لمحمد عبدالمنعم
فينان نبيل *
وَضَعتْ الثورات الشعبية التي اندلعت في تونس ومصر وليبيا واليمن، كلَّ الأنظمة العربية أمام تحديات كبيرة؛ فتلك الثورات في الحقيقة نتاجُ فشل سياسات تلك الدول في موضوعات ذات أهمية قصوى للشعوب العربية (كالتعليم والصحة).
ويُثير هذا الكتاب تساؤلا يهمُّ كلَّ العاملين في مجال تنمية التعليم في العالم العربي حول الحالة الحقيقية للتعليم، وسبب تراجع الاستقرار السياسي في العالم العربي منذ 2011، والتي دفعت بعض البلدان إلى مستقبل غير محدد المعالم، وحاول الكتاب تحليل الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتي تنعكسُ على نظام التعليم وسياساته في العالم العربي. ويُعدُّ الكتاب من المساهمات النادرة التي تربط بين العديد من العوامل، مؤكدة على أهمية الديمقراطية في تشكيل السياسات التعليمية، والتي تعتبر بمثابة الهواء النقي الذي يحتاج صُنَّاع السياسات لاستنشاقه إن كانوا جادين في محاولة صنع مستقبل أفضل للعالم العربي.
وينطلق المؤلف من حادثة انتحار شاب مصري، بعدما تم رفض تعيينه في وزارة التجارة لعدم لياقته اجتماعيًّا؛ لأنه ابن لمزارع بسيط، على الرغم من مؤهلاته الدراسية ونبوغه وتفوقه، وعكست قصة هذا الشاب تداخل عدة عوامل تقود الشباب إلى الإحباط؛ منها: نقص الفرص، ومحاباة الأقارب في التوظيف، والتمييز الطبقي، وأمام الأبواب المغلقة تتشابه آلاف القصص للشباب في العالم العربي، الذين يرفع التعليم سقف توقعاتهم ولكنه لا يؤهلهم بالمهارات التي يحتاجها القطاع الخاص، بينما يتقلَّص دور القطاع العام ويتجه نحو اقتصاد السوق. وفي كلتا الحالتين، فإنَّ فُرَص التوظيف المتاحة التي تقدم رواتب كافية لإقامة حياة كريمة نادرة جدًّا، والحقيقة أن النظام الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي ليس مُعدًّا لاستيعاب أحلام الشباب وتحويلها إلى مخرجات منتجة.
ويهدف الكتاب إلى فهم العوامل التي تتحكَّم في إرادة وقدرة الأنظمة العربية على وضع سياسات تعليمية من منظور تحليلي مقارن بين عدد من الدول العربية، يبدأ الكاتب في استعراض رحلة التنمية في العالم العربي وربطها ببدء تدفق النفط 1960 في بعض الدول، وربط انتعاش البترول برفع معدلات التنمية إلى العام 1970، ثمَّ بدأ الركود التنموي في مُنتصف الثمانينيات وازدهاره مرة أخرى في بداية التسعينيات، وهو يرى أن مُتتبِّعي مسارات التنمية عادة ما ينظرون للتنمية في الاقتصاد والتنمية في التعليم على أنهما مساران مُنفصلان لا علاقة بينهما. فعلى الرغم من تذبذب الأداء الاقتصادي منذ الاستقلال، فإنَّ الإنفاق على التعليم يتزايد دون اعتبار للأداء الاقتصادي، وإن كان التركيز على الكم وليس الكيف في جودة التعليم.
وتتسم التنمية في المنطقة بعدم الثبات مقارنة بالمناطق النامية الأخرى، ويوضِّح الكاتب أنَّ الثروة النفطية ليست مصدرا للثروة فحسب، وإنما ذات تأثير سياسي تستخدمه بعض الدول لتحديد دورها السياسي والاقتصادي. ويلعب النفط دورا مهمًّا في فهم التباين في الثروة بين دول "الأوبك" والدول غير الأعضاء فيها، ويُمكن إرجاع زيادة معدلات التنمية من (1960-1970) لأمرين: الأول، تدفق النفط. والثاني: طبيعة المجتمعات العربية بعد الاستقلال وتمدُّد دور الدولة. ويقيم الكاتب مؤشرات لقياس نتائج التعليم كمِّيا من خلال عدد الطلاب المسجلين ومتوسط سنوات التعلم، ويستخدم مقياسا كيفيا على جودة التعليم كقدرة الطلاب على الابتكار ونسبة التحاق الطلاب بجامعات أجنبية، والتركيز على قدرة جذب التعليم للأطفال وتقديم المهارات التي تتوافق مع سوق العمل كعوامل مساعدة في قياس الجودة.
وحقَّقتْ المنطقة في الفترة 1980 مُعدَّلا أسرع في نمو الدخل والتعليم، ويستعرض الكاتب تقرير الأمم المتحدة عن التنمية البشرية في الوطن العربي للعام 2013، الذي سجل أعلى معدلات ارتفاع في التنمية في: السعودية، والكويت، وليبيا، ولبنان، والبحرين، وعُمان، مُلاحظا أن البحرين وعُمان من الدول التي لا تعتمد ثروتها على البترول فقط، ولكن تتنوع مواردها الاقتصادية، ولبنان بلد فقير في موارده الطبيعية، وشهدت طوال فترة كبيرة من تاريخها حروبا وصراعات طائفية، ولكنها دولة ديمقراطية تقود الاختلافات الدينية والطائفية، كما يلعب المجتمع المدني دورا كبيرا في دعم التنمية فيها، بينما سجلت 12 دولة معدلات متوسطة في التنمية مثل قطاع غزة-الضفة الشرقية.
وتنفق معظم الدول الفقيرة والغنية أكثر من 20% من موازنتها على التعليم؛ مثل: السعودية، والإمارات، وليبيا، والجزائر، وتونس، والمغرب، وجيبوتي)، وعدد قليل من الدول ينفق 15% من الموازنة: عُمان، والأردن، ولبنان، والبحرين، والكويت، وسوريا، وغزة، وقطر. بينما يقوم القطاع الخاص والمجتمع المدني بدور كبير في التنمية.
وعَرَض المؤلَّف لأسباب الركود السياسي في الدول العربية، والتي من أهمها: الاعتماد على الإستراتيجيات السلطوية القائمة على زيادة القمع، وتوظيف الخطاب السياسي الطائفي لإحكام السيطرة الأمنية على المشهد السياسي والاقتصادي، وتجاهل إصلاح السياسات المنشودة في مجالي الصحة والتعليم، التي لابد أن تُبنى على أساس من الانفتاح الديمقراطي، وتجنُّب جمود البيروقراطية التقليدية؛ من خلال إنشاء هياكل إدارية موازية تهدف للنهوض بجودة التعليم، وفتح المجال أمام مُتعلمي الطبقة الوسطى للترقي والانضمام لهذه الهياكل الجديدة، والاستفادة من قدراتهم التعليمية والابتكارية؛ بما يُعزِّز الإصلاح الديمقراطي والاقتصادي لتلك الدول.
وقدَّم المؤلف أمثلة لتلك الأنظمة التي استطاعتْ تجاوز جمود البيروقراطية التقليدية، واتباع الإصلاحات التي تتوافق مع المعايير الدولية ببناء هياكل إدارية ديناميكية؛ مثل: قطر، والإمارات العربية المتحدة. وأشار إلى أنَّ أهم ما يميز هذه الأنظمة هو تخلِّيها عن المفهوم التقليدي للإصلاح، والذي لابد أن يُقدَّم من أعلى إلى أسفل، ولجوء هذه الأنظمة إلى فهم تحديات الإصلاح الرئيسية التي تتمثَّل في عدد من الاختلالات الديموغرافية، والسياسية، والاقتصادية. وعليه، تمَّ التعامل مع هذه التحديات، واحتواؤها، والاسترشاد بالآراء الشعبية من أجل التغيير. وهذا النهج المختلف للتعامل مع جميع التحديات التي واجهت هذه المجتمعات هو ما نتج عنه تنفيذ واستدامة الإصلاحات السياسية التي تم اتباعها.
ويُشِيْر الكاتب إلى أنَّ إصلاح السياسات والإدارة دون الانفتاح الديمقراطي يطلق عليه "تحرير دون الديمقراطية". كما أنَّ إصلاح السياسات بمعزل عن معالجة أوجه القصور في أنظمة التعليم ما هو إلا "إصلاح هش وسطحي". فالإصلاح الحقيقي للتعليم سيترتب عليه دون شك إحداث حالة من الزخم السياسي والاقتصادي الهادف لإرساء سياسات تنموية مستدامة، قوامها التعليم، ومن ثمَّ تعزيز قدرة الأنظمة العربية على الانخراط في إصلاح السياسات الهادفة إلى تعزيز النمو الاقتصادي.
ويُشير المؤلف إلى أنَّ دراسة ومناقشة السياق التاريخي والسياسي لأي دولة لا تتم بمنأى عن دراسة ومناقشة نسقها التعليمي، وخطط تطوير هذا النسق، الذي سيتحول إلى دافع ومحفز على تطوير الهياكل الإدارية، والسياسات الاقتصادية لتحقيق نهضة المجتمعات.
والتخطيط وتصميم نسق تحليلي متكامل لمنظومة التعليم بالدول المختلفة، يرى المؤلف أنه لابد من توافر معلومات وبيانات عن الأعداد الملتحقة بالتعليم، والناتج المحلي الإجمالي للفرد والعمالة بهدف تصميم مسار العلاقة بين التعليم والأداء الاقتصادي، وإصلاح السياسات في الدول العربية، واستخدام تحليل المسار لتحديد شكل العلاقة، وأيهما المتغير المستقل، وأيهما التابع؛ تمهيدا لتفسير المعوقات التي تواجه إصلاح التعليم، وكيفية التغلب على هذه المعوقات للتوصل إلى النتائج المتمثلة في تحديد سياسات الإصلاح المبتغاة للنهوض بهذه المجتمعات.
وانتقل المؤلف لتحليل العلاقة بين التعليم والأداء الاقتصادي لتفسير الحوافز والمعوقات التي تواجه إصلاح التعليم، مًعتمدا على الإطار الذي تمَّ تطويره من قبل البنك الدولي لقياس ضمان الجودة التعليمية، وتطبيقه على الحالتين المصرية والقطرية. ويستند هذا الإطار إلى ضرورة تنفيذ عدد من المهام من أجل تحقيق جودة التعليم. ومن الشروط الرئيسية لتحقيق النجاح -وفقا لهذا الإطار- هي: تعيين جميع الوظائف اللازمة لجهات معينة؛ مثل: وزارة التربية والتعليم، والمدارس، والمعلمين...وما إلى ذلك، وفصل وضع السياسات عن مهام الرقابة.
ويُبنى هذا الإطار على ثلاث فرضيات؛ تقوم الفرضية الأولى على أنه كلما زاد حجم السكان، قلَّت قدرة النظام على الانخراط في الإصلاح التنظيمي. فقطاع التعليم كبير الحجم من حيث عدد الطلاب والهياكل البيروقراطية، وهو ما يعني أن التغيير يمكن أن يهدد قطاعات أوسع من السكان. فالطلاب لديهم آباء تتم إضافتهم إلى الأطراف المتضررة، فضلا عن الشركات ذات الصلة التي تعمل في مجالات الكتب والدروس الخصوصية. وهذه الحجة تترجم في انخفاض احتمالات تغطية جميع وظائف ضمان الجودة التعليمية، وعلى رأسها المهام المتعلقة بتقييم وتحليل الأثر. أما الفرضية الثانية، فتقوم على أن زيادة أعداد الهياكل القائمة تزيد من احتمال تكرار الوظائف. والفرضية الثالثة والأخيرة تُبنى على أساس التهديدات القائمة للنظم السياسية، والسيطرة المركزية للنظام القائم، وربطه بنظام تعليم أكثر استقرارا، والذي يترجم إلى توزيع واضح للمهام المحددة لضمان الجودة، والفصل بين صنع السياسات وتنفيذها.
ويخلُص المؤلف هنا إلى أنَّ البلاد صغيرة الحجم والسكان تستطيع الفصل بين وضع السياسات ومهام الرقابة، وهو ما يقلل من احتمالية ازدواج الوظائف، مقارنة بالبلاد الأكبر حجما وسكانها الأكثر تعقيدا. وتفيد دراسة الآثار المترتبة على الحجم، والتاريخ، والاستقرار السياسي في النظم التعليمية، ورؤية كيفية عملها في الممارسة العملية، في فهم التحديات التي تواجه الأنظمة العربية، وإمكانية الانخراط في الإصلاح على المدى الطويل.
ويُنهي المؤلف الدراسة المقارنة التي استخدمها في التحليل، مع الاستعانة باستطلاعات الرأي، بأنَّ التعليم له تأثير إيجابي في المشاركة المدنية، وأنَّ التحالفات المؤيدة للديمقراطية -التي خلقت الزخم من أجل الصحوة العربية- نجمت عن التوسع في الطبقة الوسطي المتعلمة التي تواجه ضغوطا متزايدة، وفرصا أقل. وعليه، فلابد من سد الفجوة بين الأعداد الكبيرة من الخريجين، وسوق العمل الذي لا يتمكن من استيعاب هذه الزيادة، وهو ما يتطلب إجراء إصلاحات متزامنة في نظم التعليم، والسياسات الاقتصادية.
وعليه، يُعدُّ الكتاب بمنزلة محاولة لفهم الحاضر، مبنية على تحديد مسارات الوضع الراهن، وأسباب الركود، والمحفزات للتغيير في السياقات السياسية للأنظمة العربية، ومن ثمَّ إفراز نظم سياسية واقتصادية قائمة على تبني إصلاحات إدارية حقيقية، تفصل ما بين الرقابة، ووضع السياسات، وتخضع للمساءلة. فتقدير المخاطر التي تواجه الأنظمة المختلفة، وقدرتها على إصلاح السياسات، وتطوير هياكلها الإدارية، من شأنه إدارة هذه المخاطر بنجاح عبر إصلاح التعليم، والنظم السياسية والهيكلية، وتطوير الأداء الاقتصادي، ومن ثم تفادى التوترات الاجتماعية، وركود وفشل السياسات والمجتمعات.
وقد كان فشل سياسات الإصلاح التي اتخذها عدد من دول الثورات العربية في مجالات ذات أهمية لمواطني تلك الدول؛ مثل: التعليم والصحة، وراء انتفاض الشعوب ضد أنظمتها السياسية السلطوية. وقد كانت هذه المقاربة غائبة عن كثير من الدراسات والكتابات الغربية والعربية التي درست أوضاع المنطقة قبل ثورات الربيع العربي وبعدها. وفي محاولة لسد النقص في تلك الدراسات، يأتي هذا الكتاب الذي يقدم تحليلا شاملا لنظم التعليم الأساسية في الدول العربية؛ من خلال تعميق فهم هياكلها الإدارية، وتأثير الحسابات السياسية في قدرتها على الانخراط في إجراء إصلاحات ذات مغزى. وأهم ما يميز الكتاب اعتماده على منظور الاقتصاد السياسي المقارن كأساس لدراسة الأسباب الكامنة وراء الركود السياسي في الدول العربية؛ بهدف تحليل ومقارنة نظم التعليم المختلفة لتقديم رؤية جديدة للأنظمة العربية؛ سواء بهدف الإصلاح، أو تصميم وتنفيذ سياسات من شأنها إعادة تصميم الهياكل الإدارية. هذا الكتاب ذو فائدة رئيسية للطلاب والباحثين في دراسات شرق أوسطية والدولية والتربية المقارنة ودراسات التنمية.
ويُذكر أن الدكتور علاء عبدالمنعم مُحاضر في الجامعة الأمريكية بالقاهرة له العديد من المؤلفات في الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية ومناهج البحث.
----------------------
- الكتاب: "الاقتصاد السياسي للتعليم في العالم العربي: سياسات ومقاربات مقارنة".
- المؤلف: محمد علاء عبدالمنعم.
- الناشر: روتليدج-2015، باللغة الإنجليزية.
* كاتبة وباحثة مصرية
