أقدمهن معرفة بالله

أحمد المكتومي

إنَّ الموقفَ الذي عرضه لنا عبدالله إبراهيم في حواره عن "أمة الكتب الأولى" يُثبت أنه شديد الملاحظة ومعارض بقوة أفكار ابن الفضل العمري، وبعض المؤرخين والجغرافيين فيما يقولونه عن الصابئة. وهذا الذم والقدح في هذه الديانة من قبل العمري وغيره ناتج عن عدم إيلاج أنفسهم في هذه الديانة لمعرفة ماهية لها كما قال الشافعي. وإنما كل الأفكار والروايات هي نقل شفهي من قبل العامة وهذا ما نفاه عبدالله إبراهيم؛ حيث أثبت من أنها هي أقدم ديانة على الإطلاق وهي مماثلة للطاقة التي لا تفنى، وإنما تتحول من شكل إلى آخر كما عرفها العرب سابقا؛ فقد كانوا يطلقون على النبي محمد -صلى الله على وسلم- اسم الصابئ ومعناه النبي الذي خرج من دين قريش إلى الإسلام. الصابئة هم قوم يوحدون الله تعالى ويقولون إنهم يتبعون شرع يحيى وآدم عليهما السلام والبعض يقول شرع إبراهيم عليه السلام في المقابل يتبع المسيحيون واليهود شرائع أنبياء آخرين؛ فما وجه الاختلاف بين الصابئة والديانات الأخرى؟

... إنَّ التعايش مع الأفكار والآراء التي عرضها المؤرخون والجغرافيون تشير إلى أن الصابئة يتحدثون العربية باللهجة السريانية، وهذه اللهجة تحمل بعض المفارقات في بعض الحروف العربية حيث تقلب الغين إلى همزة والحاء إلى هاء. فالصابئ في اللهجة السريانية هي صابغ في اللغة العربية، والصابغ هو المعتمد والمغتسل بالماء. لقد وجدت الصابئة نفسها في العراق وبالأخص على نهر الفرات، وهو أحد الأنهار المقدسة، وهذا ما أثبتته بعض نصوصهم في كتبهم المقدسة.

إنَّ الإشكالَ يكمُن في تصنيف هذه الديانة؛ ففي موضع من القرآن وبالأحرى في سورة المائدة حيث يقول الله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ". لقد أورد الله تعالى الصابئين من جملة أهل الكتاب، ولكن لم تأت رواية تثبت أنهم دفعوا الجزية في عهد الدول الإسلامية كما فعلها أقرانهم من أهل الكتاب إلا في موضع واحد في زمن الخليفة العباسي القاهر بالله، وعلى العكس أثبتوا أنهم موحدون في زمن الفتوحات الإسلامية حيث عرض زعيمهم الديني (آنوش بن دنقا) كتابهم المقدس وأخبرهم أنهم أتباع يحيى بن زكريا فتركهم الفاتحون في سلام؛ الأمر الآخر إذا فرض أن الصابئة هم من المشركين فلم لم يقتلهم الفاتحون الإسلاميون؟

يقول الله تعالى في سورة الحج: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ"؛ حيث قال الله بلغة التبجيل "إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ"، ولم يقل إن ربك يفصل بينهم؛ لأنه سبحانه يريد أن يضع بين يدينا نموذجا راقيا للعدالة المطلقة بين كل الديانات؛ فلو قال إن ربك فمعناه أن الله يميل إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم على حساب الديانات الأخرى، ولكنه هو القاضي العادل، وهنا دليل آخر على أن الصابئة هم من أهل الكتاب. الغريب في هذه الآية والآية التي سبقتها من سورة المائدة هو ذكر كلمة الصابئين بجوار كلمة النصارى؛ فهل هذا يعطي دليلا على أنهم من أهل الكتاب؟ ونحن كما نعلم من أن القرآن الكريم لا يحمل صدفا، وأن كل شي قائم على السببية. إذن؛ أيقنت لنا الآيتان الكريمتان أن الصابئة هم من أهل الكتاب وأنهم موحدون، فهم بهذا يدخلون الجنه شريطة أن يؤمنوا بجميع الأنبياء إلى آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم. وإذا كان مصيرهم الجنة فلما هذه الضجة التي يفتعلها علماء الدين والمفسرون أم أن هناك تفسيرا آخر تتضمنه الآيات الكريمة.

...

إنَّ الحديثَ بين المفسرين والجغرافيين واختلاف آرائهم خلق تشويشا في عقول العامة من أجل تصنيف هذه الديانة؛ فالبعض يقول إنهم من أهل الكتاب والبعض الآخر جعلهم من الفرقة التي خرجت من دين أهل الكتاب؛ وإذا كانت هكذا فلمَ لم يقتلهم الخليفة العباسي؟ إضافة إلى بعض المفسرين الذين قالو إنهم فرقة من الموحدين. كل هذه الآراء ليست إلا روايات وأحاديث، وإلا لأوضح الإسلام موقفه الصارم من هذه الديانة؛ بحيث يقطع الشك باليقين.

فلو أخذنا بالقول الأول والأكثر رجاحة وقوة وقلنا بأن الصابئة هم من أهل الكتاب فعن أي كتاب نتحدث؟ إن الأمور أوضح من الشمس في كبد السماء؛ فالكتب السماويه هي أربعة (القرآن والتوراة، والزبور، والإنجيل) فأي كتاب هو ذاك الذي تؤمن الصابئة به؟ وهل يعقل أنَّ هذا الكتاب هو من جملة الكتب السماوية الأربعة؟ فلو تمعنا النظر في سورة مريم حيث يقول الله تعالى (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ  وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) لوجدنا أن هناك كتابا سماويا آخر يخص النبي يحيى بن زكريا ويرجح أنه كتاب الصابئة المقدس ليصبح إجمالي عدد الكتب السماوية خمسة كتب وهو نفس عدد المرات التي ذكر الله تعالى اسم يحيى في القرآن، وهذا يرجح كفة الصابئة من أنهم أهل الكتاب وقد أطلق الصابئة اسم كنز الله أو (كنزا ربا) على هذا الكتاب. ماذا يحوي هذا الكتاب المقدس؟ وهل فعلا هو كتاب من الله تعالى مثله مثل الكتب السماوية الأخرى؟ إن كان هكذا فلِمَ لم يذكر الله تعالى اسم هذا الكتاب صراحة؟

إنَّ كتاب كنزا ربا هو كتاب يماثل الكتب السماوية حيث يملك هذا الكتاب الرواية الكونية منذ أن خلق الله آدم على وجه الأرض وحتى آخر الأنبياء والمرسلين. الجميل في الأمر أن هذا الكتاب يشبه الكتب الصوفية الجميلة حيث العشق والرجاء، وأيضا يحمل الكتاب في حناياه دروسا وعبرا؛ حيث يوجد فيه الأدعية والوعود والتضرعات والترغيب والترهيب. يقول الصابئة إنَّ هذا الكتاب المقدس هو أقدم كتاب عرفته البشرية حيث بنت البشرية أسس الحياة والتعاليم الوجودية من هذا الكتاب مما يعطي الصابئة الأفضلية على أمم الكتاب التي أتت بعدها؛ فهي اتبعت ملة آدم عليه السلام، وهذا ما فسره عبدالله ابراهيم أنها أقدم ديانة على وجه الأرض؛ فهي لم تختف ولكنها انصهرت في الديانات الأخرى.

إنَّ المتأمل في الكتب والروايات والتفسيرات التي نثرها ابن الفضل العمري والمسعودي والشهرستاني...وغيرهم الكثير من العلماء والمفسرين والجغرافيين يدنسون صورة الصابئة بأبشع وأقبح الصور ويقترفون في حقهم خطأ كبيرا من شأنه أن تنبذ وتستبعد هذه الديانة فلماذا هم ينعتونها بصفات عبدة الهياكل وأنهم عبدة النجوم والملائكة وغيرها؟

إنَّ الله سبحانه خلق الكون بأجمل الحلل وزينه بالنجوم والكواكب؛ فلا عجب أن تنبهر الديانات بجمال هذه المخلوقات فتميل إليها بنوع من الانبهار لدرجة أن بعض المفسرين يظنون هذه الدرجة من الإعجاب عبادة. ولكن الأمر ليس هكذا البتة. إن الموقف الذي عرضه العمري وجماعته واستشرف به عبدالله إبراهيم هو نابع من تكون قوة عظيمة للأمة الإسلاميه حيث أن علاقة الإنسان هي علاقة شفافة مجردة لا تحتاج إلى وسيط. وأما كون بعض الديانات تمثل الله في بعض الهياكل فهذا ليس بغريب فكل مسلم متيقن من وجود الله وأنه لا تدركه الأبصار يريد تجسيدا يقربه من فكرة الله جل على.

لقد وَعَد الله تعالى كلَّ صابئ يؤمن بالله واليوم الآخر ويؤمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وكل الأنبياء بأن له الجنة، ولكن ما قول العلماء في الآية: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ"؟

أخبار ذات صلة