مُحمَّد الحداد
هذا التقريرُ هو الثالث في تاريخ منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، وقد أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية لتكون أداة المجتمع الدولي في نشر ثقافة السلام وتعميم العلم والمعرفة ودعم تبادل المعلومات بين مجتمعات الشمال والجنوب ورصد تطورات السياسات التربوية في العالم. وكانت المنظمة أصدرت تقريرا توجيهيا أول سنة 1972 عنوانه "لنتعلم كيف نكون"، ثم تقريرا توجيهيا ثانيا سنة 1996 عنوانه "التربية كنز مكنون".
لقد رأتْ المنظمة أن تطوُّرات كثيرة ونوعية حصلت في السنوات الأخيرة؛ بما يدفع إلى مراجعة جذرية للعديد من القضايا والمفاهيم المعتمدة إلى حدِّ الآن؛ لذلك حمل التقرير الجديد في عنوانه عبارة "إعادة التفكير"، وجاء مُتفاعلا مع الخطاب السائد حاليا، والذي يدور على ضرورة ربط التعليم بتوفير فرص العمل للمتعلمين؛ بما يَعْني أنَّ وظيفة التعليم تختزل أكثر فأكثر في صنف من التكوين المهني، بينما تتقلص الوظائف التعليمية الأخرى التي تهدف لتكوين الإنسان والمواطن ودعم الحس الإبداعي والفني ودعم ثقافة الاختلاف والسلام وربط المتعلم بقضايا عصره ومحيطه.
لقد نَشَر البنكُ الدوليُّ في السنوات الأخيرة عدة تقارير ودراسات تنبه إلى الهوة التي أصبحت تفصل بين المتعلمين وسوق العمل، وقامت العديد من الدول بمراجعات جذرية لنظامها التعليمي لتقليص المواد الإنسانية والأدبية، وتقليص ما يُدعى بالعلوم الأساسية، مثل الرياضيات، والتخلص من العديد من الاختصاصات الكلاسيكية اعتبارا بكونها لم تعد مطلوبة في سوق العمل. لكن ماذا ستكون نتائج ذلك على مستقبل التربية والتعليم؟
تقرير اليونسكو الجديد يُقر بأنَّ النظام التعليمي التقليدي أصبح يمثل عائقا أمام إمكانيات التشغيل المتوفرة أمام الأجيال الجديدة من الشباب، ويكرِّر هذا الإقرار في العديد من أجزائه، وهذا موقف يحمل العديد من الدلالات؛ لأنه أصبح يفرض نفسه في كل الدول تقريبا، لكن: هل يعني ذلك أن رؤية اليونسكو ستتقاطع مع رؤية البنك الدولي، أم أن المنظمة التي أنشئت لتدعم العلم والثقافة في العالم ستحتفظ بخصوصياتها في تشخيص الوضع القائم وتقديم الحلول له؟
يُمكن القول بأنَّ رؤية اليونسكو، كما تبرز من هذا التقرير تتميز باختلافين رئيسيين عن الخطاب الاقتصادي السائد حاليا في موضوع التربية والتعليم:
- أولا: تؤكد اليونسكو بقوة -من خلال هذا التقرير- أنَّ جمود المنظومة التربوية والتعليمية يمثل سببا من أسباب أزمة البطالة في العالم، لكنه ليس السبب الوحيد، وتتبنى النظرية التي تربط البطالة بالثورة الاتصالية والتكنولوجية الأخيرة (يراجع الجدل القائم حاليا حول هذا الموضوع في تقديمنا لكتاب دافيد كوهين المنشور في ملحق شهر مارس الماضي). فالمعاينة التي تتبناها اليونسكو هي أن العالم قد شهد في العشريتين الأخيرتين تراجع الفقر، لكنه شهد في الآن ذاته ازدياد التفاوت داخل كل مجتمع وبين دول العالم، وأن نسبة النمو التي أحدثتها الثورة التكنولوجية الحديثة أضعف من المطلوب لتوفير فرص العمل لشباب العالم كله، بما في ذلك شباب البلدان المتقدمة. فالبطالة هي إحدى المشكلات المترتبة على العولمة وعلى نمط التنمية الذي فرضته، والنظم التعليمية السائدة غير متلائمة مع معطى العولمة فهي تُسهم بذلك في تعميق أزمة البطالة، لكن لا يمكن أن تعد المسؤولة الأولى أو الوحيدة على ذلك.
ومن موقع المسؤولية تجاه الأجيال القادمة، ينبغي أن تراجع البلدان سياساتها التعليمية كي يتلاءم التعليم مع سوق العمل؛ إذ يبلغ عدد العاطلين عن العمل في العالم (سنة 2013) أكثر من 200 مليون شخص. لكن هذا المعطى ينبغي أن يُربط أيضا بتنامي الحيف في العالم، حيث يسيطر 1% من سكان المعمورة على نصف ثرواتها، بينما يتقاسم 99% منهم النصف الباقي. فلا يمكن حل المشكل بمجرد تغيير المنظومة التعليمية، وإنما ينبغي أيضا إعادة التفكير في نمط التنمية الذي فرضته العولمة في العقدين الأخيرين، وقد أدى -كما ذكرنا- إلى تراجع الفقر وتصاعد التفاوت في الآن ذاته. وتبرز هذه المفارقة في التعليم أيضا، إذ تراجع عدد المحرومين من التعليم في العالم تراجعا ملحوظا بينما تزايد التفاوت في جودة التعليم وأصبحت هذه الجودة رهينة القدرات المالية للمتعلم وأسرته.
- ثانيا: تؤكد اليونسكو بقوة -من خلال هذا التقرير- على تمسكها بفلسفتها في التعليم، كما صاغتها في تقريرها السابق الصادر سنة 1996، التي تحدد للتعليم مرتكزات أربعة متكاملة وهي: تعلم المعرفة، وتعلم العمل، وتعلم العيش المشترك، وتعلم أن نكون. فمع إقرار اليونسكو بضرورة ملاءمة المنظومة التعليمية مع حاجيات سوق العمل، فإنها تؤكد أيضا أنَّ هذه المنظمة لا يمكن أن تختزل في جانب إعداد العمال، وإنما هي أيضا منظومة لإعداد الموطن والإنسان، وجعله قادرا على فهم عصره وبيئته.
... إنَّ أهم ما يُميز عالم اليوم هو التغيُّر المتسارع؛ فلا بد أن تراجع المنظومة التعليمية كي يكون الإنسان قادرا على التعامل مع هذا التغير. ويفترض ذلك التخلص من البعد التلقيني في التعليم، وتجاوز النظرة التقليدية التي تربط التعليم ببضع سنوات من الشباب، واستبدالها بمبدأ التعليم المتواصل مدى الحياة وتوفر الفرص باستمرار للفرد لإعادة التأهل حسب تطورات سوق العمل، كما ينبغي أن تعمل المنظومة التعليمية على جعل الإنسان قادرا على توظيف التكنولوجيات الحديثة للتعليم الذاتي.
وتمثل هذه التكنولوجيات أحد المتغيرات الرئيسية ذات التأثير البالغ في الفلسفة التعليمية عامة. فمن إيجابياتها تقديم وسائل غير مسبوقة للتعليم الذاتي، لاسيما وأن جيل الشباب هو جيل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. ويعدُّ العالم حاليا أكثر من مليار شاب وشابة تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة، وتقدر نسبة الشباب المستعمل للتكنولوجيات الاتصالية الحديثة بـ90 بالمائة، كما أنَّ 40% من البشر من مختلف الأعمار يستعملون هذه التكنولوجيات. إنَّ طموح التعليم مدى الحياة والتحيين المستمر للمعارف أصبح ممكنا بفضل هذه المعطيات، بما يدفع المنظومات التعليمية إلى إدماج هذا المعطى في تصوراتها ووضع الطرق المناسبة لتوظيفها والاستفادة منها.
لكن هذه المتغيرات تطرح أيضا الكثير من المشكلات، نذكر منها على سبيل المثال: الكم الهائل من المعلومات الخاطئة والمضللة، وحقوق التأليف والملكية الفكرية التي تحجب جزءا من المعارف المهمة على البلدان النامية، والنزعة إلى فرض مقابل مالي للوصول إلى المعلومات، وإمكانيات توظيف هذه التكنولوجيات لنشر العنصرية والتطرف بل الإرهاب أيضا. إنَّ هذه المخاطر تؤكد مجددا أنَّ العملية التعليمية لا بد أن ترتكز على مؤسسات وسياسات، وأن يتولاها معلمون ومربون متخصصون.
وتُطلق اليونسكو صرخة فزع على تراجع دور المعلمين والمربين في السنوات الحالية، وتدهور مستواهم المعيشي وظروف عملهم، وتحذر من التبعات الوخيمة لذلك. إنَّ جودة التعليم ترتبط حتما بجودة المعلمين، وتقدم فنلندا المثال البارز على ذلك، فهي تقع في المرتبة الأولى في جودة التعليم وفي تقديم أفضل الرواتب والامتيازات لهيئات التدريس.
كما تُطلق اليونسكو صرخة فزع على الغموض الذي أصبح حاصلا بين المبادرات الرسمية والمبادرات الخاصة، وتراجع الإنفاق العام على التعليم. والحقيقة أنَّ الحلول المقترحة في هذا التقرير لمواجهة هذا المشكل الثاني لا تبدو كافية ومجدية، ويشعر قارئ التقرير بنوع من الحرج والاضطراب، فالتقرير يُقر بأنَّ تمويل التعليم لا يمكن أن يتم مستقبلا دون تدخل واسع من الأطراف غير الحكومية، لكنه يطالب في الآن ذاته بسياسات تعليمية متكاملة ورشيدة، ويقترح نوعا من الإدارة الدولية للتعليم. لكن، إذا كانت الحكومات الوطنية قد أصبحت عاجزة عن رسم السياسات التعليمية ومراقبتها، فهل يُمكن لهيئات دولية أن تنجح في ذلك؟ وهل تكفي الدعوة لدعم مشاركة المجتمع المدني في المنظومة التعليمية، والحال أنَّ المفهوم الفضفاض للمجتمع المدني يفسح المجال لكل الانحرافات، مثل السيطرة على المجتمعات الفقيرة عبر المؤسسات التعليمية المعولمة، وتحويل التعليم في بلدان العالم الثالث إلى خزان عمالة رخيصة للعالم الصناعي، كما يحصل في الهند التي تقدم آلاف المهندسين في "الإعلامية" يعملون برواتب زهيدة بالمقارنة بأمثالهم في البلدان المصنعة؟
ومن هذا المنطلق، قد لا يتبيَّن بوضوح الفائدة من الانتقال المفهومي الذي يدعو إليه أصحاب التقرير، أي الانتقال من مفهوم "الصالح العام" إلى مفهوم "الصالح المشترك العالمي". يذكر أصحاب التقرير أنَّ المفهوم الأول قد نشأ في ظل الاقتصاد الليبرالي الكلاسيكي الذي يمنح للدولة مجالات مخصوصة للتدخل، منها التعليم. أما المفهوم الثاني المقترح بديلا عنه فهو يأخذ بعين الاعتبار واقع العولمة وإعادة تعريف أدوار الدولة الوطنية. لقد طرح التقرير أصل المشكلة وهو التنافس بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع في توجيه المنظومة التعليمية، لكنه لم يقدم تطورات واضحة لتوضيح هذه العلاقة، سيما وأن منظمة اليونسكو ما فتئت تلفت الأنظار منذ سنوات إلى خطورة ظاهرة تسليع التعليم التي اكتست العالم كله.
ثمَّة تسليم واضح بأنَّ الدول لم تعد قادرة على تمويل التعليم بمفردها، وشعور قوي بخطر سيطرة المال على العملية التعليمية، وقناعة راسخة بضرورة بقاء التعليم في صالح الإنسان ومجسدا للقيم الإنسانية العليا، لكنَّ التوفيق بين هذه النزعات المتعارضة ليس بالأمر الهين وقد سَعَى هذا التقرير إلى طرح المشكلات وإبراز التبعات المتوقعة. أما الحلول، فربما كانت السرعة المتناهية للمتغيرات حاليا إحدى عوائقها، فلا أحد يمكن أن يتكهن بما ستنتهي إليه التطورات التكنولوجية بعد عشر سنوات أو عشرين سنة من الآن. ناهيك أنَّ بعض المنظرين يتحدث عن اختفاء المؤسسة التعليمية بالشكل المعروف حاليا؛ فهل دفاع اليونسكو عن المؤسسات التعليمية والمعلمين والجامعيين سيكون كافيا في مواجهة "مولنة" التعليم من جهة، وتطور تكنولوجيا المعلومات من جهة أخرى؟ وهل "تدويل" القضية ودعم حكامة عالمية للتعليم يُساعد على الحل، أم أنَّ اختيارات وسياسات الدول الوطنية هي التي ستظل الفيصل؟ الأكيد أننا نعيش تحولات توازي -من حيث العمق والنوعية- تلك التي عاشها العالم في مرحلة الدخول إلى العصر الصناعي. آنذاك اختفت المؤسسات التعليمية التقليدية، وحلَّت محلها المدارس والجامعات بالشكل المعروف اليوم. فهل تختفي هذه بدورها وتحل محلها أشكال جديدة؟ أم أنَّ تراجعها هو مؤشر تراجع الثقافة في مجتمعات العولمة؟
قد يكون من المفيد هُنا تقديم مقارنة سريعة بين هذا التقرير ووثيقة "إستراتيجية البنك الدولي للتعليم في أفق 2020". فلئن اتفق الطرفان على تثمين الإنجازات الكمية الكبرى والتنبيه إلى حجم التحديات المقبلة، فإنهما قد قدما قراءتين مختلفتين لقضية التعليم. فوثيقة البنك الدولي تبدأ منذ عباراتها الاولى بتحديد الهدف المنشود في تحسين التنافسية الاقتصادية للدول بإنشاء يد عاملة عالية الجودة وقادرة على التكيف مع متغيرات سوق العمل. ويعزو البنك الدولي ارتفاع معدلات البطالة بعجر الأنظمة التعليمية عن إعداد الشباب للحصول على الكفاءات المطلوبة في سوق العمل. ويحدد تدخلاته الإستراتيجية 2020 في توفير التدريب للجميع، وهو غير التعليم المدرسي وإن كان جزءا منه. فلقد تقلص عدد الأطفال المحرومين من التعليم وتراجع من 106 ملايين سنة 1999 إلى 68 مليونًا سنة 2008، واستفادت البلدان النامية من ذلك؛ إذ بلغت نسبة المتمدرسين (الأطفال الذين يذهبون إلى المدارس) 80 بالمائة، ونسبة الذين يواصلون تعليمهم الابتدائي إلى النهاية 60 بالمائة. لكن المطلوب بعد ذلك دعم كفاءاتهم التدريبية كي يصبحوا يدا عاملة ذات جودة وقدرة على التحول من صنف من العمل إلى آخر، حسب المتغيرات الاقتصادية والتكنولوجية المتسارعة. هكذا يطرح البنك الدولي القضية. ويوصي بأن يبدأ التعليم في فترة مبكرة، لا لشيء إلا لأن الدراسات الحديثة في علم النفس تثبت أن الطفل الذي يبدأ التعلم قبل سن السادسة يكون أكثر قدرة في المستقبل على الانتقال من أصناف مختلفة من الأعمال.
سيشعر القارئ وهو يطَّلع على تقرير اليونسكو أنه يرد بصفة غير مباشرة على بعض ما يرد في وثيقة البنك الدولي، وإن تقاطع معها في العديد من المسائل. فثمة لا شك منافسة ضمنية بين رؤيتين في التعليم، تتعارضان بين هاتين المؤسستين الدوليتين. بَيْد أن اليونسكو لا تعدو أن تكون قوة معنوية، ليس لها إمكانيات مالية للتدخل، بل تعاني هي نفسها منذ سنوات من صعوبات مالية في التسيير، دفعتها لتطبيق برامج تقشف قاسية. أما البنك الدولي فقد أنفق منذ سنة 1962 إلى اليوم حوالي 70 مليار دولار لدعم وإصلاح النظم التعليمية في العالم، وأشرف على إنجاز 1500 مشروع في مختلف الدول، وقد رصد عشرات المليارات لتطبيق خطته الإستراتيجية الممتدة إلى سنة 2020.
... إنَّ التذكير بهذه المعطيات يُسهم في الإجابة عن السؤال المتبادر إلى الذهن: أيُّ الرؤيتين ستكون الأكثر تأثيرا ففي المستقبل: الرؤية النفعية أم الرؤية الشاملة؟
------------------------
- الكتاب: "إعادة التفكير في التربية والتعليم".
- المؤلف: تقرير منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة.
- الناشر: اليونسكو 2015.
- اللغة: الفرنسية.
