ماجد العلوي
يُحاول هذا الكتاب تقديم تصوُّر علمي عن ظاهرة الكذب، هذا التصور ينطلق من الأسس اللسانية؛ لأنها أسس علمية محايدة تُخلِّص الكاتب من زيف الاعتبارات الأخلاقية والفلسفية ذات الأحكام المسبقة التي حجبت هذه الظاهرة بحجة أنها ظاهرة عارضة يرفضها الضمير البشري، ولكن الكذب ظاهرة كونية، أو كما يقول المؤلف: "الكذب موجود في الكون، وهو موجود فينا ومن حولنا"، ولا يستطيع الإنسان أن ينفي هذا الزعم، ولا يمكنه أن يتجاهل ظاهرة الكذب، وهي متأصلة في ذواتنا متشعبة في ممارساتنا، لكنَّ الدراسات الكلاسيكية أقصت هذه الظاهرة حتى خرجت من الادراك البحثي، وما إنْ ينغمس وعي القارئ في هذا الكتاب حتى تتضح له رسوخ هذه الظاهرة بأسسها الوجودية وتشعباتها الحياتية.
إنَّ الأسسَ النظرية والاستعمالية المتينة التي وضعها المؤلف عن ظاهرة الكذب ستثير اهتمام الدارسين؛ لما لها من قدرة على قلب الموازين السائدة عبر التاريخ، وستفضح الوجوه المتسترة خلف الأقنعة، وستراجع ترسبات مظاهر الكذب في الذات الإنسانية مراجعة ترتكن إلى أحكام اللسان العلمية لا إلى الآراء التقليدية.
لقد مهَّد المترجم في بداية الكتاب بأفكار مهمة تشرح منهج المؤلف، ولعل من أبرزها:
1- اعتماد المؤلف على أدوات لغوية في تحليل ظاهرة الكذب، ويكثر من الإحالات الأدبية والنقدية؛ مما جعل من أسلوبه سلسا وجذابا.
2- انفتحت معالجة المؤلف للكذب على العلاقة بين مستويات تحليل الكذب لسانيا، وإسقاطاته الفلسفية، وكان من أهم نتاج هذا التمازج إقرار الوجهة التي ترى أن الكذب جزءٌ لا يتجزأ من اللغة، وافتراض أن الناظر العارف يدرك أن معالجة الكذب لا يمكن أن تُفصل عن معالجة الحقيقة.
3- ضارع المؤلف كبار المفكرين من أمثال: أوغسطينوس، وتوماس الأكويني، وفولتير، وفيتغنشتاين، في الإسهام في الإجابة عن السؤال: هل بإمكان الكلمات إخفاء الأفكار؟ وهذا السؤال يفكك الاعتقاد السائد بأنَّ اللغة جسر للتواصل، وأداة للتعبير عن الأفكار، ولذلك قال تاليران: "لقد وُهبت اللغة للإنسان كي يتستّر بها على أفكاره".
4- من أهم طرائف معالجات المؤلف أنه تناول البلاغة لكونها طريقة خاصة تتناسب مع تلونات الكذب؛ وذلك يكون من خلال طغيان المجاز على الشعر، ومن خلال قلب الحقيقة إلى سخرية، أما من أهم جوانب الإخفاق الواضحة في معالجات المؤلف فإهماله للجانب النفسي في رصد هذه الظاهرة.
5- يُقر المؤلف بأنَّ للكذب علامات نفسية وجسدية، ولكنه يركز كثيرا على العلامات اللغوية، ويرى أن هذه العلامات تتعدى المستوى التركيبي والدلالي للغة؛ فهذه العلامات ذات خاصيات نصية وعلامات فوق جملية تجعلها ذات طبيعة تداولية.
هذه الفكرة لا ترمي للكشف عن الكذب بقصد إلغائه، والتعرف على إشاراته؛ فهذا حسب وجهة نظر المؤلف محال؛ لأنَّ الكذب كما يقول: "محايث للغة"، لا يكون إلا بها ولا تكون إلا به.
6- يبيِّن المؤلف أنَّ معالجة إشارات الكذب في المستوى الدلالي بعيدا عن المستوى التداولي تكون غامضة وفضفاضة؛ إذ تتحول تلك الإشارات إلى قدرة سيميائية واسعة تفتح إمكانات لا متناهية من الاحتمالات، وبالتالي تختفي المقاصد تحت هذا الركام.
7- يتأسَّس الكذب من بنى فكرية تقوم على الزيادة، والاختلاق، والتزيين، والتخليط، ويرى المؤلف أنَّ إشارات الكذب كلما كانت واضحة والمبالغة فيها غير منطقية، كان الكذب مستملحا.
هذه الأفكار وغيرها جعلتْ من كتاب "فاينرش" كتابا مجدِّدا كما يرى المترجم، "ففيه تناول الكاتب مسألة الكذب لأول مرة من وجهة النظر اللسانية، وعلى الرغم من الملاحظات العابرة التي قدَّمها مفكرون من مثل أغسطينوس، فإن المسألة كانت غفلا منسيا"؛ لذا استطاع المؤلف أن يُؤصِّل ظاهرة الكذب لتكون قاعدة يبني عليها الدارسون أبحاثا تتعلق بالكثير من الدراسات اللغوية، خصوصا فيما يتعلق بفك شفرة الكذب ومخاتلاته النصية.
وولد هارالد فينريش سنة 1927م، ودرس أستاذا بجامعات كيل، وكولونيا، وبيليفيد، وميونخ، تقاعد هارالد فينريش عام 2010م، حصل على الدكتوراة الفخرية من جامعة بيليفيد وهايدلبرج، وأوغسبورج، وقد حصل على العديد من الجوائز. من أهم مؤلفاته: "دون كيخوته العبقري"، و"الزمان: الكون الموصوف والمحكي"، و"أدب للقراء"، و"أساليب الثقافة اللغوية"، و"نهر النسيان: فن النسيان ونقده".
جوهر الكتاب وأهم استعراضاته
يتضمَّن الكتاب دراسة لسانية جديدة لظاهرة الكذب، وعلاقة هذه الظاهرة باللغة، وقد استطاع المؤلف معالجة تمظهرات الكذب بمنهج لساني خلافا لما هو شائع في الدراسات الكلاسيكية التي تناولت الكذب من منظور نفسي أو أخلاقي أو ديني، وهذا المنهج التجديدي ظهر جليا في عنوان الكتاب بلغته الأصلية "لسانيات الكذب"، فقد "تخلى عن نقد الكذب وذمه، والتغني في محاسن الصدق ومدحه"؛ لذا حاول المؤلف رصد البنى اللغوية التي يتركز فيها الكذب، ويكون جزاءً من نسقها، وركزت تأملاته على كيفية استكشاف الكذب باعتباره موضوعا لغويا، وكيفية الاستفادة منه في إثراء المعرفة اللسانية بمعلومات لا تتوافر في اللغة في مظهرها الرسمي، وليس هذا فحسب، وإنما سعى إلى الاجابة عن سؤال مركزي مفاده: هل تستطيع اللغة إخفاء الأفكار؟!
"الكذب مسألة كبرى".. تحت هذا العنوان ناقش المؤلف جملة من الأفكار المسبقة عن الكذب، وعرَّج على أهم إشارات أوغسطينوس باعتباره "أول من طرح الكذب قضيةً للتفكير الفلسفي واللاهوتي، وكان أول من نظر في الكذب باعتباره ظاهرة لغوية، ولكن أوغسطينوس ارتهن إلى فكرة أنَّ اللغة لم توهب للبشر كي يستعملوها في خداع بعضهم البعض، بل لكي يتقاسموا الأفكار، وكل إنسان يستخدم اللغة في الخداع فإنه يسيء استعمال اللغة، وقد تبنَّى هذه الوجهة من بعده الأكويني وبونافنتورا.
ويتفرَّد المؤلف عن الأفكار السابقة برصد الواقع بحياد، ويرى الكذب منتشرا في معظم مناحي الحياة؛ إذ لا يُمكن أن نصنع عالم السياسة إلا ويكون الكذب جزاء من الممارسات السياسية، بل يرى هرمان كستن أن هناك مهنًا تدفع أصحابها مجبرين إلى الكذب، مثال "رجال السياسة، والشعراء، والصحفيين، والفنانين، والممثلين، ومزيفي العملة، والسماسرة، ومصنعي المواد الاستهلاكية...إلخ، فهذه المهن يتخذ أصحابها لغة واصفة تقوم على أعمال تلفظية تغولية، وعليه فإن فكرنا يتبع مسالك اللغة، وإن كذب اللغة يجبر فكرنا بالضرورة على الكذب.
وفي نهاية المطاف، يرى المؤلف إعادة النظر في تعريف الكذب، فليس الكذب قول شيء آخر غير ما نعرفه ونعنيه، بل الكذب هو كل قول ترافقه رغبة في التزوير.
"الكلمة والنص: هل نكذب بالكلمات؟ أم نكذب بالجمل؟"، يبحث المؤلف عن الإجابة عن هذين السؤالين بدراسة موقع الدلالة في المحادثة. وباختصار شديد، يرى أنَّ اللغة ضرب من العلامات التي تتراوح دلالتها بين الوصول إلى المقاصد وبين تعدد الاحتمالات؛ لذلك غالبا ما تتسع المدلولات بتوسع الدلالة. وعليه فإن فاينرش يضع الدلالة وفق أربعة مبادئ؛ هي: كل دلالة فضفاضة، كل دلالة غامضة، كل دلالة اجتماعية، كل دلالة مجردة.
"الكلمة والمفهوم".. المفاهيم تشمل كل شيء في الحياة، فهي تمر علينا كلما أردنا أن نمسك بالواقع الخارجي، ونضعه ضمن مداركنا، ولكن المفاهيم متغيرة، ومتعددة، وانشطارية، فالمفاهيم كلمات معدة بشكل خاص، ولكننا لا نستطيع الوقوف على المفاهيم إلا من خلال الجمل، ومثال ذلك لا نستطيع الوقوف على المفاهيم العلمية إلا من خلال التعريفات والتعريفات جمل وليست كلمات مفردة.
وتتراوح المفاهيم بين قطبي الدلالة والمقصد، وبينهما يوجد بالفعل سُلَّم متغير يتراوح بين قيم الفضفضة والتحديدات، وبين الغموض والدقة، وبين الاجتماعي والفردي، وبين المجرد والملموس، ويقوم السياق والمقام بدور المرشح لتقليل عدد الاحتمالات.
"التفكير".. يُواصل المؤلف استدلالاته حول لسانية الكذب. وفي هذا المبحث يعالج هذه المسألة من خلال ثنائية الملفوظ (المنطوق) والمسكوت عنه (غير المنطوق)، وكثيرا ما يخالف منطوقنا تفكيرنا، ولذلك يأخذ الكذب منحا خطابيا.
وبعد سرد جملة من الملاحظات الاجتماعية التي تنطوي على الكثير من المخاتلات اللغوية كالسخرية، والشعر...وغيرها، يتساءل المؤلف: هل نستطيع تجنب الكذب مطلقا في حياتنا، ربما هذا ممكنا للحياة الشخصية وبقدر محدود، ولكن الكذب أصبح سمة يجلبها الخوف والفقر والاحترام والتأدب والمجاملات...وغيرها. إذن؛ الكذب موجود في الكون وهو موجود فينا ومن حولنا، أما علاقته باللغة فهو محايث للغة جاثم على نسقها.
وبقدر ما فتح هذا الكتاب من أفكار جديدة، فتح -أيضا- مجالا خصبا من التوهمات. والذي يبدو لي أنَّ المؤلف لم يخلُ من المغامرات الفكرية، ومن الحماس لإثبات قضيته؛ فتوهَّم وجود سلطات خادعة يخشى الوقوع في قبضتها، ومن ثمَّ فهو يفقد الثقة في المؤلف، وفي القارئ، ويعتقد أنَّ كل شيء يُحيط به كذب، بما في ذلك اللغة نفسها. مُدلِّلا على ذلك بأن تعريف الكذب في معجمه الكلاسيكي هو مخالفة الواقع، والمخالفة حاصلة في كثير من ممارساتنا. أما مع الاحتراز الذي نصه فاينرش نفسه "وجود نية الخداع"، فإنَّ خطاباتنا مليئة بآليات الحجب والمخاتلة، لكن علينا أن لا ننساق إلى مثل هذا الحماس الذي يفقدنا الثقة بكل شيء؛ إذ تظهر خطورة هذا الحماس في تشويش إسهامات أركان التخاطب في تحديد المعنى، ومن ثمَّ يستحيل الإمساك بالمقاصد؛ فالمجاز مثلا بكافة صوره يُعد وسيلة إدراكية لا يمكن للمرء أن يستغني عنه في إدراك واقعه، أو حتى أن يعبر عن مكنون نفسه إلا من خلاله. "فالصورة المجازية هي جزء أساسي من عملية الإدراك"، كما أنَّ المجاز محكوم بعلاقة التشابه بين المعنى الوضعي الأصلي، والمعنى المستعار، ومقيَّد بقرائن ينصبها المتكلم عادة لتوضيح مراده؛ لذا فهو وسيلة بيانية وليس أداة تضليل للمخاطب.
--------------------------------
- الكتاب: اللغة والكذب.
- المؤلف: هرالد فاينريش.
- تعريب وتقديم وتعليق: عبدالرزاق بنور.
- الناشر: دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، بالألمانية.
- عدد الصفحات: 190 صفحة.
