن اهتمام الدارسات والدارسين لم يكن قد أدخل الحالات الاستثنائية لبعض تجارب السلطة النسائية في الإطار الموسع للتاريخ السياسي فضلا عن التاريخ الاجتماعي. وفي حالة إيزابيللا القشتالية فقد ظلت سيرتها الذاتية المؤلفة من قِبل المؤرخة بيجي لِيس قاصرة إلى حد كبير عن إعادة تركيب شخصية الملكة، دون التعمق في العناصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ميزت الإطار العام الذي مارست فيه إيزابيللا حكمها.
لكن الباحثة كازانوفا تبرز أن إلغاء "القانون السالي" في السويد في عام 1980 سمح بتولي الأميرة فيكتوريا -الابنة الكبرى لغوستاف السادس عشر- ولاية العهد. كانت التغييرات ذات الطابع الثقافي المتداولة في بلدها قد سمحت لها بالزواج من "شخص عاديٍّ" سيحصل على لقب ذي سموٍّ ملكيٍّ ولكنه لن يكون ملكا أبدا، حتى وإن غدت زوجته ملكة. وقبل فيكتوريا، لم تحكم السويد سوى ثلاث سيدات: أولاهن مارغريتا العظيمة في القرن الرابع عشر الميلادي، وذلك في أعقاب موت زوجها هاكون ملك النرويج، ثم ابنها أولاف.
في الفصل المعنون بـ"مُلك النساء في القرن العظيم" تعيد الباحثة كازانوفا النظر في مسألة السلطة النسوية. إذ تُعدُّ الثقافات اليونانية-الإيطالية، واليهودية-المسيحية مراجع أساسية ولكن المؤكّد أنها ليست كافية لشرح سبب إسناد الأدوار الهامشية للمرأة، متسائلة لماذا تُعد نماذج البطولات النسائية مجرّد استثناءات؟ وهل ذلك ناتج من موقف له جذوره العميقة في الضمائر؟ وحتى إذا ما أمكن لدراسات جورج دوميزيل حول التركيبات الذهنية الهندية-الأوروبية، أن تكون مقنعة، فإننا نجد في عمق ذلك العالم الثقافي انقساما وظيفيا للأنشطة الإنسانية التي تمنح المرأة دورًا تابعًا، مساويًا لدور العاملين في الأرض، كما أن بعض أبحاث الأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا تمنح إشارات متناقضة بشأن الأمر. وفيما يتعلق بالعالم القديم، فإنّ النظام ثلاثي الأبعاد -المجال المقدس، مجال الأرستقراطية المحاربة، ومجال الإنتاج- قد انحدر بطرق متنوعة تبعًا للحقب الزمنية، فقد أكّد دوميزيل أن عبادة الإله جونوني (Giunone) في مدينة لانوفيوم القديمة كانت تتخذ طابعًا أنثويا ثلاثي الأبعاد وكان يقابل ذلك الثالوث المذكر (جوبيتر، مارس، وكويرينوس راعي السلام).
لكن اعتلاء المرأة سدة الحكم في الأوساط الأوروبية ما كلان يسير في خط منتظم، وانطلاقًا من القرن الخامس عشر مثلا، تضاءلت فرص النساء في الحصول على مواقع قيادية أو توارثها، سواء فيما يتعلق بعملية تجميع المقاطعات على الصعيد الأوروبي، أو ما ارتبط -فيما بعد- بتأكيد حكم العائلات الملكية كعنصر من عناصر ضمان الاستقرار السياسي، أو ما اتصل -في نهاية الأمر- بالأهمية التي عهدت إلى السلطة الملكية بحصولها على حقّ التشريع. وفي الثقافة القانونية للقرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين، كانت الأطر الخاصة والعامة متناقضة. وعلى سبيل المثال فقد كان الأخلاقيون والقضاة، والمفكرون والساسة، يوصون بسلوك الحماية تجاه النساء، بسبب ضعفهنّ الفادح الذي يبرّر استبعادهنّ من الساحة العامة، ولكن ذلك لم يُعفِهنّ من الأحكام الجنائية القاسية: وهو تناقض ظهر بوضوح في نهاية القرن الخامس عشر، في جوّ من عدم الاستقرار اتّسم بالاضطرابات الدينية، وقد جرت مواجهته في الإطارين الاجتماعي والعائلي بتعزيز التقليد الكلاسيكي الكتابي، الكنسي والأبوي المعادي للمرأة.
في الفصل الأخير المخصص للكتابة التاريخية عن المرأة والسلطة والمعنون بـ"عصر الإمبراطورات" تذكر كازانوفا أن التناول الأدبي والتاريخي لتلك الشخصيات، قد أخفى، لفترة طويلة نجاحهن الباهر، وكان يصعب نكران قدرة بعضهن على اتخاذ قرارات سياسية صائبة، فجرى اعتبارهن، بلا أي دليل واضح، ظواهر مثيرة للقلق ومخلوقات شيطانية (كما في حالة المحاربة جان دارك)، أو وصيات على الحكم يقودهن "التعطش للسلطة" فحسب. كانت في الواقع أولى تلك الدراسات التصحيحية التي عالجت موضوع سلطة النساء في عصر النهضة والتي تحدثت عن حكم النساء (Queenship) من خلال تقديم نماذج ناجحة، تفسّر النجاح السياسي للملكة وتأثيرها، لا فقط بقدراتها الفردية المتميزة بل بالأحرى لما لها من قوة "طبيعية" نابعة من شخصها.
وفي الأعوام الأخيرة تحوّل البحث في موضوع سلطة النساء، متجاوزًا مشكلة العلاقات بين السِّيَر الذاتية والكتابة التاريخية، ومُقرِّبًا الاختلاف بين أنواع الكتابة كنقد تمييزي لموضوع بحثي محدد. نجد برنار بودال، يتحدث منذ عام 1994، عن "التضخّم في المنهج" وعن الثرثرة المفرطة في السيرة الذاتية وعن ندرة الكتابة التاريخية الرصينة في هذا الموضوع الإشكالي. لاسيما وأن جل الشخصيات النسائية السياسية ممن تولّين الحكم صعدن إلى ذلك في ظل ظروف سياسية شائكة، وأوضاع تتميز بالفوضى والاضطراب مع ذلك نجحن في استعادة الاستقرار، والوصول إلى نوع من الحكم السلمي.
الكتاب يتضمّن مقاربة تاريخية رصينة لموضوع المرأة والسلطة، ولعل ما يزيد من أهميته دقة الإحالات والحرص المفرط على ذكر مراجع الأحداث والوقائع، إضافة إلى قدرة الباحثة على الجمع بين مداخل عدة تاريخية ونفسية وسياسية في معالجة الموضوع.
-----------------------------------------------
الكتاب: ملكات في السلطة.. نساء حكمن في العصر الحديث.
المؤلفة: شيزارينا كازانوفا.
الناشر: لاتيرسا (روما-باري) 'باللغة الإيطالية'.
سنة النشر: 2015.
عدد الصفحات: 222ص.
* أستاذ تونسي بجامعة روما
