فطرية التديّن

أم كلثوم الفارسي

يقول بلوتارك المؤرخ اليوناني المشهور:

"إذا ألقيتم نظرة إلى ساحة الكون فإنّكم ستجدون كثيراً من الأماكن التي ليس فيها لا عمران ولا سياسة ولا علم ولا صناعة ولا حرف ولا دولة ولكن لا يمكن وجود مكان لم يكن الله فيه".

يتحدث الكاتب عبدالقادر بن عبدالله في مقاله (الفطرة والدين في نظر القدامى والمحدثين) عن الفطرة أو الشيفرة - إن صح التعبير- هذه الفطرة التي جعلت الإنسان المرشح الأول لعمارة الأرض وإصلاحها وبها وعلى أصلها التقي تم الاستخلاف، حيث يتناول وفي عرض متسلسل معنى الفطرة والجوانب المعنوية الملتصقة بها مثل العقل والقلب والنفس والتي بها تتأكد حقيقة الإنسان؛ فالإنسان ليس عبارة عن جسد. إنما لا يكون إنسانا إلا إذا كان جوهرا يكون له امتداد في أبعاد تفرض طولا وعرضا وعمقا، فحقيقة الإنسان ليست عرضا لأن العرض يجوز أن يتبدل والحقيقة بعينها باقية والحقائق لا تتبدل.

وفي مجمل حديثه المصبوغ بألوان من الفلسفة والتاريخ والدين يثير الكاتب في داخلنا جملة من التساؤلات حول فك رموز هذه الشيفرة التي أبدعها الخالق وهل الدين رمز من رموزها الأزلية؟ ولسبر أغوار هذا التساؤل العملاق كان لابد لنا أن نعرف معنى الفطرة فلقد استخدم القرآن الكريم كلمة الفطرة في قوله تعالى: (... فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا...) والفطرة لغة بمعنى: الخلقة والإيجاد.. واصطلاحاً: هي مجموعة من الصفات والقابليات التي تُخلق مع المولود، ويتّصف بها الإنسان في أصل خلقته سواء القابليات البدنية، أم النفسية، أم العقليّة. والفطرة تهدي الإنسان إلى تتميم نواقصه ورفع حوائجه، إذا تحققت شروطها وارتفعت الموانع من تأثيرها، ولكي نصف أي أمر أنه فطري لابد أن يوجد بشكل لا اكتسابيّ ودون توسّط الفكر والتعليم، فالمعارف الفطرية الإنسانية، عبارة عن الخصائص والصفات غير المكتسبة، بل تكون لازمة لخلقة الإنسان، وتكون مرافقة له منذ بداية تكوّنه ووجوده بشكل طبيعيّ. ولهذا قد تسمّى طينة الإنسان. إضافة إلى وجودها عامّة، أيّ موجودة عند كلّ البشر. لأنّها- كما ذكرنا سابقاً- هي من الأمور الطبيعية التي توجد مع الإنسان منذ بداية خلقه. وعليه ليس هناك استثناء فيها بل هي عامّة وشاملة.

وكلّ شعور وإحساس موجود عند الإنسان وسارٍ في جميع الأفراد يُعتبر أمراً فطرياً. أمّا إذا كان غير شامل لجميع الأفراد أو كان لا يحصل إلَّا بالتفكير والتعليم فلا يكون فطرياً، وإنّما حصل بالاكتساب والتعليم والتلقين. ومن العجيب في الأمر أنّ علماء التاريخ والآثار يؤكّدون أنّ البشر كانوا يملكون الحسّ الدينيّ على مدى العصور وإن كانوا في كثير من الموارد يشتبهون في تشخيص الإله الحقيقي حيث أشارت إحدى الدراسات التي قام بها فريق من العلماء البريطانيين تحت إشراف الدكتور "بروس هود"، أنّ الإيمان بالله عز وجل ينبع من برمجة معينة في عقول البشر منذ الولادة، و"أن البشر مبرمجون للتمتع بشعور روحاني انطلاقاً من نشاط كهربائي في مناطق معينة في الدماغ".

 إنّ هذه الدراسة التي نشرتها الصحف مؤخراً، ليست الوحيدة من نوعها في هذا المجال، فعلى الرغم من الطابع الإلحادي الذي طبعت عليه كثير من الدراسات العلمية التي تعنى بقضيّة التدين، إلا أن هناك دراسات أخرى وعلماء كثيرين توصلوا من خلال أبحاثهم إلى حقيقة وجود فطرة التدين عند الإنسان منذ الولادة، وكان آخر وأحدث ما نشر في هذا الصدد ما ذكرته صحيفة "الديلي تلغراف" في عددها الصادر في (16 حزيران 2009م) عن الدكتور "جستون باريت" أحد الباحثين الكبار بمركز الأنثروبولوجيا والعقل بجامعة أكسفورد ببريطانيا أن الأطفال ‏يولدون مؤمنين بالله، وسبب إيمانهم أن أدمغتهم صُمِّمَت بطريقة ‏تجعلهم يؤمنون.

ومما لا شك فيه أن حسّ معرفة الله بنظر القرآن الكريم والأحاديث الإسلامية هو من الأحاسيس الأصيلة التي لها جذور في ذات الإنسان، بل إنّ الإحساسات الدينيّة هي فطرية أيضاً، قال تعالى: (فَأقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَت اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ...). وقد أشار تعالى في الآية إلى الخصوصية الأوّلى باستخدامه لفظ فطر وإلى الخصوصية الثانية باستخدامه لفظ الناس الشامل لعموم الناس. وفي قوله تعالى: (حُنَفَاء لِلهِ...) يقول زرارة: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: (حُنَفَاء لِلهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِه). قلت: ما الحنفية، قال: "هي الفطرة". ويقول الإمام الصادق عليه السلام في بيان حديث رسول الإسلام صلى الله عليه و آله الذي يقول فيه: "كلّ مولود يولد على الفطرة": يعني على المعرفة بأنّ الله عزّ وجلّ خالقه، فذلك قوله : (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ).

وهذا يؤكد لنا حقيقة أن وجود التدين هو حاجة أساسية في حياة الإنسان، فهو من جهة يسهم في الإجابة عن الأسئلة التي تدور في ذهن الإنسان عن أصل الوجود ونهايته وسببه، وعن الموت وأسراره، وعن الروح وأسرارها، وسواها من أسئلة عجز العلماء قديما وحديثا عن الإجابة عنها.

ومن جهة أخرى يسهم التدين في استقرار النفس، ويحقق للإنسان التوازن المادي والروحي والفكري الذي يحتاجه، كما يضبط الانفعالات والعواطف والميول، ويسهم في حصول الإنسان على الراحة والطمأنينة التي يحتاجها لمواجهة صعوبات الحياة. ويعد التدين عاملاً مهماً في استقرار وأمان المجتمعات، وإقامة مبادئ التكافل والعدل والنصرة والمحبة والعطف، وما إلى ذلك من مشاعر وأخلاق ترتبط جذورها بالدين ارتباطا وثيقا.

أخيرا نقول بضرورة تعهد الفطرة بالتربية والتوجيه ضمن القيم والأخلاق التي جاء بها الرسل والأنبياء فإنّ الاكتفاء بفطرية التدين لا تحقق وحدها التدين المطلوب فعلى كل مكلف أن يتعلم شرائع الدين ويطبقها حتى لا يحيد بفطرته عن الطريق الحق الذي جبلت عليه.

أخبار ذات صلة