محمد السماك
توجد في بحر إيجه الذي يفصل بين تركيا واليونان جزيرتان متقابلتان: لسبوس في اليونان، وآسوس في تركيا. يفصل بين الجزيرتين ممر مائي ضيق.
اشتهرت الجزيرتان مؤخراً عندما أصبحتا قاعدتي انطلاق المهجرين السوريين عبر تركيا الى اليونان، ومن اليونان إلى المانيا. وفي جزيرة لسبوس، كانت تبدأ المسؤولية الأوروبية عن المهجرين الذين تجاوز عددهم في عام 2015، المليون شخص.
ولكن عندما اتفقت تركيا مع الاتحاد الأوروبي على العمل على وقف الهجرة أو الحد منها على الأقل، التزمت تركيا بوقف الرحلات البحريّة التي كانت تتم بواسطة زوارق مطاطيّة من جزيرة آسوس وذلك مقابل مساعدات مالية أوروبية تمكّن تركيا من تحمّل أعباء تجميع المهاجرين في الداخل التركي، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.
غير أنّ شهرة الجزيرتين تعود إلى العهد الذهبي اليوناني الأول. فقد كان الفيلسوف الكبير أرسطو يتنقل بين الجزيرتين باحثاً ودارساً، حتى أنّه أقام في جزيرة آسوس مدرسته العلمية الأولى.
يروي المؤلف أرماند لوروا في كتابه كيف أن أرسطو – وخلافاً لأفلاطون- كان يبني نظرياته الفلسفيّة على العلوم. ويقول إن أرسطو من خلال مراقبته للحياة البحرية بين الجزيرتين، كان أول من وضع النظريات العلمية حول عالم الأحياء.
ويفسر المؤلف ذلك بالتأكيد على أن أرسطو كان دائماً يترك مسافة للتفكير والتأمل وللبحث والتنقيب بين التصورات والوقائع. وكان يشكك دائماً في المظاهر الخارجية لما كان يبدو أنه "حقائق" ثابتة ومستمرة، وكان يبحث عن خلفيات هذه المظاهر التي غالباً ما تكون مختلفة تماماً في جوهرها عما كان يعتقد أنه حقائق. واعتماداً على هذه النظرية لأرسطو، تمكن كوبرنيكوس فيما بعد والذي كان من المتأثرين جداً بنظريات أرسطو العلمية، من تصحيح الصورة العامة لنظرة الإنسان إلى الكون من حوله. فقد كانت النظرية تقول إن الأرض ثابتة والكواكب تدور من حولها؛ هكذا كانت تبدو الصورة العامة بمظاهرها الخارجية. ألا أن كوبرنيكوس تحدى هذه النظرية بعد التشكيك فيها واثبت أن كل الأجرام السماوية متحركة وأن لكل جرم مداراً يدور فيه. ولما كانت الكنيسة في ذلك الوقت تؤمن بالنظرية الأولى، فقد حرمته، وحكمت عليه بالإدانة، ليثبت فيما بعد أنه كان ومعلمه –أرسطو- على حق !!. ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة العلمية في الآية التي تقول:" لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار.. وكل في فلك يسبحون" (سورة يس – 40) .
يعترف المؤلف أن أرسطو لم يقم بأي تجربة علمية (في المختبر) ولذلك لا يمكن تصنيفه عالماً وفق المعادلات المعاصرة. ولكن ملاحظاته العلمية كانت تقوم على المراقبة والدراسة. ومن خلال الفلسفة كان يشكك في الظواهر، ويحاول سبر أعماق الوقائع للوصول إلى الجوهر. وهناك كان يكتشف الحقائق العلمية التي تقدم مفاهيم مختلفة إلى حد التناقض مع المظاهر التي كانت توحي بمفاهيم ثابتة لدى العلماء وبقناعات راسخة لدى رجال الدين استمرت حتى عصر النهضة الأوروبية.
الاختلاف بين إفلاطون وأرسطو، كما يقول المؤلف في كتابه، هو أن الأول كان يتعامل مع المظاهر ويفلسفها بعمق. أما الثاني فكان يشكك في المظاهر ويحاول تفسيرها علمياً.. حتى أنه أقام فلسفته على أساس المفاهيم التي توصل إليها، وليس على أساس الاعتقادات التي كانت رائجة في زمانه.
ويقدم المؤلف مثلاً على ذلك، حديث أرسطو عن المتغيرات التي تطرأ على الكائنات الحية بقوله: يجب أن نولي عناية أقل للمادة مما نوليه للمكونات التي تتألف منها (الخلايا الحيّة) وما تحمله من شيفرة معلومات.
ومن خلال هذا القول يبدو أرسطو في نظر مؤلف الكتاب وكأنه كان سباقاً إلى محاولة فهم أسرار تكوين ودور "الجينوم" DNA وما يحمله من مورثات ومن معلومات للخلايا الحية.
وانطلاقاً من ذلك يطلق المؤلف على أرسطو لقب: أب العلوم، أو مخترع العلوم، وهو اللقلب الذي اتخذه عنواناً لكتابه.
ويلتقي المؤلف في ذلك مع كاتب آخر هو أرنيست مايرEarnest Mayer في كتابه العلمي المعروف "نحو فلسفة جديدة للعلوم الطبيعية Toward a New Philosophy of Biology. ففي هذا الكتاب يقول المؤلف: إنه لأمر شرعي جداً أن نعود بالعبارات الحديثة مثل "البرنامج الوراثي Genetic Program " إلى أرسطو الذي استخدم في أيامه كلمة إيدوس Eidos للتعبير عن المضمون العلمي ذاته.
غير أنّ المؤلف أرنست ماير يقول إنّ نظرية أرسطو حول "الأجناس الثابتة" لا تتماشى مع النظرية العلمية الأكثر تقدماً وهي نظرية التطور.
مع ذلك يصرّ مؤلف كتاب "الممر المائي" لوروا - وهو عالِم إلى جانب كونه كاتباً – على أن أرسطو، ليس عالماً فقط، ولكنه بطله في حقل العلوم (يعتبر المؤلف أحد العلماء المبرزين في أوروبة) . وأنه - أي ارسطو- يتجاوز بذلك أبطال العلوم الحقيقيين: كوبرينكوس، وكبلير وغاليليو الذين وضعوا نظريات علمية "تجريبية" قامت على أنقاض النظريات التي اعتمدت منهج التصور والتفلسف والتخمين.
ويعطي هؤلاء العلماء فضلاً كبيراً لأفلاطون وليس لأرسطو وحده، وذلك اعتماداً على كتابه الشهيرTimaeus الذي أرسى فيه نظرية تقوم على أساس أن المقاييس والنظريات الحسابية هي التي تفرّق بين ما هو صحيح وما هو وهمي. وأنه بالحساب وحده يتبدد الوهمي ويثبت الصحيح. وأن العلوم الحسابية هي وحدها المفتاح إلى علوم الكون. وكان كتاب إفلاطون متداولاً بين علماء عصر النهضة، وقد تأثروا به في إعداد دراساتهم، ومن ثمّ في وضع نظرياتهم العلمية المستمرة - بشكل أو بآخر- حتى عصرنا الحالي.
في القسم الأخير من الكتاب يعتبر المؤلف العالِم لوروا أنّ التهمة التي وجهها إلى أفلاطون بأنّ مقارباته العلميّة لا يمكن فصلها عن مقارباته العقدية (والفلسفية) يمكن أن توجه أيضاً إلى أرسطو نفسه.
وبالنتيجة فإن الفيلسوفين الكبيرين إفلاطون وأرسطو كانا أسيري اعتقاداتهما الدينية. وكان لتلك الاعتقادات أثر عميق في توجه كل منهما فلسفياً وفي مقاربة كل منهما للحقائق العلمية.
وعلى خلفيّة هذه الدراسات التي تجمع بين الفلسفة والعلم والدين، وضعت ربيكا نيوبرغر وهي مسؤولة القسم الأدبي في صحيفة نيوروك تايمز كتاباً جديداً بموضوع: لماذا ستبقى الفلسفة ولن تزول .. حتى في عصر غوغل Plato at the Googleplex Why Philosophy won’t Go Away.
وتقول نيوبرغر في كتابها إنّ العلماء المعاصرين يفهمون اليوم أعمال أرسطو وإفلاطون أكثر مما فهمه العلماء السابقون. وأن ذلك يعود إلى أنّ علماء اليوم ارتقوا إلى مستوى المعرفة التي كان عليها أرسطو وإفلاطون.
وتضع الكاتبة الفيلسوفين على درجة واحدة من حيث المعرفة العلمية وتقول إنّ أيا منهما لم يبلغ المستوى العلمي الذي يمكن معه تصنيفه عالماً. بل فيلسوفاً ومفكراً. ذلك أن للعلم أصوله وقواعده وأبحاثه، وهو ما لم يكن متوفراً في أعمال إفلاطون أو أرسطو.
------------------------------------------------------------------------
اسم الكتاب: الممر المائي: كيف اخترع أرسطو العلوم
The Lagoon : How Aristotle Invented Science
اسم المؤلف: أرماند ماري لوروا Armand Marie Leroi
اسم الناشر: فايكنغ Viking
تاريخ النشر: 2015
عدد الصفحات: 501
