راجعه: محمد الشيخ
كان الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت (1724-1804) قد جمع أشتات الأسئلة التي طرحها في فلسفته عام 1800 في أربعة أسئلة أساسية: "ما الذي يمكنني أن أعرفه؟" (سؤال المعرفة) و "ما الذي يمكنني أن أفعله؟" (سؤال الأخلاق) و "ما الذي يمكنني أن آمله؟" (سؤال الدين) وأخيرا "من هو الإنسان؟" (السؤال الجامع: سؤال الأنتربولوجيا). وبعد مضي أزيد من قرنين ونيف يعيد أشهر عالم لغة في عصرنا الأمريكي نعام تشومسكي (1928- ) ـ في خطوة تجاوب ودية مع "كنت" ـ إعادة طرح نظير لهذه الأسئلة بما أملاه عليه عصره واهتمامه. ما الذي تغير من الأسئلة؟ ما كان "كانت" مهتما بسؤال اللغة: "ما اللغة؟" لكن تشومسكي بدا أنه عمل بفكرة نيتشه القائلة: ثمة فارق بين من يعتبر اللغة مجرد أداة للتعبير (لا تهم في ذاتها) ومن يعدها غاية في ذاتها (المنتبه إلى ظاهرة "اللغة"). فلئن كان "كانت" قد اصطف إلى الفريق الأول، فإن تشومسكي يصطف إلى الفريق الثاني. وقد احتفظ سؤالا "المعرفة" و"الأخلاق" بمكانتهما، كما أن السؤال الجامع ـ من هو الإنسان؟ ـ لا زال السؤال الجوهري، حتى أن عنوان الكتاب استمد منه قوته: "أي نوع من المخلوقات نحن؟"
وهكذا أمست الأسئلة في كتاب تشومسكي الجديد (2016) منضودة على النحو التالي:
- ما اللغة؟
- ما الذي يمكننا أن نعرفه؟
- ما هي المصلحة المشتركة أو الخير المشترك؟
- إلى أي حد تعد أسرار الطبيعة أسرارا لا يمكن سبر أغوارها؟
يفتتح تشومسكي كتابه الجديد بالقول إن السؤال الذي يود أن يطرحه قديم قدم العالم نفسه: "أي نوع من المخلوقات نحن؟" وإذ يؤكد على أنه ما كان من السذاجة بحيث تصور له نفسه أن بمكنته الإجابة عن هذا السؤال ـ الذي يعد على الحقيقة سؤال الأسئلة ـ فإنه يعمل بالمبدأ: ما لا يدرك كله لا يترك جزؤه. ولا يخفي أن أنموذجه في الجواب هو ما أمست توفره علوم المعرفة في هذا الصدد. وهو يجد أن السؤال يتضمن الاستفسار حول أمور ثلاثة: "ما اللغة؟" و "ما هي حدود المعرفة البشرية إن وُجدت؟" و"أين تكمن المصلحة المشتركة التي ينبغي أن نصارع من أجلها؟"
ـ 1 ـ
ما اللغة؟
أول مفارقة يشير إليها في هذا الأمر أنه خلال ألفين وخمسمائة سنة الأخيرة كانت الدراسات الدائرة على "اللغة" "مكثفة ومثمرة"، لكن لا نزال نجهل لحد الآن ما اللغة حقيقة. وذلك على الرغم من أن الجواب عن هذا السؤال ـ ولو كان جوابا ضمنياـ هو أساس كل البحوث الأخرى في اللغة: اكتسابها، استعمالها، دورها الاجتماعي، أصلها، تطورها، تنوعها، خصائص الألسن المشتركة، نسقيتها ... وشأن صلة اللساني بأمر تعريف اللغة كشأن صلة عالم البيولوجيا بمسألة تعريف العين: لا يمكنه أن يصف العين من دون أن يقدم تعريفا ـ ولو متراخياـ لهذا العضو.
وأهم تعريف يسترعي اهتمام تشومسكي هو تعريف داروين للغة بوصفها "مقدرة غير متناهية على الربط بين الأفكار والأصوات الأشد تنوّعا". ويستغرب تشومسكي كيف أنّ هذه المقدرة غير المتناهية تكمن في دماغ متناه. وقد ظلّت هذه المقدرة تثير العجب إلى أن تمّ في القرن العشرين فهم مفهوم النسق المتناهي ذي القوة غير المتناهيّة، والتي هي عند تشومسكي ـ بلا منازع ـ سمة اللغة الجوهرية: ما من لسان إلا ويمنح للناطقين به جملة غير محدودة من التعبيرات بدءًا من عدد محدود من المكونات (من الحروف مثلا: حروف العربية 28 وتعابيرها لا تنقضي). ويستعرض تشومسكي محاولات كبار علماء اللسانيات في القرن العشرين ـ أنظار دوسوسير وبلومفيلد وويتني وسابير.. سبر أغوار هذه الخاصية، ويجد أنّها تظل "غامضة"، وهو الغموض الذي يلاحظ أنه لا يزال يبصم على علوم المعرفةـ التي تولت مهمة سبر أغوار الذهن البشري ـ ببصمته. ولهذا تراه يعود إلى القدماء أكثر من أوبته إلى المعاصرين. وللغرابة يعود إلى نصوص خفية لجاليلو جاليلي الذي لطالما تعجب من "علو كعب العقل البشري" الذي وجد "وسيلة لإيصال أفكاره الأكثر خفاء إلى أي إنسان كان.. وذلك بتوليفه بين حروف صغرى على رقعة ورقة"، كما يعود إلى ديكارت وتلامذته وهامبولت ومدرسته.
ولدهشتنا يقوم بنقد ذاتي وبنقد لاجتهادات علماء اللسان في عصره، عائدا إلى التصور التقليدي للغة لا بوسمها "أداة تواصل" كما يدعي المعاصرون، وكما قبلوا بذلك قبول "عقيدة"، وإنما بوصفها "أداة فكر" كما قال القدماء، معدلا من تعريف أرسطو للغة القائل بأنّها: "صوت ممنو بمعنى" إلى القول بأنها: "معنى ممنو بأصوات"، مؤكدا ضد المحدثين على أنّ اللسان نادرا ما "يخرج" إلى العبارة، إذ عادة ما يناجي الإنسان نفسه أكثر مما يحاور غيره. إنّما نحن نفكر أكثر مما نتكلم، وإنما أفكارنا أكثر من كلماتنا. بل تراه يقول: "إنّ التخمينات الأخيرة المتعلقة بتطور اللغة والتي تشدد على التواصل فارغة نخبة هواء". والذي يراه أنّ كل اللغة في جوف البيولوجيا: ثمة أساس بيولوجي لملكة اللغة، وما امتلاك الإنسان لها، على خلاف الحيوان، إلا أشبه شيء يكون بالمعجزة. وهنا يرد وهو القائل بوجود كليات لغوية مشتركة بين بني الإنسان ـ أساس النحو الكونيـ على خصومه (كواين، شورشلاند) الذين ادعوا إبطال مثل هذا النحو. إذ فعالية اللغة التوليفية أولى من فعاليتها التواصلية.
- 2
ما الذي يمكننا أن نعرفه؟
في هذا الفصل يوسع تشومسكي من اهتماماته لكي لا تظل مقصورة على ملكة اللغة وإنما لتشمل ملكة المعرفة ـ قدرات الإنسان المعرفية ـ بعامة. وقد اهتم على وجه الخصوص بأمر تأثير هذه القدرات على مجال "الميز" البشري وعلى حدوده. وهو ينطلق في اعتباره السؤال مما كان سماه الفيلسوف وعالم البيولوجيا الأمريكي أوين فلاناغان "النزعة الأسرارية الجديدة" التي هي عبارة عن موقف ما بعد حداثي يحاول أن يدق مسمارا في قلب النزعة العلموية، سليلة عصر الأنوار الذي راهن على قدرات الإنسان غير المتناهية على تفسير العالم، وذلك بتأكيد النزعة الأسرارية على أنّ الكثير من الأشياء تظل بمثابة أسرار لا يقدر العقل البشري على أن يهتك حجابها، ومنه على وجه الخصوص سر "الوعي".
ويرى تشومسكي أنّه عادة ما اتُّهم هو بدوره بالانتماء إلى هذا التيار، بل عادة ما اعتُبر أحد المسؤولين عن "هذه البدعة الغريبة ما بعد الحداثية" ـ القائلة بوجود أسرار يقف دونها العقل البشري حائرا. والذي يصر على أن يعتبره هو أنّ ثمة من جهة "المعرفة البشرية"، ومن جهة أخرى "الأسرار المختومة" التي تتجاوز طاقة الإنسان المعرفية. ويؤكد على أنّه "هكذا بُرينا". ولو كانت ثمة كائنات أخرى لطرحت مسائل معرفيّة أخرى. وذاك أمر مرتبط بموروثنا الجيني الذي كان يعبر عنه هيوم بنوازعنا الطبيعية.
والحال أن هذه النزعة القائلة بوجود أسرار تمتنع عن كشف العقل البشري لها بدأت مع فلسفة العالم الإنجليزي إسحاق نيوتن (1643-1727) ذات الميول الريبية، كما بدت في إشكال سبره لحقيقة الجاذبية المحيرة، وهي النزعة التي تبناها في ما بعد الفيلسوف الإسكتلندي ديفيد هيوم (1711- 1776)، وبعده بزمان الفيلسوف البريطاني برتراند راسل (1827-1970) والفيلسوف الأمريكي كلارونس إريفينغ لويس (1883-1964). ذلك أنّ راسل، مثلا، أقرّ بأنّه ليس بإمكان الإنسان أن يدرك "البنية السببيّة للعالم"، إذ ثمّة إدراكات لا تقع تحت قضاء العقل، معلنا: ألا إنّ للعقول حدودًا تقف عندها. وكان الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632-1704) قبله قد أعلن أننا لا بد أن نقر بعجزنا عن إدراك الكثير من الحقائق، وعلى رأسها صلة أجسامنا بنفوسنا.
واليوم استعيد هذا الخيط الارتيابي من جديد في تصور الصلة بين قدرات الإنسان الذهنية وقدراته الجسمانية من لدن علماء كبار. فهذا عالم البيولوجيا البريطاني الشهير فرانسيس كريك يعرض "فرضية مثيرة" مفادها أنّ ما أحوالنا الذهنية والوجدانية بشيء آخر عدا سلوكات عدد كبير من العصبونات والجزيئات المتصلة بها. وقد استنتج من هذا فلاسفة معاصرون، شأن الفيلسوف الأمريكي جون سورل (1932- ) والطبيب والعالم والفيلسوف الفرنسي بول شوشار (1912- 2003) أنّ هذا تصريح شديد الجرأة يعد الظواهر الذهنية ظواهر طبيعية سببها نشاط الدماغ العصبي الفيزيائي.
والذي يراه تشومسكي أنّ الأمر أولى أن ينطبق على دراسة "الوعي". ذلك أنّ العديد من الباحثين أمسوا يعتقدون أنّ الكثير مما نعي به لربما يكون انعكاسًا جزئيًا لعمليات ذهنية غير قابلة لكي نعرفها حق المعرفة، ولا تصل منها إلى الوعي إلا شذرات ضئيلة. ولهذه الحيثيات لا ينكر تشومسكي تبنيه لهذه النزعة الأسرارية القائلة بوجود أسرار وألغاز تبقى موصدة دون العقل البشري، لكنّه يضيف أنّه قد تكون استحالة معرفتها ناجمة لا بالضرورة عن أسباب معرفية صرفة وإنّما عن أسباب أخلاقية، شأن استحالة إجراء بعض التجارب على بني البشر. وهنا يعيدنا من جديد إلى هجيراه (موضوع حديثه المفضل) ـ اللسانيات ـ مذكرا إيّانا أنّه ليس يمكن معرفة أي شيء عن اللغة إذا استحال التجريب على الإنسان واكتفي بالتجريب على الحيوان، وذلك لأنّ الحيوان لا لغة له.
وبدل أن يرثي تشومسكي لحال الإنسان وقد قذف به في عالم مليء بالأسرار الموصدة دون فهمه، يرى أنه ينبغي أن "نصفق" لهذا الوضع، إذ لا فهم ولا إبداع من غير حدود توضع للعقل البشري، ولو هي كانت عقولنا غير محدودة، ما كان لقدراتنا أي مدى. بمعنى أنّ هذه الحدود هي التي تُمَكِّن ثراء المعرفة البشرية وعمقها.
- 3 –
- ما هو الخير المشترك؟
إلى حد الآن توقف تشومسكي على بعض الجوانب المعرفية للطبيعة البشرية، وتعلق فكره بالكائن البشري بحسبانه فردا. لكننا بطبيعة الحال كائنات اجتماعية، وطبيعة الكائن الذي نصير إليه رهينة بالسياق الاجتماعي والثقافي والمؤسسي الذي نحيا ضمنه. مما حمل تشومسكي على الانتباه إلى أشكال التنظيم الاجتماعي الكفيلة بالاعتراف بحقوق ورفاهية ورضا وتطلعات الناس المشروعة؛ وبالجملة الاهتمام بالخير المشترك أو بالمصلحة العامة. ويشكل كتاب الفيلسوف الإنجليزي جون ستورات مل (1806-1873) "في الحرية" منطلقه. ففي ترويسة هذا الكتاب يستشهد الفيلسوف بمبدأ كان وضعه المفكر الألماني فريدريش فان هامبولت (1767-1835): الأهمية الجوهريّة والمطلقة لازدهار بني البشر في تنوعهم الأغنى. والذي يستنتجه تشومسكي ـ سلبا ـ أنّ المؤسسات التي تعوق ازدهار بني البشر غير مشروعة إذا أظهرت أنّها عاجزة عن تعليل وجودها. هي ذي القناعة التي كانت متشاطرة بين العديد من فلاسفة الأنوار، وهي التي دفعت المفكر الاقتصادي الإنجليزي آدم شميث (1723-1790)، في ما بعد، إلى إدانة العمل الرتيب الذي يحول دون ازدهار شخصية العمال. وهكذا، فإن التعلق بالخير المشترك هو الذي عليه أن يحفز بني البشر على القضاء على العواقب المشؤومة الكارثية التي تمس النظام التربوي وشروط الشغل، وذلك بغاية منح الكائن البشري فرصا "لاستخدام ذكائه" وتطوير نفسه وإزهارها في كل تنوعه واختلافه.
والذي عند الرجل أنّ الذي ورث هذه النزعة الإنسيّة الكلاسيكيّة التنويرية الليبرالية إنّما هو "النزعة الفوضوية" ـ التي لا يخفي المؤلف تعاطفه معهاـ والتي تندرج عنده ضمن تيار أوسع يسميه "الاشتراكية التحررية" ـ من اليسار الماركسي المعادي للبلشفية إلى النزعة النقابية الفوضويةـ والجامع بين هذه النزوعات ذات الحدود الغائمة هو فضح البنية التراتبية للمجتمع وللسلطة وللهيمنة التي تعيق ازدهار الإنسان وإزهاره وتنميته لمقدراته، كما هو وضع تحد أمام هذه البنى: برري يا هذه وجودك، برهني على مشروعيتك! فإنّ من شأن البنيات غير القادرة على تسويغ وجودها أن يتم تفكيكها، وأن يعاد أنشاؤها نشأة جديدة.. هو ذا ما يهدي إلى فكرة الخير المشترك التي ينبغي أن يُسترشَد بها.. والتي شعارها: "لا متربب ولا متسيد"؛ أي نفي الاستعبادين الروحي والاجتماعي.
- 4
إلى أي حد تعد أسرار الطبيعة أسرارًا لا يمكن سبر أغوارها؟
وكأني بتشومسكي إذ يطرح هذا السؤال يكرر ما ذكره في السؤال الثاني. إذ ينطلق من نفس منطلقات الجواب الثاني: يورد ـ ضدا على الثورة العلمية التي حدثت في القرن السابع عشر والتي لعب فيها ديكارت أدوارا طلائعية مؤسسًا للفلسفة الميكانيكيةـ نيوتن والنزعة الأسرارية، هيوم وتبنيه للطرح النيوتوني الريبي اللاأدري، لوك وشكيته في إمكان معرفة كل شيء وترجيحه ـ ضدا على ديكارت أن تكون المادة حية وأن تكون تفكر، داروين وميله إلى الاعتقاد في أن يكون بمكنة الدماغ أن يفرز الفكر فرزا ... معيدا تذكيرنا مرة أخرى بأننا لا زلنا منشدهين أمام "سر الوعي" وأمام "لغز الإرادة"، ولا زلنا نخطو الخطو الأول في دراسة العمليات الذهنية العليا: الحساب، العمليات المنطقية، الفنون البصرية ... تماما مثلما كانت الجاذبية قد شكلت لغزا محيرا للمحدثين.
والخلاصة التي ينتهي إليها أنه لئن كنا نحن - معشر البشر - كائنات عضوية بيولوجية وليس ملائكة، فإنّ قسما كبيرا مما نبحث عن معرفته يمكن أن يكون يتجاوز حدودنا المعرفية. ولربما لم يكن لنا أي مدخل إلى أية معرفة حقة، كائنة ما كانت. لكنه يضيف: ويا للمفارقة المذهلة! ألا مرحبا بالحدود! إنما نحن نحيا بالحدود لا بالمديات الشاسعة. ومثلما هي الفئران عاجزة عن الانفلات من متاهة تقتضي فقط معرفتها بالأعداد الأولية، لربما كذلك نحن غير قادرين على الانفلات من حدود المعرفة البشرية، وكأننا في عنق زجاجة. كيف لا يكون الأمر كذلك والاستعمال التوليفي للغة، كما اكتشفه ديكارت، يبقى لغزا. عود على بدء.
أخيرا، أن تكون فكريَّ النزوع في تصور اللغة لا تواصليّهُ، وأن تكون أسراريُ الهوى في تصور المعرفة لا علمويه، وأن تكون اشتراكيا تحرريا في تصور الشأن العام لا رأسماليُه... هي ذي وصيّة تشومسكي الأخيرة.
تقويم نقدي
هذا كتاب لطيف صال فيه تشومسكي وجال. تميز بحس نقدي رفيع سواء تعلق الأمر بنقد الذات أم بنقد الغير. أشبه ما يكون بجولة في معارف الأمس واليوم، رغم ما لاحظنا عليه من تكرار الفصل الرابع لما ورد في الفصل الثاني. وعلى الرغم من عدم تكليف تشومسكي نفسه من الاطلاع على معارف الشعوب غير الغربية. هذا غيض من فيض:
كثيرة هي الأفكار التي يعزوها تشومسكي إلى مفكرين غربيين، وقد عجز ـ بسبب من تكوينه الغربي الصرف، وهو على أية حال غير ملام على ذلك، غير مستحضر بالمرة أن يكون مفكرون عرب مسلمون قد فكّروا فيها. إذ يعزو مثلا فكرة أنّ الحيوان لا لسان له إلى ديكارت، متناسيا أنّ إخوان الصفا سبق لهم أن خاضوا في الأمر خوضا عجيبا حيث قالوا: "اعلم أنّ الكلام الدال على المعاني مخصوص به عالم الإنسان، وهو النطق التام بأي حروف كتب. والحيوان لا يشرك الإنسان فيه من الجهات المنطقية والعبارات اللفظية، لكن من جهة الحركة الحيوانية والآلة الجسمانية، والحاجة فيها إلى ذلك. لأنك تجد كثيرا من الحيوانات تريد بأصواتها دفع المضار وجذب المنافع، تارة لأنفسها، وتارة لأولادها، مثل صياح البهائم إذا احتاجت إلى الأكل ومنعت منه، والى شرب الماء وذيدت عنه؛ ومثل استدعاء أولادها وما غاب عنها".
وفي ما يخص ما يعتبره الاكتشاف الأساسي لديكارت ولجاليلي في مجال كنه اللغة ـ الطابع التوليفي للغة ـ نرى أن إخوان الصفا سبق أن تنبهوا إلى أن كنه اللغة يكمن في أنّها من حروف معدودة تصنع تعابير غير معدودة. اصغ إليّهم يقولون: "إن حروف ا ب ت ث وهي حروف الجمل مشتملة على كل الأشياء، مطابقة للأعداد الموجودات في الأصل وما تتفرع منه، ويحدث عنها مما لا يُحصى".
-----------------------------------------------------------
عنوان الكتاب : أي نوع من الكائنات نحن؟
المؤلف : نعام تشومسكي
دار النشر : Columbia University Press
سنة النشر : 2016
عدد الصفحات : 200
