سعيد بوكرامي
علي بن مخلوف أستاذ الفلسفة في جامعة باريس شرق-كريتي، وعضو اللجنة الاستشارية الوطنية للأخلاقيات، مُتخصص في الفلسفة العربية والمنطق، ومُلتزم بالقضايا الاجتماعية، وهو مؤلف لعدد من الأعمال؛ منها: "الفارابي: بغداد في القرن العاشر" (عن دار النشر سوي، 2008)، وكتاب "عن مونتين" (2008)، و"الهوية: خرافة فلسفية" (2011).
يُقدِّم في كتابه الجديد الصادر في العام 2015 "لماذا قراءة الفلاسفة العرب؟"، بحثا وافيا عن أصول الفلسفة العربية؛ فهو لا يعتبره بحثا عن تاريخ الفكر الديني، وإنما على العكس تمامًا فهي اكتشاف ما يربط الفكر منذ بدايته حتى يومنا الحاضر؛ لأنَّ من خلال هؤلاء الفلاسفة العرب تعرَّف الغرب على الفلسفة انطلاقا من ترجمة مؤلفاتهم إلى اللاتينية (ابن سينا، ابن رشد، ابن باجة...وغيرهم). ثم مُرِّر تراثهم الفلسفي بطريقة مجهولة، ومن هنا يحاول الباحث علي بن مخلوف الكشف عن هوية هؤلاء الرواد؛ من خلال إعادة قراءة الفلاسفة العرب، مع الأخذ بعين الاعتبار القوة الحقيقية للفلاسفة الباحثين عن الحقيقة خلال العصور الوسطى، في الأراضي الإسلامية.. هذا الالتزام الفلسفي هو ما جعل الفكر المعاصر يزدهر بقوة. كما اعتبر الباحث قراءة هؤلاء الفلاسفة نهوضا بالوعي منذ جذوره. مذكرا بأنَّ النخب الفكرية التي انتسبت للعقل دفعت ثمنا غاليا مقابل ذلك، معلنا منذ الصفحات الأولى أن الفلسفة العربية احتكمت إلى منطق الأرسطي من بغداد وقرطبة.
يميلُ علي بن مخلوف إلى السماح للفلاسفة العرب أن يتحدثوا عن أنفسهم؛ وبالتالي يتجنب السياقات العامة، وإظهار ما تركوه باعتباره إرثا للفلسفة عامة. هم ليسوا ورثة فحسب، بل هم السؤال العقلي المتوالي للفكر الإنساني، فما ترجموه من التراث اليوناني، ولا يهم إن كانوا قد أحسنوا ترجمته أم لا. ولكن ما يهم هو الفكر الذي تفتق عن هذا اللقاء العربي اليوناني، وما نشأ عنه من استمرارية للسؤال الفكري الآخذ طريقه صوب المستقبل.
إذا كانت الفلسفة العربية قد اصطدمت بسلسلة من الأحكام المسبقة، فإنَّ من يتحمل المسؤولية إلى حد كبير هو أرنست رينان، الذي خلق بوضعيته تفسيرات خاطئة كانت لها عواقب وخيمة، فما قام به من تبخيس لمساهمات الفلاسفة العرب إلى مساءلات فلسفية؛ لهذا يستعيد علي بن مخلوف مساهمة الفلاسفة العرب المهمة في ضوء المنطق المعاصر، معتمدا على أعمال فريج أو فيتجنشتاين، على سبيل المثال، مُستعيدا أصول الفلسفة العربية التي ظلَّت منفتحة على الآخر ومراهنة على اللقاء الفكري، موضحا ذلك بما جاء به الفيلسوف ابن باجة في كتابه "رسالة الوداع"، الذي يُصنِّف اللقاءات بدءًا باللقاءات الفجائية إلى اللقاءات المتعاضدة، مرورا باللقاءات المرغوبة التي نعقدها مع الحيوانات. ثم هناك اللقاء الإلهي لتلقي أو إعطاء العلم وهو "أنبل من اللقاءات". لقاء مع مستقبل يتجاوز صرامة الإطار البشري.. فاللقاء هو إرث يصبح تراثا بدوره، وهذا اللقاء الذي فشل فيه أرنست رينان.
ومن بين هذه الأحكام المسبقة؛ أولا: هناك الاعتقاد الخاطئ لوضع العصر الوسيط في منطقة الظل، وهي أفكار لا تزال تقوض أعمالا جليلة.
الاعتقاد الخاطئ الآخر هو الاعتقاد بأنَّ الفلاسفة كانوا مُستقبلين سلبيين لنصوص أرسطو. لكنَّ اللقاء مع هذه الأعمال أدى لخلق فلسفة الشرح، وكانت شروحات أرسطو وسيلة لـ"تحفيز العقل"؛ بمعنى آخر كانت نصوص أرسطو حافزا لممارسة رياضة عقلية وفرصة للتفكير بين الفلاسفة العرب، وليس اختزالا لإرث بسيط. لقد ساهم هؤلاء في تطوير المنطق؛ لذلك لا يمكننا أن نتغاضى عن عمل الفارابي، الذي ساهم بتعليقاته عن جمهورية أفلاطون بتفعيل خطاب عقلي وحركة فكرية بين الفلاسفة العرب، جوهرها هو اللغة والمنطق كوسيلة لاكتشاف المشكلات الفلسفية. مثلا الطريقة البرهانية، التي اختاروها لفلسفتهم تعتبر المعارف الشرعية مكملة للمعارف العقلية، وبأن الوحي مُتمم للعقل.
إذا أدركنا تأثير القديس توما الأكويني على منطق فريج وغيره، "فماذا عن الفلاسفة العرب في العصر الوسيط مثل الفارابي وابن سينا وابن رشد، وجميعهم كتبوا عن المنطق الذي قرأه توما الأكويني بدقة متناهية؟" يقول علي بن مخلوف. وبالتالي فإن العلاقة بين الفلسفة العربية واللغة تبرر عنوان هذا الكتاب.
الفلسفة كُتبت بالعربية، ولكن إزالة مصطلح إسلامي هو رغبة في إظهار أن هذه الفلسفة لا تقتصر على القضايا الدينية. وهذه إجابة لكريستيا جامبي الذي لا ينظر إلى الفلسفة العربية إلا كونها فلسفة إسلامية. إذا، فإن الإسلام هو دين يسعى لأن يكون الشرط الأساسي لهذه الفلسفة. اللغة أيضا هي المواجهة منذ البداية مع غموض الكلمات، هذا الغموض ما يسعى علي بن مخلوف لإزالته بطريقة علمية.
ويحدِّد في الواقع -ووفقا للتقاليد- أنَّ الناس العاديين لا يحتاجون لأن نكشف لهم كل شيء لكي لا نفسد لهم إيمانهم، لكن ليس في المقابل هناك فلسفة دون توضيح الكلمات. الجذر (ILM) باللغة العربية، والتي تفضي إلى الإسلام تعني "المعرفة"؛ وبالتالي، فإن العلم والإيمان ليس لهما أسس صلبة. هذا أيضا حكم قيمة آخر وهو ربما الأكثر عنادا. وهو أيضا سبب آخر لعنوان الكتاب: "الفلاسفة العرب" وليس الإسلاميين، كي يتم تجنب الهوس الديني المثار حولهم. يحاول إذن علي بن مخلوف أن يصحِّح وجهات النظر هذه التي لا تحافظ على الأخطاء فقط، ولكن أيضا على الصراع والعنف أيضا. وبخصوص الحقيقة، فمرة أخرى هناك العديد من الالتباسات التي يسعى الفلاسفة العرب لتصحيحها. ولا مفر من المرور بثلاث طرق إذا ما قرأنا الكندي أو ابن رشد. الصورة في خدمة البلاغة والإقناع، لا يمكن الادعاء بأنها تصل إلى الحقيقة إذا وضعنا حدًّا للبرهان. قد تُصبح البلاغة مجرد سفسطة، أما إذا تمسكت بمبادئها فإنها تغدو مصدرا للحقيقة. كما سيكتب باسكال بعد بضعة قرون عن العقل الهندسي. فالبرهان هو واحد من دروب الحقيقة، ولكنه يعتمد على ما يتعذر إثباته؛ الأمر الذي يقلل من هيبتها. أما الطريق الثالث، فهو الجدال. وبالتالي هناك مسارات متعددة للوصول إلى الحقيقة، والصورة هي أبعد ما تكون عن الرفض تماما كصورة بلاغية، وهي واحدة من السبل الممكنة للوصول إلى الحقيقة.
بالنسبة لعلي بن مخلوف، القرن العشرون انحرف عن معنى الحقيقة عند الفلاسفة العرب. ليس هناك حقيقتا الإيمان والعقل فحسب، الحقيقة ليست جمعا. السبل المؤدية إليها متعددة. في العام 1277، أدان الأسقف بيير اتيان تومبيي أطروحة "الحقيقة المزدوجة" التي سينسب إليها الرشديون مثل سيجر برابانت. بالنسبة لابن رشد لا يمكن أن تكون هناك "حقيقة مزدوجة". وهو يدعم فرضية أن الحقيقة لا يمكن أن تتعارض مع أخرى. ما يهمه هو التوفيق بين القانون والفكر. من جانبه الفارابي عند تناوله مسألة العلاقة بين الدين والفلسفة، يتجنب العودة إلى التاريخ، أي لا يريد الرجوع إلى الوقائع، التي يندرج ضمنها هذا المفهوم. "تكمُن عبقرية الفارابي في معالجة هذه القضايا بمنهجية عبقرية" يقول علي بن مخلوف. ثم يضيف: "يعطي للصيغ "القطعية"؛ لتأكيد الأطروحات صيغا افتراضية أو افتراضية استنباطية التي تحلل الظروف اللازمة من الظروف الممكنة". وبالتالي فإن أسبقية الدين الذي ظهر في البلاد الإسلامية على الفلسفة اليونانية هي حقيقة عارضة. إذا كان البعض يستغل الفرصة لمعارضة الفلسفة بالدين، قائلا إنها تتعارض فيما بينها، فهذا الاعتقاد الخاطئ ما يجب أن نعترض عليه وليس الدين. لأن الدين يمنح لنا ليس كمجموعة من القواعد، ولكن كعلم للكونيات يحدِّد مكان الإنسان في العالم. كما أنه يمركز الإنسان ويؤسس أنثروبولوجيا تساعد السياسيين كي يبرروا مكان الإنسان في المدينة. وبالتالي فإن طريقة الفارابي تنطلق من الخطاب الديني لتصل إلى الخطاب البرهاني.
ويعترف علي بن مخلوف بأنَّ الفلسفة العربية وقعت في تفسيرات خاطئة، لكنها حملت في بعض الأحيان معنى جديدا. ومن الأمثلة على ذلك سوء الفهم المثمر لابن رشد في الشرح الوسيط على شعرية أرسطو، عندما خلط بين التراجيديا والكوميديا. "لكنه قرأ النص عن قرب، ووقع في تفسير خاطئ، قريب من المعنى، وضد المعنى" يقول علي بن مخلوف. "هذا الاستيعاب في حد ذاته يبيِّن كيف أن الشرح مبدع للفلسفة ولا يكتفي بمحاكاة "العصور القديمة" بخنوع. وقد دفعت ابن رشد إلى إنتاج فكر متكامل مبني أساسا على مسائل غاية في الأهمية، يُمكن اختزالها في ما يلي: مسألة شرح فلسفة أرسطو، مسألة فهم القرآن وتأويله، مسألة العلاقة بين الدين والفلسفة. هذا الممر الفكري خلق دينامية فكرية ممتدة ليس في الأندلس وحدها بل انتقلت مع حرص تلاميذ ابن رشد من العرب واليهود على نشر إشعاعه الفكري إلى أوروبا التي استفادت من الإرث الفلسفي الرشدي أكثر من أي منطقة عربية أخرى.
ويتأمل علي بن مخلوف في فصل آخر وضع الاستعارة، والذي يختم الفصل المخصص للبحث عن الحقيقة، يتناول فيه مسألة الصورة التي يعتبرها البعد الإبداعي للخيال. لا يمكن اختزال الصور الاستعارية في بعدها العاطفي، كما قال أرسطو. كما أن ابن رشد والفارابي جعلا الاستعارة "قياسا وشرطا خياليا"، وهذا ما وصفه فريجه بأنه "الخطاب المنحرف". في البداية يكون المجاز مفاجأة، ولكنه يندمج بكثرة استخدامه في المعنى واللغة. إن الصورة وببساطة تنتمي إلى الفكر واللغة العربية.
لماذا كتابة تاريخ هؤلاء الفلاسفة وهذه الخيارات السياسية؟ لأنه لا توجد غايات بريئة: القدر لم يكتب بعد. ما الذي يدعونا اليوم للحديث عن صدام الحضارات، إن لم يكن سوء النية أو التلاعبات بالقيم الدينية وتحريفها عن مقاصدها الشرعية؟ ويوجه علي بن مخلوف أصبع الاتهام إلى السلطة السياسية وتسوياتها للحالات الطارئة، وطغيان البراجماتية والأيديولوجيا على الفكر المستنير؛ مما يقضي إلى تكلس العلاقات وتشنجها.. هناك وفي كل مكان "المطالب نفسها بضرورة القبض على ما هو لا مرئي"، وهذا يؤدي إلى الضلال. ولكي نخرج من عالم التناقضات، لا مناص من الحوار.
وهذا سبب كبير يحتم علينا أن نتخلى عن الثناء على هذا الخطاب أو هذه اللغة ولوم أخرى ومحاولة تبخيسها وتحريفها، وإظهار الجانب الشوفيني فيها. لا بد من الاعتراف بأنَّ الفكر الإنساني ومنتجه الحضاري جميعهم يعود إلى مصدر وأصل واحد. إنه المشترك من الخيال الإنساني، كما شكلته الأحكام نفسها وللغايات عينها: هذا يعني أن المفاهيم والأفكار والصور والتأويلات هي من إنتاج العقل نفسه.
كتاب علي بن مخلوف مرآة فكرية لاستعادة الفلسفة العربية ومجدها التنويري وما لحقها من تحريف وتبخيس أساء كثيرا إلى الأصل، لكن التحريف جاء أساسا من الحضارة الغربية التي استفادت من الفلسفة العربية استفادة كبيرة، ثم أقصت إسهاماتها المشرقة وعدَّدت عيوبها وأخطاءها، وكأن الحقيقة الفلسفية ثابتة لا تتغير قيد أنملة.
--------------------
- الكتاب: لماذا قراءة الفلاسفة العرب؟
- المؤلف: د. علي بن مخلوف.
الناشر: ألبان ميشيل، 2015، باللغة الفرنسية.
