صعود الدولة الإسلاميَّة: «داعش» والثورة السُّنية الجديدة

غلاف كتاب صعود الدولة الإسلامية.jpg

فينان نبيل

"إن ما يجري على الأرض هو الحقيقة".. هكذا بدأ بارتريك كوكبرن كتابه الجديد "صعود الدولة الإسلامية"، الذي حاز شهرة واسعة في أوروبا وأمريكا الشمالية؛ بسبب الأهمية الكبرى التي بدأ الغرب يوليها لتنظيم "داعش" بعد ضبط الكثير من الخلايا التي تعمل على إلحاق الشباب الأوروبيين به، وتشجعيهم على القتال معه ومع تنظيمات جهادية أخرى، مثل جبهة "النصرة" في سوريا.

بدأ المؤلف باستعراض كيف بدأ ظهور تنظيم "داعش" في العراق وسوريا "بلاد الشام" 2003، إبان الغزو الأمريكي وما لحقه من احتلال للعراق، والذي يعتبر امتدادا لتنظيم القاعدة، ونجح في جذب عدد كبير من الشباب العربي الذي تربي على كراهية الغرب، وحلم الخلافة الإسلامية منهم (أبو مصعب الزرقاوي). مستخدما وسائل الاتصالات الحديثة في استقطاب الجهاديين مع السيطرة على المعلومات من خلال تلك الشبكات. ووجد بيئة خصبة في العالم العربي، خاصة بعد ثورات "الربيع العربي". وانتشر بشكل فاق الخيال العالمي عندما استولى على الموصل "ثاني أكبر المدن عراقية في يونيو 2014؛ حيث هزمت ميليشياته الجيش العراقي، والذي بلغ قوامه 3500000 جندي، وكلف العراق 14.6 بليون دولار، والذي تبخرت قوته بلا أي مقاومة تُذكر أمام هذه القوة الصغيرة. ورغم زيادة القوات الأمريكية في العراق في تلك الفترة، إلا أنها تجاهلت تلك الميليشيات، كما تجاهلتهم الحكومة العراقية. إنَّ سقوط الموصل يعد بمثابة نقطة تحول في تاريخ سوريا والعراق والشرق الأوسط.

وفي ظل الانتشار الوبائي لـ"داعش"، تزايدت قائمة أعدائها الذين جمعهم الخوف المشترك من الأصوليين رغم تنافسهم منذ فترة طويلة (أمريكا-إيران)، لشعورهم بأن "داعش" تشكل تهديدا على الحالة السياسية الراهنة في الشرق الأوسط.

ويُرجع كوكبورن أسباب نجاح ذلك التنظيم في التوغل في العراق وسوريا إلى أمور رئيسة؛ أولها: غياب الدولة الوطنية في العراق؛ فقد عانى السنة من الاغتراب في ظل الحكم الشيعي في بغداد، نتيجة الحكم الطائفي الذي يتحمل جزءا كبيرا منه الرئيس العراقي السابق نوري المالكي، الذي لعب دورا رئيسا في دفع المجتمع السُّني لأحضان "داعش"؛ مما جعل الدواعش يمكنون لأنفسهم في المناطق السنية، إضافة للفساد الذي انتشر على كافة المستويات. يقول كوكبيرن: "إنه في (الجيش العراقي) قد اشترى القادة مناصبهم، وزاد الأغنياء نفوذهم بالرشاوى والاختلاسات، ومع عودة الجهاديين تم دفن السياسة العلمانية والديمقراطية التي كان من المفترض أن تتصدر ثورات الربيع العربي". ثانيها: الثورة السنية في سوريا، التي نتجت عن تهميش السنة في سوريا، فقد استغلت "داعش" الوضع المتأزم وأحكمت قبضتها على شمال وغرب العراق خلال أسبوعين، ومع نهاية الشهر أعلنت الدولة الجديدة تأسيسها للخلافة في عُمق العراق وسوريا في (100 يوم فقط). بدأ العراقيون والسوريون يخشون من مستقبل مليء بالعنف، إذ لم تعد الموصل منطقة آمنة؛ فتنظيم "داعش" يحافظ على وجوده في المدن السنية بقوة، فتضاعفت أسعار الأسلحة والذخيرة ثلاث مرات، وأصبح الجميع يحملون السلاح، وانزلق العراق نحو حافة هاوية مذابح طائفية قد تضاهي تلك التي حدثت أثناء الحرب الأهلية بين السنة والشيعة, ولم تفلح الضربات الجوية الأمريكية في القضاء أو السيطرة على "داعش"، ولكنها أجبرت المقاتلين على التخلي عن الحرب التقليدية، واللجوء لحرب العصابات. ثالثها: دور الغرب -خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية، وحلف شمالي الأطلسي- الذي وضع شروط النجاح لهذه المنظمة الخطيرة في منطقة قابلة للانفجار بتأجيج الحرب في سوريا، ومغازلته للشيعة في العراق وإيران. يُشير الكاتب إلى التعاون الفعال بين الأمريكان والإيرانيين الذين يختلفون ويتصارعون فوق الطاولة، ويتصافحون تحتها -على حد تعبيره- خاصة فيما يتعلق بالشأن العراقي. كما يشير إلى أن تحرك الغرب لمواجهة "داعش" كان مُتأخرا بعد فوات الأوان. مما يعكس الضعف السياسي لقوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة، على الرغم من مئات الملايين من الدولارات، وعشرات الآلاف من الأطنان من الأسلحة التي ضختها دول الخليج (المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين)، فقد فشلوا في إيقاف زحف "داعش"، كما يركز على دور الغرب وسياساته الخاطئة في تناول هذه الأزمات، فيقول: إن تنظيم الدولة والجهاديين في سوريا والعراق استغلوا أخطاء حروب الغرب في أفغانستان والعراق وليبيا من قبل، إضافة إلى التقديرات الخاطئة فيما يتعلق بسوريا وثورات "الربيع العربي"؛ مما أدى لإحراز الجهاديين انتصارات كبيرة تُوِّجت بإنشاء "دولة خلافة" تشمل معظم العراق وسوريا، هذا التقدم كان بمثابة صدمة للعديد من دول الغرب من السياسيين والمتخصصين المراقبين؛ فما حدث فاق كل تصور، ولم يكن سهلا تغطيته إعلاميا لما كان يتعرض له الصحفيون من خطر حال محاولتهم الانتقال إلى موقع عمليات "داعش"؛ لوجود خطر بالغ واحتمال اختطافهم أو قتلهم.
ضعفت قوة أمريكا في الشرق الأوسط في 2011 عنها في 2003 بسبب إخفاق جيشها في العراق وأفغانستان، باعتراف أوباما بأنَّ التجمعات التي تماثل القاعدة أصبحت أقوى مما كانت عليه في السابق، وأن الاتفاق معهم سيكون تكرارا لأخطاء الماضي، مُدركا أنه يحتاج لشريك آخر ليحارب الإرهاب بجانبه، وكان هذا الحليف هو السعودية وقطر، اللتان أصبحتا مُهددتين بالإرهاب، وقد ساهمتا في تمويله في أول الأمر.

ويُحمِّل الكاتب المملكة العربية السعودية المسؤولية في نشر الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة؛ حيث كانت تنفق الأموال لنشر الفكر الوهابي غير المتسامح مع الآخر -على حد تعبيره- لإنشاء المساجد وتدريب الدعاة؛ فتولدت جماعات متشددة تجمع بين التطرف الديني والقوة العسكرية، واستفحل أمرها حتى أصبحوا غير قادرين على كبح جماحه.

ويرى كوكبيرن أن "داعش" وغيرها من الجماعات لا تشكل تهديدا على العراق وسوريا وجيرانهم فحسب، بل سيمتد أثرها إلى 1.6 بليون مسلم، بمن فيهم من هم في الغرب. أي أكثر من ربع سكان الأرض سيتأثر بشكل متزايد، وإن لم يكن تأثيرا مباشرا؛ حيث ينظر هؤلاء للمسلمين من المذاهب الأخرى على أن إسلامهم غير صحيح، وأحيانا يتساوون لديهم مع غير المسلمين. ومن بين أهم الأفكار التي يركز عليها المؤلف أنَّ التطورات الحادثة في الوقت الراهن بالشرق الأوسط لن تبقى أسيرة الحيز الجيوسياسي الحالي لها الذي يشهد مواجهات دموية شرسة، ومن المؤكد أن رقعتها سوف تتوسع لتشمل أنحاء متعددة من العالم، وهو ما أثبتته بعض الحوادث الأمنية التي شهدتها فرنسا وبلجيكا وأستراليا وبريطانيا في الأشهر الأخيرة.

"داعش" تهدف للاستيلاء على الأرض والتأسيس لدولة إسلامية باقية وممتدة، وقد أحرزتْ نجاحا في هذه المهمة. ليس فقط من استلاب الأراضي من معارضيها، بل أيضا بتعزيز ذلك بالسماح بهجرة الأجانب المسلمين إلى أراضيها لدعم كيانها السياسي. ويذكر الكاتب إعلان زعيم "داعش" أبو بكر البغدادي بعد استيلائه على الموصل: "أنها دولة للعرب وغير العرب. الأبيض والأسود، الشرقيين والغربيين، الجميع أخوة، سوريا ليست للسوريين والعراق ليست للعراقيين.. الأرض أرض الله"، كما أعلن أنَّ هدف "داعش" هو اتفاقية سايكس بيكو.. قائلا: "إن هذا الزحف المبارك لن يتوقف إلى حين وضع المسمار الأخير في نعش مؤامرة سايكس بيكو"، وقد يكون انهيار اتفاقية (نظام) سايكس بيكو هو فكرة تحررية لشعوب كثيرة في الشرق الأوسط. وأوضح كوكبورن أنَّ حركة "داعش" تهدف أيضا لتقسيم العراق إلى أقاليم (دول) عرقية (إثنية) أو طائفية، أصبحت العراق قاب قوسين أو أدنى من التفكك إلى مجتمعات متعددة (سنة وشيعة وأكراد وعلويين ومسيحيين). "داعش" تحاول فرض مفهومها عن الإسلام بالقوة، وتستهدف بالقتل والتشريد من تصنفهم معارضين لها أو مشركين، أو بعبارة أوضح كل من هم ضد قواعدها. إنها تتبنى الأعمال الانتحارية والتفجيرات كميزة مؤثرة لقوتها العسكرية. لم يشهد العالم شيئا مشابها لعنفهم وإرهابهم لمعارضيهم منذ "الخمير الحمر" في كمبوديا.

ولعل الرسالة الأهم التي أكدها كوكبيرن في كتابه هي فشل الجهود الغربية والدولية التي تقودها الولايات المتحدة في محاربة تنظيم الدولة "داعش" والقاعدة، وما نحا نحوهما من تنظيمات جهادية؛ إذ يتشارك الجهاديون العائدون بالسلاح الأمريكي المرسل إلى القوى "المعتدلة" التي تحارب النظام السوري. وفي هذا السياق، فإنه يشكك في "جدية" التحالفات الغربية مع بعض دول المنطقة، كما يؤكد -من جانب آخر- أنَّ أجهزة الاستخبارات الغربية متورطة بدورها فيما تشهده المنطقة و"على كل المستويات"، ولكن "يبدو أنها كانت تجهل الكثير مما كان يحدث حقا وما ستؤول إليه الأمور لاحقا.

أنْهَى المؤلف كتابه بعبارة تحذيرية أن "الدولة" التي أنشئت أصبحت حقيقة واقعة: "تنظيم داعش لديه الكثير من الأعداء، قادرون على قهره على المدى الطويل، ولكنهم يتبنون مواقف وأجندات مختلفة. مما يعني أن الدولة الإسلامية تتحول بسرعة لحقيقة جغرافية وسياسية قائمة على الخريطة".

ورغم أهمية الكتاب، إلا أنَّ هناك بعض أوجه النقد التي يُمكن توجيهها للكاتب؛ منها أنه في شرح الوضع الذي قاد إلى تمدُّد تنظيم الدولة، مال إلى اختزال المشهد الثوري في سوريا ببُعد طائفي، بينما الثورة السورية هي ثورة شعبية، وهو ما يمكن أن يرسل رسائل خاطئة إلى العقل الغربي -الذي وجه كوكبيرن الكتاب له- وهو يطالع الأحداث الراهنة في الشرق الأوسط، فهو يرى أن "التغطية الإعلامية المنحازة لثورات الربيع العربي"، ومبالغة بعض القوى المنتمية إلى الثورات العربية فيما تنسبه إلى خصومها، مثل تنظيم الدولة؛ إذ ترى الكثير من القوى الثورية أن "داعش" عطلت الإطاحة بالنظام السوري، وألقت ظلالا كئيبة على ثورات الربيع العربي. وقد يرى البعض في هذا تبريرا للدموية التي يتصف بها الداعشيون.

كان على الكاتب أن يكون أكثر عُمقا في تأصيل تلك "الظاهرة"، والبحث عمَّن يُساعدها بالمال والسلاح والتنظيم والخطط والعمليات، كما كان عليه أن يتعمَّق بمعرفة الظروف الداخلية في المجتمع العراقي، خصوصا الموصل التي لم تكن شبيهة بأحوال بغداد؛ فقد كانت الموصل مُؤهلة للاستقطاب من "داعش"، بعد أن بقي المجتمع واقعا تحت سطوتها سرًّا على مدى عشر سنوات، قبل احتلال الموصل في العاشر من يونيو 2014. وكان حريًّا بالمؤلف أن يُفسر الدور الخارجي -خصوصا الأمريكي- في فتح الحدود أمام زحف هذا التنين لإشعال المنطقة.

هذا الكتاب رصدٌ آنيٌّ لحركة سياسية متسارعة، ورغم محاولة كوكبورن أن يتجاوز الوصف للوصول إلى عُمق التاريخ وفهم العوامل التي أدت لتصاعد "داعش" وأيديولوجيته المتطرفة، إلا أن الموضوعية التاريخية لم تتحقق كما ينبغي؛ إذ كان لابد أن يغوص لأبعد من 200 عام، كما يُأخذ عليه أنه عجز عن الإجابة عن عدد من التساؤلات عن أسرار ما حدث في الموصل وصمت الغرب على ضياع الأمن، وتدمير المعالم الحضارية العريقة في الموصل، واستئصال المسيحيين من الموصل، والتنكيل باليزيديين ومن يتحمل مسؤولية ذلك، ووصفه للأمور وكأنها حالات طبيعية تحدث في المنطقة دومًا، وتعامل مع صعود "داعش" كتحصيل حاصل.

ومن أوجه ضعف الكتاب: عدم وجود حواشي أو مراجع، هذا يعني أن كثيرا من الحقائق المذكورة في الكتاب لا يمكن التحقق منها (إثباتها)من كتب أخرى، ولا يُقلل هذا النقد من شأن الكتاب، ولا ينفي أن كوكبرن في تحليلاته لصعود الدولة الإسلامية كان حياديًّا، وهو شاهد على المذابح وحالات الاستئصال الطائفي المقيت، خصوصا في العراق وسوريا.

نبذة عن المؤلف

باتريك كوكبرن، ولد في 1950، صحفي أيرلندي كان مراسل الشرق الأوسط لصحيفة "فاينانشيال تايمز" منذ عام 1991، ثم الإندبندنت.. عمل مُراسلا في كل من موسكو وواشنطن. كتب ثلاثة كتب عن تاريخ العراق الحديث، وحصل على جائزة مارتا جيلهورن عام 2005، وجائزة جيمس كاميرون عام 2006، وجائزة أورويل للصحافة عام 2009، وجائزة الصحافة الدولية عام 2010...وغيرها من جوائز الصحافة البريطانية 2014.

--------------------------

- الكتاب: "صعود الدولة الإسلامية: "داعش" والثورة السُّنية الجديدة".

- المؤلف: باتريك كوكبرن.

- الناشر: (Verso Books)، 2015.

- عدد الصفحات: 192 صفحة.

أخبار ذات صلة