أمجد سعيد
قد يكون الفهم والتأويل ذو المنظور النسبي سبباً من أسباب التنميط العقلي والفكري، أمّا سقوط الفردانية على البعض قد يكون سببه الرئيسي هوة في سقف المنظور الشامل. البروفيسور اللبناني فيكتور الكك في مقالته: "جلال الدين الرومي والثقافة العربية في إشعاع كوني" لم يأت من بابِ محايد، بل شرّع الباب على مصراعيه لسيرةٍ خالدةٍ عبر الزمن قد تكون من السير العظيمة لدى المتصوفين والعارفين بالله أو بشكل أخص (الدراويش) وتُطبق هنا فكرة القتل والولادة، هذا هو حال لسان المتصوفين بعد الضرر الذي ألحقه جنكيز خان ومحاولة إبادة التاريخ (القتل) منها انطلق محمد بن محمد بن بهاء الدين من بلخ (أفغانستان) إلى قونيه (تركيا) المشهور بجلال الدين الرومي هرباً من سياط وحشية المغول (الولادة). وقد يعتبر بعض المستشرقين أمثال أرثر أربري وفريدريش روكيرت أن هجرته الاضطرارية كانت نقطة التحول الأولى في أسطرة جلال الدين الرومي، أمّا نقطة التحول الثانية والتي تعتبر حجر الأساس في حياته هي التقاؤه بالأب الروحي شمس الدين التبريزي، الرومي الذي نشأ وتتلمذ شأن كل علماء الإسلام المعاصرين له على تلقي التعاليم الدينية الأساسية والتقليدية، لكن، وهنا سر المنظور الشامل، هو أنه لم يكن عادياً البتة، ويرجع فيكتور الكك الأمر إلى أن جذور هذا الاختلاف مغروسة في نظرته الآخذة بالدين من باب المحبة والمعرفة والرحمة.
لا مندوحة لمتتبع سيرة الرومي خلال حياته وبعد مماته، من الوقوف أمام رائعته (المثنوي المعنوي) والتي تُعد دائرة جامعة للمعارف العربية والإنسانية، الرومي الذي اعتصر ما بجعبته ماراً بكل حقول العلوم الإسلامية والتفاسير، ماسحاً على علوم الرياضيات والفلك وبقية العلوم المهمة، ولاعجب فيمن يعد (المثنوي المعنوي) قرآن العجم لأنّه وببساطة يستند استناداً تاماً على القرآن كجوهر، أما مؤلفات الرومي الأخرى والتي لا تقل أهمية عن رائعته، منها (الديوان الكبير) الذي كان مخصصاً لشمس الدين التبريزي و(الرباعيات) التي تتكون من 1659 رباعياً كما أحصاها العالم الإيراني بديع الزمان فوزانفر، يُرجع البعض مخزون مؤلفات الرومي الرائع إلى معاصرته بعض القامات الباسقة في سماء العلماء العرب والفلاسفة منهم ابن الفارض وابن عربي. قد يكون الأمر أن الرومي استسقى منهم بعض العلوم، ولاشك في ذلك لمتتبعي تاريخ الرومي لأنّه كما تشير التواريخ قد عاصر ابن الفارض واحداً وعشرين عاماً وهذه ليست بالمدة الهينة، أمّا السلوك المشترك الذي سلكه الرومي وسلكه أيضا ابن الفارض وابن عربي وصدر الدين القونوي وغيرهم الكثير، هو سلوك غياب أو محو تمايز المدركات الحسية، وهو أنّ تقوم حاسة أخرى - كحاسة الشم- بعمل حاسة أخرى - كالنظر- والاشتراك في هذا السلوك يفضي إلينا أن رافد الفلسفة لدى الرومي وابن فارض والبقية قد يكون متشابه نسبياً. أما فلسفة الحداثة وعلوم العصر الحديثة فتُفند محو تمايز المدركات الحسية إلى معنى التجرد التام، والتجرد ليس إلا أحد القوائم المتينة التي يقوم عليها منظور جلال الدين الرومي، فمولانا كان لا يأخذ بالعلوم العقلية ولا بالفلسفة والفلاسفة حتى أنه قد توصل إلى ذم البعض في كتاباته، في المقابل نجد أن ابن عربي يعتمد اعتماد كليا على العلوم العقلية والفلسفة والبراهين، وهو ما يحيلنا إلى نسبية تشابه الرافد الفلسفي.
ما يسترعي الالتفات والنظر هي القفزة التي قفزها الرومي في حياته فأصبح بالتالي مصدرًا من مصادر الإلهام لعدة فلاسفة ومفكرين ومنظرين وأدباء حول العالم كله، وهذا ما يحيلنا إلى أن ثقافة وفكر الرومي كانا اختصاراً لشتى العلوم والمعارف في عصره، ومن هذا المنطلق انتشر تأثير ثقافة وفكر مولانا ليصل إلى أقطار مختلفة كأروبا وأمريكا، وهو ما أثر في روحانية الإنتاج عند فلاسفة وأدباء عظام أمثال لافونتين ديدور" ويجد المتتبع للأدب الألماني أن ديوان غوته (الغربي- الشرقي) له الدور الكبير في العودة إلى روحانية النص بعد تمهيد فلاسفة ومفكرين كبار لهذا الأمر أمثال روكيرت، فون هامر و أولياريوس". وما يجب أن يُذكر هو أنّ جوهر المنظور الفكري والثقافي للرومي كان الإيمان الروحي ولكنّ التأثير الشاسع الذي توصل إليه مدّ بأذرعه إلى الإلحاد فنجد أنّ الفيلسوف فريدريك نيتشه انصبغ بالصبغة ذاتها من خلال حافظ الشيرازي الذي تلى مولانا وتأثر كما تأثر أغلب أعلام بلاد فارس بثقافة الرومي. وما توصل إليه فيكتور الكك من خلال بحثه لهو خير دليل على الأثر الكبير ما بين نيتشه والرومي من خلال وساطة حافظ شيرازي وهو "نظرية السوبرمان" الإنسان الذي يتجاوز نفسه وينشد الكمال بالطبع مع بعض الاختلافات الجوهرية في النظرية منها عند الرومي قهر النفس ومحاولة الاتصال والعودة، أمّا لدى نيتشه فأساسها التحرر من قيم المجتمع الغربي. ومن ملحد ألماني إلى ملحد فرنسي آخر هو لويس أراغون، فكما كان تأثير الحب والرحمة لدى الرومي جوهريا للوصول إلى أسمى حالات الروح فردانية، فإن لويس أراغون يقول: "إنّ الذهنية الميتافيزيقية بالنسبة إليّ نشأت من الحب، الحب كان ينبوعها، ولست أريد بعد اليوم أن أغادر هذه الغابة المسحورة"، فالحب لدى الرومي ولويس أراغون سمة جوهرية، ولا شك في أنّ الترجمات العظيمة التي قام بها فريد الدين العطار وعبدالرحمن جامي في فرنسا لها إسهامات ليست بزهيدة، هذه الترجمات للأدب الفارسي للفرنسية أعطت مسحة روحانية على عدد من أعمال بعض الأدباء والمفكرين أمثال موريس بارس و أرمان رينو الذي أعلن بنفسه تقليد جلال الدين الرومي في مقطوعته بعنوان "السكر المضىء".
أمّا في الغرب الأقصى من العالم وبالأخص أمريكا فإن الرواج الذي حققه الرومي في الأدب الأمريكي حسب ما جاء على لسان جيروم كلينتون هو التبدل الكامل في الذوق الشعري لدى الأدباء الأمريكيين والتحول من الحميمية لدى الشعراء إلى الموضوعية البحتة؛ لذلك لُطم معظم الشعراء الأمريكيين في خلو شعرهم من الروحانية والقدسية. ومرة أخرى تكون الترجمة هي الأنبوب الذي يسري فيه إشعاع الرومي وتأثيره في كل الاتجاهات، ويُعد نجاح باركس في ترجمة أشعار الرومي إنجازاً لا مثيل له، وكان له أثر كبير على الشعر الأمريكي بعد محاولات روبرت بلي ومروين لترجمة بعض أعمال الرومي والتي باءت بالفشل.
ولايزال تأثير الرومي ينبض بالحياة في العالم إلى وقتنا هذا فنرى أن تأثيره استوقف أسماء لامعة في مجال الأدب والفن. مغنية البوب مادونا لويز كيكون الشهيرة بـ "مادونا" غردت ببعض أشعار الرومي في أغنيتها "تعلم أن تقول وداعاً"، والروائية التركية أليف شافاك توّجت قلمها برواية قواعد العشق الأربعون والتي لاقت رواجاً هائلاً في المجال الروائي. برأيي أنّ المتتبع لسيرة جلال الدين الرومي يجد التنوّع والشمول لاسيما في الجانب الشعري والأدبي، ولكن قد تكون الفجوات أعمق لدى الرومي في الجوانب العقلانية والعلوم التطبيقية.
